يتمتع الاقتصاد العراقي بإمكانات وفرص كبرى متاحة للاستثمار الخاص المحلي والاجنبي على حد سواء، الا ان مستويات الاستثمار انحسرت بشكل ملحوظ خلال السنوات الاخيرة بسبب جملة من العوامل التي تعيق تطور مناخ الاعمال وتبدد فرص التقدم والرفاه في البلد. في هذا السياق أجرى مركز المشروعات الدولية الخاصة في العراق ( ) (Private Sector Development Center in Iraq) ، مسوحات عدة على مجتمع رجال الأعمال في العراق، لمعرفة وجهة نظرهم إزاء مجموعة من الموضوعات المتعلقة بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية، والسياسة العامة ذات الصلة بالمرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد (التحول من الاقتصاد المخطط مركزيا إلى مناخ اقتصادي صديق للسوق). وقد نظم المركز عدد من المسوحات شملت أكثر من120 من قادة الأعمال في العراق، بهدف الوصول إلى تفهم أفضل للمشاكل التي تواجههم عند ممارسة أعمالهم داخل العراق، وشملت هذه المسوحات رجال أعمال من كافة أنحاء العراق، من أربيل وبابل وبغداد والبصرة وكركوك والنجف والسليمانية، إضافة إلى بعض أرباب الأعمال والمستثمرين المقيمين في الأردن. وقد تم تصنيف أبرز التحديات التي تعيق تطور القطاع الخاص ونمو استثماراته في البلد الى ثلاث شعب وكما يلي:
اولاً: -الحاجة إلى إصلاح قانوني وتنظيمي.
ركزت معظم مناقشات المجموعة المختارة من رجال الاعمال على حاجة البلد إلى إصلاح تشريعي وتنظيمي كوسيلة لتحقيق الدفعة الأولى لنمو الاقتصاد العراقي وجذب الاستثمارات الاجنبية اليه. ورغم أن تعبير الإصلاح التشريعي قد أصبح التعبير الأكثر استخداما في مجال التنمية، فقد تم التوسع في معناه بحيث أصبح يعني الإصلاح الذي يشمل تطوير التشريعات واللوائح وتعميقها وتفعيلها وتنفيذها بوسائل عادلة ومتجانسة. وقد ركزت مشاورات مركز المشروعات الدولية الخاصة مع القطاع الخاص على تحديد الهدف الأسمى من الإصلاح الذي يجري تطبيقه حاليا، والذي يسعى إلى خلق مناخ اقتصادي صديق للسوق. ويتطلب ذلك تخطي عقبات توفيق الأطر القانونية والتشريعية، التي تتنافر حاليا تنافرا واضحا، فهناك الإطار التشريعي والتنظيمي للنظام السابق، والإطار التشريعي والتنظيمي لسلطة التحالف المؤقتة، وقوانين ولوائح العراق ذات السيادة فيما بعد العام 2004. وقد بينت مناقشات المجموعة المختارة أهمية تحقيق التوازن بين الحاجة إلى تشريعات جديدة، وتحسين التشريعات الموجودة فعلاً وضمان تنفيذها. وقد حدد رجال الأعمال عند تقييمهم لأولويات الإصلاح التشريعي ثلاثة احتياجات أساسية هي:
• تحديث القوانين الحالية ذات الصلة بالأعمال، وضمان توافقها مع بعضها البعض، وتنفيذها بشكل منصف.
• تخفيض القيود التي تعرقل ممارسة الأعمال.
• تعديل قانون الاستثمار لسنة 2006 بحيث يتضمن السماح بمشاركة الشركات الدولية في الاقتصاد العراقي.
كما افصحت مناقشات المجموعة المختارة بأن العنصر الأكثر تأثيراً في التعامل مع اللوائح والقوانين الحالية وإعداد لوائح جديدة هو عدم استطاعة رجال الأعمال العراقيين معرفة هذه اللوائح والقوانين الجديدة، وما يسبقها من إجراءات عند الإعداد لإصدارها. وقد أكد ذلك ما ورد في نتائج المسح الذي أجراه مركز المشروعات الدولية الخاصة إذ ذكر (%74) ممن شملهم المسح أن أصحاب الأعمال لا يستطيعون معرفة قوانين التجارة ولوائحها ولا يستطيعون فهمها. وبالمثل، فقد ذكر (%52) ممن شملهم المسح نفسه أن دور رجال الأعمال العراقيين في إعداد السياسات الحكومية هامشي وليس له تأثير، خاصة بالنسبة للتشريعات ذات الصلة بالأعمال. وبطبيعة الحال، فإن عدم الوضوح القانوني يؤدي بالضرورة إلى انخفاض معدل الاستثمار الأجنبي. وفى الظروف العالمية الحالية، ومع قلة فرص التمويل، يجنح المستثمرون إلى الاستثمار في البلاد التي تتمتع بأطر قانونية واضحة، ولديها وسائل فعالة لتنفيذ هذه القوانين، وتتسم معاملاتها بالشفافية، حتى تصبح استثماراتهم مجزية. وبكل بساطة، فهذه المعايير لا تنطبق على العراق، رغم أنه وبعد عدة عقود من الصراعات والعقوبات الدولية يحتاج بشدة إلى تدفق استثمارات أجنبية ضخمة لرفع مستوى البنية التحتية التي تقادمت واندثرت بفعل سنوات من الحروب والعقوبات الاقتصادية.
