هناك علاقة وثيقة بين المالية العامة والاقتصاد، بشكل عام، هي علاقة الجزء بالكل، لأنه في الوقت الذي تسعى المالية العامة لإشباع الحاجات العامة يسعى الاقتصاد لإشباع الحاجات البشرية الخاصة والعامة.
كما توجد علاقة وثيقة بين المالية العامة، التي تعني بالإيرادات العامة والنفقات العامة؛ والتحول الاقتصادي، الذي يعنى بالتحول النظام الاقتصادي من النظام الذي يدعم الدولة إلى النظام الذي يدعم القطاع الخاص.
عكسية العلاقة
في ضوء المنطق الاقتصادي، تكون العلاقة بين المالية العامة والتحول الاقتصادي هي علاقة عكسية، أي كلما تحقق التحول الاقتصادي بشكل سريع كلما انخفض حجم المالية العامة في الاقتصاد.
والعكس صحيح، كلما تأخر التحول الاقتصادي كلما تأخر تخفيض حجم المالية العامة مما يعني استمرار دورها كما هو، وذلك بحكم استمرار دور الدولة في الاقتصاد كما هو، وذلك لارتباط المالية العامة بشكل مباشر بدور الدولة في الاقتصاد، وهذا الأخير (دور الدولة) ينبع من فلسفة النظام الاقتصادي المُتَّبَع في البلد إن كان اشتراكياً أم رأسمالياً.
ارتباط المالية العامة بالنظام الاقتصادي
فإذا ما كان البلد يتبنى النظام الرأسمالي الذي يعتمد على القطاع الخاص كمحرك رئس في الاقتصاد واقتصار الدولة على مجالات محدودة، سيكون دور المالية العامة محدود أيضاً، وذلك لمحدودية دور الدولة في الاقتصاد والعكس صحيح.
أي إذا ما كان البلد يتبنى النظام الاشتراكي الذي يعتمد الدولة كمحرك رئيس في الاقتصاد واقتصار القطاع الخاص على مجالات محدودة، سيكون دور المالية العامة كبير جداً، وذلك لتوسع دور الدولة في الاقتصاد مما تطلب مزيد الأموال لتلبية متطلبات ذلك الدور، فيكون دور المالية العامة أكبر.
قبل 2003
وبحكم سيادة النظام الاشتراكي قبل عام 2003 وهيمنة الدولة على الاقتصاد بشكل كامل تقريباً بالتزامن مع محدودية دور القطاع الخاص، أصبحت المالية العامة تحتل مكانة مهمة في الاقتصاد العراقي.
ما شجع الدولة على إحكام سيطرتها على الاقتصاد هو الثروة النفطية وخصوصاً مع بداية عقد السبعينات وتحديداً بعد تأميم النفط 1972، حيث هيمن القطاع العام على كافة الأنشطة الاقتصادية وتم تحييد شبه كامل لدور القطاع الخاص وانحسرت أنشطته وخاصة التجارية منها عندما تولت وزارة التجارة مسؤولية تجارة المواد الغذائية والحبوب واحتكرت استيرادها وبذلك تراجع حجم العمل التجاري للقطاع الخاص بشكل ملحوظ في نهاية النصف الأول من عقد الثمانينات .
دلائل
حيث ارتفعت نسبة مساهمة القطاع العام في إجمالي تكوين رأس المال الثابت من 52% عام 1972 إلى 75% في عام 1973، واستمر هذا الارتفاع حتى 81% عام 2002 مع بعض التذبذبات من حيث الارتفاع والانخفاض التي تخللت هذه المدة ، لكنها بشكل عام لم تنخفض بشكل كبير مما يدلل على ضخامة دور الدولة وعلى إثرها المالية العامة.
بمعنى إن الدولة كانت هي التي تدير دفة الاقتصاد بشكل مركزي ومباشر، وما للقطاع الخاص إلا دور محدود باستثناء حالات الأزمات التي تجبر الدولة على فسح المجال أمام القطاع الخاص لتمشية الوضع الاقتصادي، مما يعني إن دور المالية العامة قبل عام 2003 كان كبيراً وذلك لارتباطها بدور الدولة الذي كان مركزياً ومباشراً بحكم سيادة النظام الاشتراكي في البلد.
بعد 2003
بعد سقوط النظام السياسي عام 2003 وتبني الديمقراطية كآلية للنظام السياسي، وبصرف النظر عن مدى نجاحها، فقد اتجه العراق نحو النظام الرأسمالية اقتصادياً.
إن التحول نحو النظام الرأسمالي يعني تقليص دور الدولة في الاقتصاد وعلى إثره سيتقلص دور المالية العامة بشكل تلقائي لأنه كما ذكرنا أعلاه، إن دور المالية العامة يرتبط بدور الدولة في الاقتصاد والذي يحدده النظام الاقتصادي السائد في البلد.
عدم وجود رؤية وخطة واضحة
ولكن على أرض الواقع إن المالية العامة لم تتقلص كما ينبغي، بل ازداد دورها في الاقتصاد، مما يعني هناك تناقض صارخ مع المنطق الاقتصادي القاضي بالعلاقة العكسية بين المالية العامة والتحول الاقتصادي.
