لم يكن قرار خفض قيمة الدينار مناسبا من حيث التوقيت او المقدار، فقد تم اضافة صدمة نقدية الى الصدمات الاقتصادية والصحية التي كانت تعصف بالطبقات الفقيرة والهشة منذ اواخر العام 2019 بسبب التظاهرات وجمود النشاط الاقتصادي
دفعت الضغوط المالية التي تعرض لها الاقتصاد الوطني عام 2020 البنك المركزي العراقي الى رفع سعر صرف الدولار الامريكي مقابل الدينار من (1182=1$) الى (1450=1$) في 19 كانون الاول 2020. فقد اسفرت جائحة كورونا عن هبوط حاد في الايرادات النفطية بسبب انهيار اسعار النفط الى دون (20) دولار للبرميل في نيسان من العام الماضي، وما خلفه ذلك من تراجع في الايرادات النفطية من قرابة (6) مليار دولار شهر كانون الثاني الى اقل من (1.5) مليار دولار في نيسان وبنسبة تفوق (75%). ونتيجة النفقات الشاهقة للحكومة العراقية اتسع العجز المالي الحكومي واضطرت وزارة المالية إلى الاقتراض من المصارف التجارية وإعادة خصم القروض لدى البنك المركزي، لغرض دفع الرواتب وتمويل النفقات الضرورية الأخرى.
ومع نهاية إعداد موازنة 2021، ونظرا لاستمرار الضغوط المالية وضعف افاق التعافي في اسواق النفط، مع قيود اضافية فرضت من اوبك لتقليص صادرات النفط العراقي بأكثر من مليون برميل يوميا، اضطرت وزارة المالية الى رفع سعر الصرف الى (1450) لتعظيم الايرادات الحكومية بالعملة المحلية وتقليص العجز المتوقع في موازنة 2021. وقد استجاب البنك المركزي لمتطلبات تمويل الموازنة بسعر الصرف الجديد الذي يتيح توفير جزء من الموارد المالية لتغطية نفقات الحكومة وضمان انسيابية دفع الرواتب والنفقات الضرورية الاخرى. بالإضافة الى رغبة البنك المركزي في الحفاظ على احتياطي البنك المركزي من العملات الاجنبية، والتي تمثل الرافعة المالية الأساسية للاستقرار النقدي في العراق. وبذلك كان الهدف من خفض قيمة العملة مزدوج وبدوافع مالية ونقدية: تتمثل الدوافع المالية في رغبة الحكومة تعظيم الايرادات النفطية بالدينار العراقي لتقليص حجم العجز المالي. اما الدوافع النقدية فتمثل رغبة البنك المركزي تقليص مبيعاته من الدولار الى الاسواق ورفع الاحتياطي الاجنبي وهو ما تحقق حاليا على حساب ارتفاع مستويات الاسعار في الاسواق.
مع ذلك لم يكن قرار خفض قيمة الدينار مناسبا من حيث التوقيت او المقدار، فقد تم اضافة صدمة نقدية الى الصدمات الاقتصادية والصحية التي كانت تعصف بالطبقات الفقيرة والهشة منذ اواخر العام 2019 بسبب التظاهرات وجمود النشاط الاقتصادي، خصوصا مع ضعف برامج الحماية الاجتماعية اللازمة لاستيعاب تأثير صدمة سعر الصرف على هذه الطبقات. وكان يمكن تدارك الوضع المالي بإجراءات بديلة منها ضبط الانفاق او تعظيم الايرادات غير النفطية وغيرها من السياسات التي تضمنتها اصلاحات الورقة البيضاء وخالفتها الموازنة الاتحادية لعام 2021 بصراحة ووضوح. ولم تكن مبررات وزارة المالية في رفع سعر الصرف مقنعة، ولم تناسب الارقام الواردة في الموازنة المأزق المالي الحرج الذي يمر به العراق ولا الوعود العريضة التي روجت لها الورقة البيضاء في الإصلاح المالي والاقتصادي. فقد قفزت النفقات الحكومية في مشروع الموازنة الاولي بشكل شاهق لا يناسب الموارد المالية المتاحة ولا اتجاهات الضبط والترشيد المزعومة في الورقة البيضاء. اذ بلغ اجمالي النفقات العامة (164) ترليون دينار مع اجمالي ايرادات قارب (93) ترليون دينار، تٌمثل الايرادات النفطية (73) ترليون دينار والايرادات غير النفطية (20) ترليون دينار. وبذلك يكون اجمالي العجز المخطط (71) ترليون، وهو ما يشكل نسبة (43%) من اجمالي النفقات المقدرة وبزيادة قدرها (158%) عن العجز المخطط لعام 2019.
