المشكلة لا تتعلق بندرة الموارد
إن المجتمع الذي يفتقد للوعي العام يعاني من غياب الاستقرار واستمرار التخلف حتى وإن كان يمتلك الكثير من الموارد! إذ إن المشكلة لا تتعلق بندرة الموارد فحسب بقدر ما تتعلق بالمجتمع ووعيه ومدى شعوره بالمسؤولية العامة تجاه تاريخ بلده وحاضره ومستقبله.
وبالمقابل إن المجتمع الذي يتمتع بوعٍ عالٍ وشعور كبير بالمسؤولية سيكون قادراً على تحقيق الاستقرار ومغادرة التخلف، حتى وإن كان البلد فقيراً للموارد، لان المشكلة الحقيقية، كما أسلفنا، هي مشكلة وعي وليست مشكلة موارد على الرغم من أهميتها في اقتصار الطريق نحو الهدف.
يتعلق الوعي الاقتصادي بمدى إدراك غالبية الأفراد لأهمية سلوكهم الاقتصادي وأثره على المستوى الخاص والمستوى العام والمستوى الخاص والعام في آن واحد، وحين ينمو هذا الإدراك باطّراد فإن استقرار الاقتصاد ونموه هو النتيجة الحتمية والعكس صحيح.
مؤشرات الوعي الاقتصادي
يمكن تشخيص الوعي الاقتصادي من خلال رؤية الأفراد للنظام السياسي، وكذلك رؤيتهم لدور الدولة في الاقتصاد-الحياد أم التدخل-ومدى أدرك أثر سلوكهم الاقتصادي ومدى تطبيقه على أرض الواقع.
رؤية الأفراد للنظام الاقتصادي
نظراً للترابط الوثيق بين السياسة والاقتصاد ولتأثير بعضهما في البعض الآخر، أصبحت رؤية الأفراد لنوع النظام السياسي وتفضيلهم له واختيارهم إيها، تشكل جزءاً من الوعي الاقتصادي، فالأفراد الذين يُفضّلون النظام الديمقراطي لديهم وعي اقتصادي أكبر من الذين يُفضّلون النظام الدكتاتوري، لأنهم يُدركون إن الاقتصاد ينمو ويتطور في ظل الديمقراطية لا الدكتاتورية التي تعمل على إقصاء الاقتصاد وتوظيفه لمصالحها والحزب الحاكم.
رؤية الأفراد للنظام الاقتصادي
إن رؤية الأفراد لدور الدولة في الاقتصاد يشكل جزءاً من الوعي الاقتصادي، فالأفراد الذين يفضّلون حياد الدولة في الاقتصاد يكون وعيهم الاقتصادي أكبر من الذين يُفضلون التدخل، لأنهم يُدركون إن الدولة تفشل في مسائل اقتصادية عديدة منها مسألة الكفاءة الاقتصادية، البطالة المقنعة، نوعية المنتجات وغيرها، إضافة إلى إن تطبيق نظام السوق(الرأسمالي) يجعل المجتمع أكثر حيويةً ونشاطاً من نظام الدولة(الاشتراكي) في الاقتصاد
وأما بالنسبة لمسألة إدراك الأفراد لأثر سلوكهم الاقتصادي، فيحتل أهمية قصوى في استقرار الاقتصاد ونموه، وكلما يرتفع مستوى الإدراك لدى غالبية الأفراد بأثر سلوكهم الاقتصادي من جانب، ويعملون على تطبيقه إن كان إيجابياً ورفض تطبيقه على ارض الواقع إن كان سلبياً، كلما ينعكس على الاقتصاد برمته بشكل إيجابي، فالإدراك الاقتصادي لدى غالبية الأفراد واتخاذ السلوك المناسب يدلل على ارتفاع الوعي الاقتصادي.
مثال اقتصادي
ولتوضيح مسألة الإدراك الاقتصادي لدى غالبية الأفراد ومدى اتخاذ السلوك المناسب، يمكن سوق المثال الآتي:
إن قيام غالبية الأفراد بشراء السلع والخدمات بشكل متزايد بشكل عام والسلع الكمالية بشكل خاص، فإن هذا العمل سيؤدي إلى توليد مزيد من الضغوط على الاقتصاد المحلي خصوصاً إذا ما كان هذا الاقتصاد يعاني من ضعف مرونة الجهاز الإنتاجي ويعتمد على العالم الخارجي، بشكل كبير، في تلبية الطلب المتزايد.
