لم يحظى الملف الاقتصادي في العراق بالاهتمام المناسب طوال السنوات التي تلت العام 2003، فقد احتكر القطاع النفطي قاطرة النمو والاستقرار الاقتصادي في البلد خلال السنوات الماضية في ظل غياب سياسات حكومية جادة لتنويع الاقتصاد الوطني. وقد حرصت الحكومات العراقية المتعاقبة على استمرار نمط النمو المرتبط بالنفط رغم مخاطر رهن الاقتصاد الوطني بدورات الرواج والكساد التي تشهدها اسواق النفط باستمرار. ورغم حدة الازمات التي طالت الاقتصاد العراقي نتيجة تذبذب اسعار النفط العالمية، واخرها ازمة 2014 وانهيار الاسعار الى دون (25) دولار للبرميل، الا ان تنفيذ سياسات الاصلاح الاقتصادي بقي بعيدا عن دوائر الاهتمام في اروقة صنع القرار حفاظا على مصالح المنظومة السياسية القابضة على السلطة والموارد في العراق.
عام 2020 كما هو العام 2015 والعام 2014 هبطت اسعار النفط بشكل حاد لتقود جميع القطاعات الاقتصادية صوب الركود الاقتصادي نظرا لارتباط الموازنة والاقتصاد بالمورد النفطي بشكل كبير. وفي ظل انتفاخ غير مبرر للإنفاق العام خلال السنوات الاخيرة، كان الهبوط الاخير اشد ضررا على الاقتصاد نظرا لاستفحال عجز الموازنة العامة والمقدر في موازنة عام 2020 بأكثر من (81) ترليون دينار مقارنة بـ (27) ترليون دينار عجز مخطط في العام 2019.
ونتيجة لجائحة كورونا وما فرضته من اغلاق كبير لمعظم الاقتصادات المتقدمة والناهضة، تراجعت اسعار النفط بشكل حاد لتقترب من (20) دولار في شهر نيسان الماضي. ورغم التعافي النسبي للأسعار وبلوغها حاجز (40) دولار خلال الاسابيع الماضية، الا ان خفض الصادرات النفطية العراقية بأكثر من مليون برميل يوميا، التزاما باتفاق اوبك بلاس لضبط الانتاج، لم يحسن كثيرا من ايرادات النفط العراقية التي بقيت تتراوح حول (3) مليار دولار حتى شهر ايلول الماضي مقارنة بـ (6) مليار دولار تحققت في شهر كانون الثاني من العام الجاري.
الازمة المالية الراهنة في العراق انعكاس لضعف سياسات الاصلاح والتنويع الاقتصادي، وما خلفه من تشوه خطير لحق الموازنة العامة بشقيها الايرادي والانفاقي خلال السنوات التي تلت العام 2003. فعلى جانب الايرادات قوض الاعتماد المفرط على النفط من فرص استقرار الايرادات الحكومية، خصوصا مع ضعف الجهود الحكومية في تعظيم وتحريك الايرادات غير النفطية واستحواذ النفط على أكثر من 90% من الايرادات الحكومية. اما النفقات الحكومية فقد استمرت في الانتفاخ خارج حدود المقدرة المالية للحكومة ودون تحقيق عوائد تذكر في الاستثمار والخدمات والبنية التحتية. اذ ارتفعت النفقات التشغيلية لصالح سياسات التوظيف الحكومي المنفلت والنفقات الاستهلاكية الغير مبررة. اما النفقات الاستثمارية فقد تسربت بسلاسة الى جيوب الفساد المستشري في المؤسسات الحكومية مع بقاء معظم مشاريع البنية التحتية دون انجاز يذكر رغم افتقار المحافظات والمدن العراقية الى ابسط الخدمات العامة كالماء والكهرباء والمجاري وغيرها من الخدمات الضرورية.
وفيما يخص الوضع المالي الراهن في العراق تشير ارقام وزارة المالية الى تحقيق العراق ايرادات اجمالية تقارب (53) ترليون دينار، منها (33) ترليون دينار ايرادات نفطية وغير نفطية، اضافة للرصيد المدور من العام 2019 الى عام 2020 والبالغ (5) ترليون دينار وقرض وزارة المالية بموجب قانون الاقتراض الداخلي والخارجي رقم (5) لعام 2020 والبالغ (14.5) ترليون دينار. في حين بلغ تمويل النفقات لذات المدة قرابة (51) ترليون دينار مخصصة للرواتب والتقاعد وشبكة الحماية الاجتماعية واقساط المديونية والفوائد والبطاقة التموينية والحنطة والنفقات التشغيلية للدوائر الأمنية والرئاسات والدوائر الصحية والأدوية... الخ. ومبلغ (380) مليار دينار للمشاريع الاستثمارية وحسب إنجازات العمل. وبذلك فان المبلغ المتبقي قرابة (1.8) ترليون دينار حتى منتصف شهر ايلول. وتفصح هذه الارقام عن صعوبة استيعاب الايرادات الحكومية الشهرية والمقدر بقرابة (3) ترليون دينار، كصافي بعد استبعاد تعويضات الكويت ومستحقات جولات التراخيص، للنفقات الحكومية الشهرية الضرورية والمقدرة بأكثر من (6) ترليون دينار شهريا.