كما ان الادعاء الحكومي بان خفض قيمة الدينار كان لأهداف تنموية هو ادعاء زائف على المستوى التطبيقي، على الاقل في الوقت الراهن، اذ ان الشروع بخفض قيمة الدينار لأسباب تنموية بحاجة لمقدمات كثيرة يعجز العراق عن تحقيق جزء يسير منها في الامد القصير والمتوسط.
لقد ولد رفع سعر صرف الدولار تكاليف اقتصادية واجتماعية متعددة اهمها فقدان الاستقرار النقدي والمضاربة على الدينار وضعف البيئة الحاضنة للاستثمار، فضلا على تراجع معدلات الطلب الكلي وتعميق الركود الاقتصادي القائم نتيجة تداعيات جائحة كورونا. كما ان ارتفاع سعر صرف الدولار في بلد كالعراق يعتمد على الاستيراد في تغذية الطلب المحلي على مختلف انواع السلع والخدمات قد ولد ضغوطا تضخمية خفضت الدخول الحقيقية للطبقات الوسطى والفقيرة، خصوصا مع ضعف الرقابة الحكومية على التجار والموردين لمختلف انواع السلع المستوردة الى الاسواق العراقية.
عودة الفجوة بين السعر الرسمي والسوقي
بعد اقدام البنك المركزي العراقي على رفع سعر صرف الدولار مقابل الدينار العراقي نهاية العام الماضي، تعهد البنك بعدم اجراء تغيير آخر في سعر الصرف والدفاع عن السعر الجديد عند المستويات المحددة بـ (1470=1$) من اجل تقليص الطلب على الدولار والحد من نشاط المصارف في بيع وشراء الدولار والاستفادة من الفرق بين السعر الرسمي والسوقي، كما كان الحال حين كان سعر الصرف الرسمي (1900=1$) في حين كانت الاسعار السوقية تتأرجح ما بين (1200-1250) للدولار الواحد وهو ما حقق ارباح فاحشة للمصارف المشاركة في نافذة العملة الاجنبية. مع ذلك، استمرت اسعار الصرف خلال الايام الماضية بالارتفاع وتجاوزت حاجز (1500=1$)، مما يعني عودة الفجوة بين السعر الرسمي والسوقي وما يترتب عليه من عودة لنشاط المصارف المشاركة في مزاد العملة والاستفادة من الدولار في انشطة المضاربة وجني الارباح بدل تمويل التجارة كما كان الحال سابقا. كما ان استمرار زحف سعر صرف الدولار صوب الارتفاع يولد توقعات تضخمية ويزيد من طلب الدولار على حساب الدينار مما يخل بالاستقرار النقدي ويزيد من تكاليف التغيير الاولي لسعر الصرف.
كل ذلك يحتم على البنك المركزي العراقي الوفاء بوعوده عبر سياسات اجرائية صارمة واغراق السوق بالدولار لأجل تحقيق تقارب مستدام بين السعر الرسمي والسعر السوقي وضمان الاستقرار النقدي والاقتصادي والحد من نشاط المصارف وشركات الصيرفة، غير المشروع، في اسواق الصرف المحلية. كما ينبغي على الحكومة العراقية تفعيل نص المادة (16/ رابعا) من قانون الموازنة الاتحادية 2021 والقاضية بجباية الرسوم الكمركية على اساس ما تم بيعه من عملة اجنبية من خلال نافذة العملة الاجنبية من اجل الحد من مبيعات الدولار لأغراض المضاربة وتقليص الطلب على الدولار والمحافظة على الاحتياطي الاجنبي من جهة، وتعظيم الايرادات الكمركية نتيجة ربط الرسوم الكمركية بمشتريات التجار من الدولار من جهة اخرى.
اضافةتعليق