قراءة في كتاب التصنيع والتحولات الاقتصادية الكبرى

شارك الموضوع :

ان عملية التصنيع هي التي ادت الى اختلاف حياة الناس، في الأرياف والمدن، وطبقاتهم وانماط معيشتهم، عما كانت عليه منذ زمن بعيد والى وقت قريب. ومثلما يُفسِر التصنيع تفاوت الشعوب في مستويات الثراء والرفاه كذلك هو المسؤول الأول عن توزيع القوة وفرص التأثير في المستقبل

 صدر مؤخرا كتاب " التصنيع والتحولات الاقتصادية الكبرى" في طبعته الاولى عن دار الكتب العراقية(*) للعالم الاقتصادي الفذ الدكتور احمد ابريهي علي. يعرض الكتاب مقاربات قيمة لأسس التطور والازدهار الاقتصادي في مختلف بلدان العالم. ويجزم المؤلف بأن دراسة التصنيع بصفته العامل الرئيس في التحولات الكبرى وتكوين اسس الحضارة المعاصرة هو الارجح منهجيا، وان تلك التغيرات العميقة والشاملة في تقنيات الاقتصاد وتنظيمه هي العامل الحاسم في النمو الاقتصادي الحديث، بمنظار الأمد البعيد والمنطق التجريبي، عند النظر الى حجم السكان والإنتاج، في العالم، مؤخرا، وما كان عليه نهاية القرن السابع عشر. ويخلص الكتاب في صفحاته الـ (707) بان الاقتصاد المعاصر نتاج التصنيع الذي مكّن البشرية من حضارة هذا الزمن، وبه بلغت دول غرب اوربا وشمال أمريكا، وأخرى من آسيا، تلك المستويات العالية من التقدم التقني والرخاء. 

ويحاول الكتاب عبر ادوات المؤلف الرصينة اثبات حقيقة ان التنمية الاقتصادية والتصنيع وجهان لعملة واحدة، وتلك أهم مبادئ التنظير لانعتاق المجتمعات من شراك التخلف والفقر في خمسينات وستينات القرن العشرين، وتأكدت وجاهتها معياريا ومصداقيتها موضوعيا. وإن ارتباط نمو وتنويع الصادرات بالصناعة التحويلية يبين، من زاوية أخرى، محورية التصنيع في عملية التنمية واللحاق، وتحرير الاقتصاد النامي من القيد المرهق لميزان المدفوعات. اذ تحتضن الصناعة التحويلية أنشطة البحث والتطوير من أجل الابتكار، والقطاع الذي يجسد المستحدثات التكنولوجية في وسائل إنتاج ومنتجات دائمة التكاثر والتنوع. وصلة التصنيع بالتحضر والبنى التحتية وإعادة تشكيل الجغرافية الاقتصادية تستحق التدقيق. ويحاول الكتاب، قدر الإمكان، الاشتغال على هذه الموضوعات في الأنماط التي تكشف عنها تجربة العالم في الوقائع التي عبرت عنها البيانات ومدونات التاريخ الحديث. 

  ان عملية التصنيع، وفقا لما يراه المؤلف، معقدة في متطلباتها المؤسسية والتقنية والتنظيمية، ورأس المال المادي والبشري، والريادة الاستثمارية والتنظيمية، والموازنة بين العوائد والمخاطر، والبنى التحتية المناسبة والأسواق الكافية، والسياسات المالية والنقدية والتجارية. ولا تدّعي الدراسة، او اية دراسة، تغطية هذه الأبعاد جميعها بل ربما تهيئة أطار مبدئي، من خلال معرفة المعالم الرئيسة للتجربة الدولية، يساعد على تنشيط البحث في هذه المجالات متساوقا مع الفرص المتاحة والعقبات التي واجهت الدول التي سبقت في التصنيع وتغلّبت عليها، والتي تعاود الظهور في الدول النامية. 