ثانيا: -تفشي مظاهر الفساد المالي والاداري.
تزايدت خلال السنوات الماضية معدلات الفساد والمحسوبية في العراق بشكل مذهل نتيجة لضعف الرقابة والقانون رغم تعدد المؤسسات الخاصة بمكافحة الفساد. وقد أشار المشاركون في مناقشات المجموعة المختارة إلى ضرورة مواجهة الحكومة العراقية لهذه الظاهرة الخطيرة وبشكل حقيقي وبوسائل فعالة. وهو نفس ما أكدته نتائج المسوحات التي تمت في هذا المجال على العراق، فقد وجد مركز المشروعات الدولية الخاصة أن (%87) من أصحاب الأعمال في العراق يعتقدون أن الفساد هو مشكلة ضخمة تواجهها البلاد، وقدر (%53) من المشاركين في المسح أن الفساد يضيف أكثر من (%20) إلى تكلفة ممارستهم لنشاطاتهم، بينما أشار (%30) منهم إلى أن تكلفة الفساد قد تزيد على (% 30) من تكلفة ممارستهم لأعمالهم. وقد أوضح المشاركون في مناقشات المجموعة المختارة لمركز المشروعات الدولية الخاصة أن استيفاء طلبات التقدم لاستيراد المواد اللازمة لتنفيذ المشروعات هي المجالات الأساسية التي يتفشى فيها الفساد، وهو ما أكده المسح الذي أُجري من قبل. إضافة إلى ذلك أظهر المسح الذي أجراه مركز المشروعات الدولية الخاصة عام2007 أن (%52) من أصحاب المشروعات يعتقدون أن الحكومة العراقية لا تطبق مبادئ الشفافية عند ارساء عطاءات الوزارات المختلفة.
ويرتبط الفساد في العراق ارتباطا مباشرا بضخامة عدد العاملين في الجهاز الحكومي والبيروقراطية الادارية. وقد أدان معظم رجال الذين شملهم المسح الذي قام به مركز المشروعات الدولية الخاصة الفساد الإداري، ودعموا الجهاز الحكومي باعتباره آلية لمكافحة الفساد، خاصة فيما يتعلق بتقديم الخدمات والبت في العديد من الطلبات ذات الصلة بالأعمال. وكان الاختلاف في الآراء نابع من كيفية النظر إلى الفساد، وما إذا كان موظفو الحكومة هم الذين يشجعون عليه) بالإكراه على دفع الرشاوى (، أو أن القطاع الخاص هو الذي يشجع الفساد للحصول على ميزة تنافسية) بدفع الرشوة طواعية (، وبشكل عام حدد المشاركون عدة أسباب رئيسية لارتفاع معدلات الفساد في العراق هي:
• عدم استعداد الحكومة لبذل الجهد الكافي لمكافحة الفساد، نظرا لتورط حلقات حكومية رفيعة بملفات فساد كبيرة.
• عدم قدرة وسائل الإعلام على إجراء تحقيقات جادة وعميقة لفضح الفساد والتحري عنه، كما أنها غير مؤهلة لذلك.
• البيروقراطية والقيود التي تضعها الحكومة والنظم المعقدة والقوانين غير الواضحة والمتضاربة.
• ضعف النظام القضائي.
• ضعف النظم المحاسبية والضرائبية.
• ضعف وسائل وتشريعات حماية حقوق الملكية.
• مركزية النظم الإدارية.
ثالثا: -تنمية قدرات القطاع الخاص.