لم يحظى العراق بفرصة انشاء صناديق استقرار قادرة على استيعاب صدمات الاسواق النفطية وتجسير فجوة التمويل كما يحدث في دول الخليج العربي. مما يجعل خيارات تمويل الانفاق العام بالدينار العراقي محصورة في قيمة مبيعات النفط الخام الى البنك المركزي، والايرادات غير النفطية كالضرائب والرسوم وارباح الشركات ومبيعات الموجودات والاملاك الحكومية، وهي لا تغطي سنويا أكثر من (3%) من اجمالي الانفاق العام. واخيرا القروض الداخلية من الجهاز المصرفي الذي يعيد خصمها لدى البنك المركزي ليكون الاخير ممولا لديون الحكومة الاتحادية بشكل غير مباشر، نظرا لعدم قدرة البنك المركزي وفق قانونه (56 لسنة 2004) من تمويل القروض الحكومية بشكل مباشر.
ورغم عيوب الاقتراض بشكل عام، الا ان الوضع المالي والاقتصادي في البلد يحتم على الحكومة انتهاج سياسة مالية توسعية ممولة جزئيا من الاقتراض العام الداخلي لتعويض الركود الاقتصادي الذي خلفه تراجع اسعار النفط وجائحة كورونا في معظم القطاعات الاقتصادية في البلد. خصوصا مع تزايد نسب البطالة نتيجة تراجع مشاريع الاستثمار العام والخاص وتقلص نشاط القطاع الخاص، مما يزيد من دور الانفاق الحكومي (الرواتب ومشتريات الحكومة) في تحريك القطاعات الانتاجية والخدمية بشكل مستمر.
وفي الآونة الاخيرة تم طرح خيار خفض قيمة الدينار العراقي لتحقيق اهداف مالية (تعظيم الايرادات الحكومية) واهداف اقتصادية (دعم المنتج الوطني). وفي الحقيقة فان جميع تلك الدعوات قاصرة عن إدراك طبيعية الكلف الاقتصادية والمالية والاجتماعية المترتبة على هذه السياسة مقارنة بالعوائد التي قد تتحقق. ولا يعد اللجوء الى خفض الدينار العراقي لتمويل فجوة الموارد المالية خيارا مناسبا في الوقت الراهن، ولعدة اسباب اهمها:
1- ضعف الايرادات الحكومية المتولدة عن هذا الخيار والمقدرة بـ (600 مليار دينار) شهريا، إذا ما تم خفض سعر صرف الدينار الى (1500) دينار مقابل الدولار بدلا من (1182) دينار مقابل الدولار السائد الان.
2- ارتفاع سعر صرف الدولار في بلد يعتمد على الاستيراد في تغذية الطلب المحلي على مختلف انواع السلع والخدمات يعني توليد ضغوط تضخمية لولبية تقضم الدخول النقدية للطبقات المتوسطة وتسحق الطبقات الفقيرة بشكل خطير.
3- لا يزال احتياطي البنك المركزي من الدولار الاجنبي ضمن المديات المريحة (53 مليار دولار) مما يجعل سياسة الاقتراض الداخلي ممكنة حتى مع اتساع الفجوة بين مبيعات وزارة المالية الى البنك المركزي ومبيعات الاخير من الدولار الى القطاع الخاص.
4- لا يمكن اعتبار خفض قيمة الدينار العراقي في هذه المرحلة ضرورة لرفع قدرة المنتج الوطني ولعدة اسباب اهمها عدم وجود طاقات انتاجية وسلع وطنية قادرة على المنافسة في الاسواق الدولية لغرض دعمها عبر خفض سعر الصرف.
5- مرجح جدا ان يقود اجراء خفض قيمة الدينار العراقي الى مضاربة قوية على الدينار عبر تحويل الارصدة النقدية (المكتنزة والمدخرة) من الدينار الى الدولار حفاظا على القيمة الحقيقية لتلك الارصدة، مما يقود الى تزايد الطلب على الدولار وتحول نظم المبادلات المحلية صوب الدولرة كما حدث في لبنان.