ورغم ان الدراسة لم تكرس لاقتراح استراتيجية أو سياسات بعينها للتصنيع في العراق أو دول صادرت الموارد الطبيعية، فان المؤلف حاول بجد تقديم وفرة من الاسباب لإثبات محورية التصنيع في عملية التنمية واللحاق، ليس فقط للخبراء والمختصين، وانما ايضا لصناع القرار الاقتصادي في جميع البلدان النامية، ومنها العراق. خصوصا مع اتساع الفجوة كثيرا بين تخلف الصناعة في العراق وجميع اوجه الحياة الأخرى بما فيها حجم الاقتصاد والتحضر والموارد البشرية، وما ينطوي عليه عدم التناسب من تعميق لمشكلات التوظيف غير الإنتاجي للعمل، وتوسع الأنشطة التي تفترض وجود مصادر دخل متنامية في قطاعات أخرى، وتعميق الاعتماد على النفط مصدرا وحيدا للعملة الأجنبية وتمويل الموازنة العامة. ويلاحظ، مع ذلك، الاعتياد على إهمال الصناعة والتهرب من أعباء التصنيع. وينسجم هذا الارتباك مع ضبابية في وعي الضرورة الواقعية للتصنيع في حاضر ومستقبل الاقتصاد. والالتباس في التمييز بين نمو اقتصادي يرتكز على قاعدة انتاجية كافية وهو ما نفتقر إليه، وما تآلفنا معه من زيادات في الدخل حصيلة تفاعل، تكتنفه المخاطر، بين مورد نفطي متذبذب وأنشطة خدمية وهامشية واطئة الكفاءة لأسباب من اهمها افتقار الاقتصاد للصناعة وزخم التصنيع.   

 ويسعى المؤلف جاهدا، في ثنايا الكتاب، الى ايضاح حقائق نمطية تُفصح عنها علاقات كمية بين التصنيع والنمو الاقتصادي. وايضا، إضاءة المسار الذي ينتظر العراق، وكثيرا من الدول الأخرى، في عملية التصنيع طويلة الأمد، والتي كلما تأخرت أضعفت القدرة على مباشرة التصنيع الناجح. 

خارطة الفصول

يبدأ الكتاب فصله الاول في جولة تاريخية شيقة لاكتشاف المعالم الرئيسة للثورة الصناعية الأولى في بريطانيا، ثم بقية الدول المتقدمة الكبرى التي باشرت التصنيع مبكرا أو التحقت فيما بعد. ويتابع المؤلف بدقة نموها وتحولاتها بالعلاقة مع الصناعة التحويلية الى ما بعد الأزمة المالية الأخيرة. 

وفي الفصل الثاني، يتناول الكتاب تجربة اللحاق التصنيعي لألمانيا واليابان وإسبانيا، في سياق التاريخ السياسي والعلاقات الدولية، منذ الانطلاقة الأولى الى العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. ألمانيا، ضمن النطاق الجغرافي والثقافي القريب من بريطانيا، تأخرت وحثّت الخطى تاليا لتقدم تجربة تصنيع رائدة ثرية في دروسها، قبل الوحدة وبعدها، لتصبح الدولة الصناعية الأكبر في أوربا قبيل الحرب العالمية الأولى. اما اليابان، وهي في آسيا بعيدة عن الغرب، فقد بينت تجربتها إمكانية التصنيع في بيئة ثقافية ومؤسسات مغايرة وتاريخ سياسي مختلف. واسبانيا معروفة في تخلفها النسبي تعثّرت كثيرا في مسار التحديث والتصنيع، والذي اعترضته عقبات التكوين الاجتماعي والسياسي الموروث، ومع ذلك استطاعت بناء قاعدة صناعية، لتنتمي نهاية المطاف الى مجموعة الدول المتقدمة. 

ويكرس المؤلف الفصل الثالث لدراسة العلاقة بين التصنيع والزراعة في محاولة اختبار فرضيات التعاقب أو التلازم بينهما في الثورة الصناعية الأولى والتي بعدها، وتجارب الدول النامية التي تتطلع الى التصنيع أو باشرته فعلا، بالمقارنة مع الدول المصنعة والناهضة صناعيا.

 ويختص الفصل الرابع بالدولة التنموية لشرق آسيا في البلدان المصنعة حديثا، كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة، والصين، لإظهار المشتركات والخصائص الفريدة لتلك التجارب، وهي مادة غنية لمحاورة أطروحات مختلفة عن استراتيجيات وسياسات التصنيع قد يستفيد منها العراق بشكل خاص. 

في الفصل الخامس يستخدم المؤلف ادواته التجريبية عبر اجراء تحليل كمي لخصائص التغيّر المنتظم في العلاقات بين نمو الصناعة التحويلية والنمو الاقتصادي الكلي والتجارة الخارجية والأسعار النسبية، عبر معالجة البيانات المجمعة، من الدول والسلاسل الزمنية، للمدة (1960 – 2017)، وذلك على نطاق العالم، لإثبات طروحات الدراسة بضرس قاطع. 

ويتمحور الفصل الأخير حول التحضر والبناء التحتي، وعلاقتهما بالتصنيع والتنمية الاقتصادية، مع محاولة التنسيق بين التحليل الكمي والوقائع التاريخية، وبالإشارة الى مشكلات التحضر في الدول النامية. 