تتمثل تلك الضغوط في ارتفاع حجم التضخم(ارتفاع المستوى العام للأسعار) وذلك بحكم زيادة الطلب على السلع والخدمات بشكل عام والسلع الكمالية بشكل خاص، من جانب وعدم قدرة الجهاز الإنتاجي في زيادة الإنتاج استجابةً لذلك الطلب المتزايد من جانب آخر، على افتراض عدم وجود تجارة خارجية تعمل على تغطية نقص الإنتاج.
وبعيداً عن الافتراض، فالواقع يشير لأهمية التجارة الخارجية في أغلب اقتصادات العالم، في سد نقص الإنتاج المحلي وتغطية الطلب المتزايد من السلع والخدمات بشكل عام والسلع الكمالية بشكل خاص، وهنا تكمُن المشكلة.
نتائج غياب الوعي الاقتصادي
لان إشباع الطلب المتزايد من قبل غالبية الأفراد من العالم الخارجي من دون إدراك لأثر سلوكم هذا يعني نتيجتين:
الأولى، غياب التوازن الخارجي نتيجة لاختلال ميزان المدفوعات لصالح الاستيرادات على حساب الصادرات، مما يستدعي اتخاذ سياسات مُناسبة لعلاجه من خلال الاقتصاد الدولي.
والثانية، انخفاض قيمة العملة الوطنية تجاه العملة الأجنبية لان زيادة الطلب على منتجات العالم الخارجي التي لا يمكن استيرادها إلا بالعملة الأجنبية، يتطلب زيادة الطلب على العملة الأجنبية، مما يعني انخفاض قيمة العملة الوطنية مقابل ارتفاع قيمة العملة الأجنبية، ومن ثم انخفاض القوة الشرائية للعملة الوطنية وهذا ما يُشّكل عبئاً على رفاهية المواطنين.
دور الوعي الاقتصادي في الاستقرار الاقتصادي
والأمر مختلف تماماً لو كان غالبية الأفراد لديهم معرفة وإدراك عالي بمدى أهمية سلوكهم وكيف ينعكس على رفاهيتهم بشكل سلبي حين يقومون بزيادة الطلب على السلع والخدمات بشكل عام والسلع الكمالية بشكل خاص، فيتجنبون هذا السلوك الاقتصادي نتيجة لوعيهم بأثر سلوكهم على رفاهيتهم، وهذا ما يؤدي لتلافي أو على أقل تقدير التخفيف من حِدّة الآثار آنفة الذكر، مما يؤدي لتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
لان انخفاض الطلب يعني ارتفاع القوة الشرائية التي يحملها المواطنون في جيوبهم وبالتالي فهم يستطيعون أن يحافظوا على مستوى استهلاكهم كما كان قبل ارتفاع التضخم، فلا يتطلب الأمر منهم لمزيد من العمل من أجل الحصول على دخل أكبر لتعويض حجم الانخفاض السابق في قيمة عملتهم التي كانوا يحملونها في جيوبهم نتيجة للتضخم الذي حصل بسبب الطلب المتزايد نتيجة لانخفاض مستوى الإدراك لدى غالبية الأفراد بالأثر السلبي لزيادة الطلب على رفاهيتهم.
كما إن انخفاض الطلب يؤدي إلى تحقيق التوازن في ميزان المدفوعات أو على أقل تقدير يؤدي لتقليص حجم الاختلال، لان انخفاض الطلب يعني انخفاض حجم الاستيرادات، بما يحقق أو يقترب من التساوي مع الصادرات، مما يعني تحقيق التوازن ثم الاستقرار الاقتصادي أخيراً.
وبما إن الوعي الاقتصادي لدى غالبية الأفراد يلعب دوراً كبيراً في الاقتصاد، إذن ينبغي لجميع الدول التي تروم مغادرة عدم الاستقرار الاقتصادي، أن تعمل وبشكل جدّي في تثقيف المجتمع اقتصادياً من خلال حثّ المدارس والجامعات ومنظمات المجتمع المدني والإعلام وغيرها، وذلك من أجل زيادة الوعي الاقتصادي والذي ينعكس أخيراً على الاستقرار الاقتصادي.
خلاصة القول، إن الوعي الاجتماعي بشكل عام والوعي الاقتصادي بشكل خاص، يلعب دوراً كبيراً في تحقيق الاستقرار الاقتصادي من عدمه، وهذا ما ينعكس بشكل تلقائي على تقدُم البلد وتخلفه.