حيث استمرت المالية العامة في التوسع وبالخصوص في جانب النفقات الاستهلاكية التي أخذت تتراوح بين 65% و75% من النفقات العامة، في حين جانب النفقات الاستثمارية تراوحت نسبها بين 35% و25% من النفقات العامة.
كذلك ارتفاع نسبة مساهمة القطاع العام في إجمالي تكوين رأس المال الثابت إلى 95% و98% في عام 2005و2006 على التوالي ، مما يعني تفاقم دور المالية العامة حتى مع إعلان التحول الاقتصادي بعد 2003، وهذا هو التناقض الصارخ مع المنطق الاقتصادي.
إن تفاقم دور المالية العامة مع انسحاب الدولة من الاقتصاد يعود لتعثر التحول الاقتصادي من الدولة إلى القطاع الخاص، وذلك لعدم وجود خطة ورؤية وخطة واضحة لمسألة التحول الاقتصادي.
ضعف مناخ الاستثمار وشيوع الفساد
حيث لم تعمل الدولة على بناء المناخ الاستثماري الجاذب للاستثمار الخاص الوطني والأجنبي، مما يعني استمرار نفور القطاع الخاص من الولوج للنشاط الاقتصادي. حيث احتل العراق المرتبة 171 من أصل 190 دولة في عام 2019.
إضافة إلى شيوع الفساد في أغلب مفاصلها- يحتل العراق المرتبة 168 من أصل 180 دولة في عام 2018 - والذي من شأنه زيادة تكاليف الإنتاج وانخفاض الأرباح، مما يعني تثبيط همّة القطاع الخاص من اللجوء للاستثمار في الاقتصاد العراقي، واستمرار حاجة الطلب دون إشباع نظراً لانسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي، مما يعني تدخل المالية العامة لإشباع جزء من هذا الطلب، وتضخم المالية العامة في نهاية المطاف.
إن انسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي من جانب ونفور القطاع الخاص من الولوج للنشاط الاقتصادي من جانب آخر، إضافة لشيوع الفساد في أغلب مفاصل الدولة من جانب ثالث، يعني تفاقم الوضع الاقتصادي سوءاَ، هذا ما حتّم على الدولة التوسع في المالية العامة وبالخصوص النفقات الاستهلاكية لتخفيف الوضع الاقتصادي المتفاقم سوءاً.
ما زاد الطين بِلّه، هو الدولة ذاتها، كونها انسحبت من النشاط الاقتصادي لكنها لم ترفع يدها عن عناصر الإنتاج التي من شأنها تعطي القطاع الخاص، من أفراد وشركات؛ دفعه نحو الأمام في النشاط الاقتصادي، ومن أبرز تلك العناصر هي الأرض حيث تملك الدولة أكثر من 80% منها والباقي مملوك من قبل الأهالي ويتكون الجزء الأعظم منه من الأراضي السكنية .
ما ساعد على تضخم المالية العامة وتعثر التحول الاقتصادي هو الإيرادات النفطية بالتزامن مع غياب الاستقرار السياسي وضعف المؤسسات، إذ لو كان الاستقرار السياسي متوفراً مع وجود مؤسسات قوية تعمل بكفاءة ومهنيّة عالية لاستطاع العراق تحقيق الانسجام بين التحول الاقتصادي والمالية العامة وعدم ظهور التناقض الصارخ بينهما وفق المنطق الاقتصادي.
الخلاصة
ولأجل تحقيق الانسجام بين المالية العامة والتحول الاقتصادي ينبغي العمل على الآتي:
أولاً: تقوية مؤسسات الدولة لتحقيق الاستقرار السياسي ومن ثم إجراء التحول الاقتصادي بشكل سليم وسلس.
ثانياً: محاربة الفساد ومكافحته، من خلال تفعيل عنصر الشفافية وتغليظ العقوبات بحق المفسدين.
ثالثاً: بناء مناخ استثماري جاذب للاستثمار الخاص الوطني فضلاً عن الأجنبي ليحل محل الدولة في سد الحاجة.
رابعاً: إطلاق حملة إعلامية واسعة بخصوص التحول الاقتصادي وتعريف المجتمع بأهميته وكيف سيكسب فوائده ليستقبله ويتفاعل معه.
هذه النقاط ستجعل القطاع الخاص يفي بحاجة الاقتصاد الوطني واقتصار مالية الدولة على الوظائف التقليدية وبعض المجالات التي تشجع القطاع الخاص على الاستمرار وبهذا تكون المالية العامة أكثر انسجاماً مع التحول الاقتصادي.
مصادر تم الاعتماد عليها
- جمهورية العراق، وزارة التخطيط، خطة التنمية الوطنية للسنوات 2010-2014، ص176.
- رحيم حسوني زيارة السلطاني، دور العوائد النفطية في تحقيق التنمية الاقتصادية في العراق للمدة(1950-2008) ص70-71.
- نفس المصدر، ص71.
- وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية، خارطة طريق المستثمر في العراق، 2009، ص60.