دروس قيمة

يحتوي كتاب التصنيع والتحولات الاقتصادية الكبرى على وصف وتحليل وانطباعات للمعالم الرئيسة للتجربة الدولية، لعالم اقتصاد له سعة اطلاع ومعرفة رصينة. وفصول الكتاب متخمة بالدروس الاقتصادية القيمة حول ركائز النمو والتطور الاقتصادي عبر ابراز دور التصنيع في منعطفات تاريخية حادة لدول صناعية كبرى. ورغم خطورة انتخاب عدد من خلاصات الدراسة دون اخرى، فان المقاربات القيمة للمؤلف تستحق المجازفة. 

1- يتعدى دور التصنيع نطاقه الاقتصادي القريب، في نمو الإنتاجية ومتوسط الدخل للفرد والتحولات العميقة في بنية الإنتاج والتشغيل، وكل ما يتضمنه مفهوم التنمية الاقتصادية في تعريفه الأوسع. بل ان عملية التصنيع هي التي ادت الى اختلاف حياة الناس، في الأرياف والمدن، وطبقاتهم وانماط معيشتهم، عما كانت عليه منذ زمن بعيد والى وقت قريب. ومثلما يُفسِر التصنيع تفاوت الشعوب في مستويات الثراء والرفاه كذلك هو المسؤول الأول عن توزيع القوة وفرص التأثير في المستقبل. 

2-   تعتمد التنمية في الامد البعيد على إدامة زخم النشاط الاستثماري بكفاءة متصاعدة، اي ارتفاع نسبة العائد الى راس المال وصولا الى استقرارها عند اعلى مستوى تسمح به أفضل التقنيات عند الحجوم المثلى للمنشآت، ومع التغذية المتبادلة بالوفورات الخارجية في نسق الاقتصاد الوطني، وبالانتفاع من الأبنية التحتية، وتسهيلات التطوير التكنولوجي، وعلاقات اقتصادية دولية إيجابية. ويتطلب هذا المسار الادخار الكافي الذي يساوي الاستثمار بحكم المتطابقة المعروفة بين الموارد والاستخدامات وشرط التوازن الكلي. وللادخار صلة بالأرباح متلازمة العائد المرتفع، آنفا، إضافة على سياسات مشجعة على الادخار من الدخل الشخصي بإشاعة ثقافة المجتمع الانتاجي الحصيف دون الريعي – الاستهلاكي. 

3-   يعد التصنيع مبدأ عمل مهم آخر للسياسات الاقتصادية طالما يراد للتصنيع ضمان تحرير اقتصاد المستقبل من قيد ميزان المدفوعات، في البلدان النامية والعراق على وجه الخصوص. وليس من الصعب ربط التصنيع بأهداف التصدير إنما تصمم برامج الاستثمار او التأليف بين ادوات السياسات لأحكام هذا الربط، خاصة في دولة، مثل العراق، تستطيع المشاركة مع القطاع الخاص وتمويله الى جانب الاستثمار العام.

4-   يتشكل مسار التصنيع ودور الصناعة من تفاعل بيئة الأعمال ودوائر القرار الحكومي مع إمكانات مرحلة التطور الاقتصادي وخصائص الاقتصاد. وفي المستقبل، كما في الماضي، يمكن تحسين فرص الارتقاء عبر استيعاب تجارب الصناعة في العالم عموما، والدول المصنعة حديثا، بمفردات الاقتصاد وأدوات التحليل الاقتصادي المنهجي من جانبي العرض والطلب على حد سواء. 

5- أن الأبنية التحتية وتكاليف تجهيز الخدمات الأساسية والمدخلات التشغيلية المحلية لها مضامين عميقة في تحديد التكاليف والعوائد ولذا هي من العوامل الفاعلة في حجم الاستثمار الصناعي. كما ان سياسات الاقتصاد المتدخلة في التكاليف والأسعار وصافي العوائد بعد الضريبة هي الأخرى لها دورها الذي يتطلب تصميما يستند الى حساب مستفيض لدفع الاستثمار الصناعي.

6- إن المقصود بالاستراتيجية والسياسة الصناعية إرادة الدولة التي تزاولها فعلا وليست الوثائق التي تصدرها الجهات الرسمية عن الصناعة والتنمية الصناعية. ولذا من المتوقع ان تعتمد الدولة ادوات معلومة للسياسات تشتغل في اسواق راس المال الأولي، والعمل، والمنتجات، والتكنولوجيا، والأراضي لمزاولة النشاط الصناعي ضمن التنمية المكانية، وإجراءات لإعادة تنظيم الدوائر الحكومية المسؤولة وضبط وتحسين أدائها ... وهكذا. وتنسيق سياسات اسعار الفائدة والائتمان، وسعر الصرف والتعرفة الكمركية، والضرائب والإعانات ... وغيرها.

