سوريا اليوم تمثل أزمة وفرصة، وعلى العراق اما الاستسلام الى الازمة فيحترق بنيرانها، او انتهاز الفرصة واستثمارها في تحقيق الامن والسلام والاستقرار والتقدم للبلدين لجيل اليوم والاجيال القادمة
يُعد سقوط بشار الأسد في الثامن من كانون الأول حدثا مزلزلا خُتم به العام 2024؛ بسبب المباغتة والسرعة التي جرى فيها، ولذا وصف هذا الحدث بـ " الزلزال السوري".
وحدثا بهذا الحجم لابد ان تكون له ارتدادات مهمة على سياسات المنطقة والعالم؛ لما أحدثه من تغييرات هائلة في التوازنات السياسية ومعادلات القوة السائدة، ولذا لا غرابة في رؤية جميع الدول منشغلة بترتيبات اليوم التالي، على الرغم من عدم توفر اليقين والوضوح لما يمكن ان تكون عليه صورة هذا اليوم، على مستوى الداخل السوري وخارجه.
وبالنسبة للعراق سيكون هذا البلد من اكثر البلدان تأثرا بما حدث او ما سيحدث؛ بسبب طول حدوده المشتركة مع سوريا والتي تزيد عن 600 كم، ووجود مشاكل متداخلة بين البلدين، مثل: ازمة الأقليات، ازمة الإرهاب، تقاطع المصالح الإقليمية والدولية، هشاشة نظام الحكم... فضلا على تحول العراق بعد سقوط الأسد الى ساحة مواجهة ساخنة لمحور المقاومة (إيران وأذرعها) والمحور الاوراسي (إيران، روسيا، الصين، كوريا الشمالية) في الصراع مع المحور الغربي (الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهما)، وليس امام العراق سوى واحدا من ثلاثة خيارات للتعامل مع سوريا ما بعد الأسد، هي: الانكفاء، والعداء، والتدخل الإيجابي الفاعل.
ان سياسة الانكفاء وعدم المبالاة بما يحصل في سوريا تعد سياسة خاطئة للغاية؛ فعدم الاهتمام بالشأن السوري يعني تخلي العراق عن الاهتمام بمجاله الحيوي القريب، وترك بقية اللاعبين الإقليميين والدوليين يقررون جدول الاعمال بما يتناسب مع مصالحهم واولوياتهم بدون مراعاة المصالح والاولويات العراقية، بل وربما على حسابها.
اما سياسة العداء للنظام الجديد في دمشق فلا تقل ضررا عن سياسة الانكفاء؛ فليس من مصلحة العراق اثارة الصراع والعداء مع أي دولة من دول الجوار، ولا سيما سوريا، لأن بغداد جربت هذه السياسة سابقا وجرت عليها عواقب وخيمة لا زالت تعاني من اثارها السلبية.
وعليه، ليس امام العراق سوى اتباع سياسة التدخل الإيجابي الفاعل والقائمة على لعب دور مؤثر في احتواء نظام دمشق الجديد، والعمل على مساعدته في بناء دولته في إطار عملية سياسية شاملة تشترك فيها جميع الأطراف السورية لتنتهي بوضع دستور وطني، تتشكل على ضوئه مؤسسات دستورية قوية، فضلا على مساعدته في رفع العقوبات الاقتصادية، ومواجهة الازمات الشائكة، وحث القيادات الجديدة على تبني نهج الاعتدال السياسي، ومواجهة التطرف والإرهاب، ورفض سياسة الاقصاء والتهميش لأي طرف، واحترام حقوق وحريات جميع السوريين.
وكما اتفق وزيرا خارجية العراق وسوريا في الاتصال الهاتفي الذي جرى بينهما في الثلاثين من كانون الأول الماضي على " أن استقرار وأمن البلدين مترابطين... وأن أمن وسلامة العراق يشكلان جزء لا يتجزأ من أمن وسلامة سوريا"، فان هذا الفهم المهم والدقيق يتطلب ترسيخا في المسار القادم للعلاقة بين البلدين؛ فسوريا في اليوم التالي ستواجه واحدا من ثلاثة سيناريوهات لا غير هي: سيناريو الحرب الأهلية، وسيناريو إقامة امارة إسلامية متطرفة، وسيناريو تشكيل حكومة شاملة يحكمها القانون والمؤسسات.
ان سيناريو الحرب الاهلية سيكون أسوأ كوابيس العراق في حال حصوله؛ لأنه سيعرضه الى مخاطر كارثية، منها: مواجهة أزمة نزوح سوري كبير لا تقوى بغداد على التعامل معها، كما ان ضعف السيطرة على الحدود المشتركة من الجانب السوري سيرهق الأجهزة الأمنية والعسكرية العراقية عند محاولة تأمينها، إضافة الى خروج محتمل لمراكز اعتقال الإرهابيين في سوريا كمخيم الهول عن السيطرة وتدفق افرادها -فكرا واشخاصا- الى العراق مهددا الأمن العام للبلد، فضلا على ان استفحال أزمة الأقليات في سوريا سينقلها حتما الى الداخل العراقي ولا سيما المسألة الكُردية، ناهيك عن زيادة تدخل القوى الإقليمية والدولية في الشأنين الداخليين السوري والعراقي، وتشظي القوى السياسية، وتخلخل تماسك النسيج الاجتماعي العراقي... ولن تقف مخاطر هذا السيناريو عند هذا الحد، لكنها في النهاية ستنهك الدولة والمجتمع في العراق، وتدخلهما في نفق مظلم مجهول العواقب.
اما سيناريو إقامة امارة إسلامية متطرفة فلا يقل ضرره عن السيناريو السابق؛ فهكذا سيناريو سيعني وجود جار سيء معادي للعراق يحاول ان يصدر اليه منهجه في الفكر والحكم من خلال جملة من السياسات العدائية التي ربما تصل الى حد اعلان الحرب، واثارة النعرات القومية والطائفية، وغيرها. وعلى الرغم من ان حظوظ هذا السيناريو قليلة؛ بسبب الرفض الإقليمي والدولي له، الا أن استبعاده بالكامل لا يعد امرا صحيحا.
وبناء على ما تقدم، فان سيناريو تشكيل حكومة سورية شاملة يحكمها القانون والمؤسسات سيكون افضل السيناريوهات الثلاث؛ لأنه سيضمن وجود حكومة سورية فاعلة تتبادل المصالح الاقتصادية مع العراق، وتعمل معه على تنظيم قضايا الامن والاستقرار، والضبط المشترك للحدود، فضلا على ايجاد الفرص المناسبة لمعالجة قضايا الأقليات، والحد من عصابات الإرهاب والجريمة المنظمة، وتهريب السلاح والمخدرات، وتوفير فرصا مثالية لوصول العراق الى البحر المتوسط عبر المشاريع المشتركة، كما سيساعد التقارب بين حكومة دمشق القادمة وتركيا في انجاز مشروع بغداد الاستراتيجي، أي طريق التنمية الذي تلتقي فيه مصالح العراق وتركيا وقطر والامارات، وسيعني إضافة دمشق اليه زيادة فرص نجاحه.
بعبارة موجزة: سوريا اليوم تمثل أزمة وفرصة، وعلى العراق اما الاستسلام الى الازمة فيحترق بنيرانها، او انتهاز الفرصة واستثمارها في تحقيق الامن والسلام والاستقرار والتقدم للبلدين لجيل اليوم والاجيال القادمة.
اضافةتعليق