أشار المشاركون في مناقشات المجموعة المختارة إلى ضرورة تحقيق الإصلاح في مجالات أخرى، حتى يمكن تنشيط التنمية الاقتصادية وإتاحة مناخ مناسب للقطاع الخاص يشجعه على النمو وخلق فرص عمل. ذلك أن الافتقار إلى رأس المال لدى القطاع الخاص، وارتفاع أسعار الفائدة للقروض المقدمة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، والتي تصل في كثير من الأحيان إلى قرابة 20% دفع أصحاب المشروعات والأعمال إلى مطالبة الحكومة بالقيام بدور أكبر لتوفير التمويل اللازم لهذه المشروعات. وأكد المشاركون في المناقشات من كافة أنحاء العراق تقريبا على عدم وجود رأس مال كاف يمكنهم من تنفيذ مشروعاتهم وتنميتها. ويتفق هذا الرأي مع نتائج المسح الذي أجراه مركز المشروعات الدولية الخاصة في وقت سابق مع رجال الأعمال، والذي أظهر أيضًا أن معظم أصحاب المشروعات الصغيرة يحصلون على تمويل من أصدقائهم وأقاربهم ومن مدخراتهم بدلا من الحصول عليه من المصارف أو مؤسسات التمويل الأخرى. كما دعى معظم المشاركون في المجموعة المختارة ضرورة وضع قواعد أكثر صرامة للرقابة على الواردات، حتى يمكن مكافحة الإغراق وحماية السوق المحلي من البضائع منخفضة الجودة، وبالتالي توفير قاعدة للمنتجين المحليين تمكنهم من المنافسة على أسس منصفة. فقد أدى إغراق السوق العراقي ببضائع رديئة ومنخفضة الجودة إلى تدهور القاعدة الصناعية للبلاد، مما أدى بدوره إلى ارتفاع معدلات البطالة في البلد.
وأفصح العديد من رجال الأعمال الذين شملهم المسح بأن القطاع الزراعي والصناعي في الاقتصاد العراقي يتدهور نتيجة لاستمرار تدفق الاستيرادات من البلدان المجاورة، والواقع أن بعضهم لاحظ المفارقة الغريبة المتمثلة في أن العراق المعروف بمياهه الغزيرة وأرضه الخصبة يستورد الخضر من جيرانه، مثل الأردن التي تشكل الصحراء معظم أراضيها. ومن الإجراءات الأخرى المقترحة لتنشيط التجارة، إنشاء مناطق تجارة حرة على حدود العراق، خاصة أن الحكومة تمد هذه المناطق الحدودية بالبنية التحتية اللازمة. كما أن هناك حاجة إلى تطوير وتعزيز المنظمات غير الحكومية) مثل الاتحادات التجارية (لدعم القطاع الخاص، وتوفير أماكن لإقامة المعارض التجارية )الأمر الذي أثبت فاعليته في السليمانية مثلا . وقد أثارت بعض جلسات مناقشات المجموعة المختارة موضوع البنية التحتية، خاصة عندما اتجهت المناقشة إلى نقص الاستثمارات الأجنبية والحاجة إلى زيادتها، إذ يقوم المستثمرون الأجانب حاليا في معظم أنحاء العراق بتطوير البنية التحتية المرتبطة باستثماراتهم على نفقتهم الخاصة، مثل توفير الطاقة والمياه ووسائل الاتصالات والطرق، مما يؤدي إلى إحجام العديد من المستثمرين المحتملين عن الاستثمار. أما إقليم كردستان فيوفر البنية التحتية اللازمة للمشروعات الاستثمارية، إضافة إلى استقرار الوضع الأمني مما أدى إلى حصوله على النصيب الاكبر من الاستثمارات الاجنبية والمحلية.
شكل هبوط اسعار النفط الخام صدمة اقتصادية ومالية خطيرة تهدد بنية واستقرار الاقتصاد العراقي، خصوصا مع ما تفرضه تكاليف الحرب وتبعاتها الانسانية من اعباء على الموازنة والاقتصاد. يلزم هذا الواقع صناع القرار الاقتصادي في البلد على تعزيز مناخ الاعمال وتطوير اليات السوق الحر لانطلاق الاستثمار واعادة اعمار البنية التحتية بما يتناسب مع ضرورات التنمية الاقتصادية المستدامة. وتفصح الوقائع إلى أن مناخ الأعمال لا يزال يعاني من عدم وضوح الأطر القانونية والتشريعية وتفشي مظاهر الفساد في مختلف المفاصل الاقتصادية في البلد. ومن المرجح ان يعطل ذلك قدرة البلد على جذب الاستثمارات المحلية والدولية. وتعد الاستعانة برجال الاعمال المحليين كمصدر بيانات ضرورة ملحة لصناع القرار، وعلى الحكومة العراقية الاستفادة من هذه الطبقة في تشريع ورسم السياسات الاقتصادية للبلد. كما ينبغي ان تتيح الحكومة مساحة جيدة للقطاع الخاص للقيام بدوره المأمول كقاطرة للنمو الاقتصادي ومصدر لتوليد فرص العمل للجمهور، على ان يقتصر دور الحكومة على تنظيم وضبط حركة السوق، بعد تذليل كافة العقبات التي تعتري انطلاق القطاع الخاص في العراق.
اضافةتعليق