7- ما لم يستهدف التصنيع بناء طاقات انتاجية كافية للتصدير فسوف يحبط ويتحول الى فشل ذريع. لأن التصنيع سوف يتطلب استيراد سلع رأسمالية ومدخلات تشغيلية فيرتفع الطلب على العملة الأجنبية وما لم يوازن بموارد جديدة للعملة الأجنبية من الصادرات تحبط عملية التصنيع، وتبقى المنشآت التي اقيمت عبئا على الاقتصاد، وتوظف هذه العثرات للترويج ضد التصنيع واية محاولة لتطوير قدرات انتاجية إضافية. وقد يفسَر ما انتهت اليه سياسة التصنيع التي قامت على اهداف تعويض المستوردات من هذه الزاوية.

8- ان ربط التصنيع بتنمية قدرة الاقتصاد على التصدير ضمان للاستدامة، وتؤيد تجربة العالم قوة الارتباط بين القيمة المضافة الصناعية والتصدير من الصناعة، والملاحظ ان متوسط الصادرات للفرد من منتجات الصناعة التحويلية أعلى من متوسط القيمة المضافة للفرد في الصناعة التحويلية، لكن هذه الخاصية العامة لا تكفي دون سياسات ضامنة. 

9- ان نتائج تجربة الانزلاق السريع الى اقتصاد ما بعد الصناعة Economy Industrial Post وتعجيل العولمة كانت محبطة لدوائر السياسة الاقتصادية في العالم المتقدم، بعد الأزمة المالية العميقة، وهي ايضا من نتائج تحول ثقل الاقتصاد نحو الخدمات وقطاع المال. ولذا من المتوقع ان تتبنى الدول، بهذا الشكل او ذاك، سياسات او استراتيجيات تستهدف النمو الاقتصادي وتعول على الصناعة التحويلية في التحريك والإدامة. 

10- اعتمادا على دراسة قيمة للمؤلف حملت عنوان " نمو الاقتصاد العراقي حتى عام 2040" يحاكي المؤلف امكانية التأليف بين تنشيط الاستثمار، لتسريع بناء قاعدة انتاجية سلعية من غير النفط الخام، وعبر التصنيع على وجه الخصوص. ووفق ذلك المنحى تحقق المشاريع النموذجية للبرامج الاستثمارية أقياما مضافة تسهم بتمويل الأنفاق العام مع مستويات مناسبة للأجور. ولا يمكن العثور على سبيل لتنمية مستدامة بالمعنى الاقتصادي للكلمة دون ضمان إدامة التفاعل الديناميكي بين الارباح والاستثمار لأن الأرباح هدف الاستثمار ومصدر تمويله.  

11- في العراق، لا يمكن التقليل من اهمية المركز التنسيقي الجاد، والتنسيق عبر وزارة التخطيط مثلا، بين وزارات الصناعة والنفط وجهة تمثل قطاع الأعمال الخاص. ولا بد من تعيين جهة مسؤولة بصفة ملزمة، وتخضع للمساءلة، عن كل هدف من أهداف الاستراتيجية المعدة. وتحذر ادبيات التنمية الدولية من الذهاب بعيدا في إساءة فهم مبدا مشاركة قطاع الأعمال الخاص في إعداد ومراجعة الاستراتيجيات وتنفيذها بحيث تصبح الدوائر المعنية في قبضة المصالح الخاصة.

ختاما، يعد الكتاب في صدارة الدراسات النظرية والتجريبية المستكشفة لمحركات النمو والازدهار الاقتصادي واليات ديمومة التطور الاقتصادي في مختلف بلدان العالم. ولم يكن هدف المؤلف استعراض تاريخ الصناعة التحويلية وحاضرها في العالم، بل حاول بجد الكشف عن المنحى العام والمشتركات، والمسارات البديلة قدر سعة المجال، وإضاءة بعض الزوايا التي اغفلتها دراسات سابقة. سعيا لإبراز محورية التصنيع في عملية التنمية واللحاق، وتحرير الاقتصاد النامي من القيد المرهق لميزان المدفوعات. وهو أمل المجتمعات الفقيرة وعموم النامية في الارتقاء الاقتصادي والشراكة الإيجابية والمتكافئة في عالم يرفل بالأمن ويسوده العدل والازدهار(**).

** شبكة الاقتصاديين العراقيين، 14 ايلول / سبتمبر، 2020.

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية