تحظى التنمية البشرية بأهمية كبيرة في الوقت الحاضر نتيجة لأهميتها في مختلف جوانب الحياة، لكنها لاتزال متواضعة في العراق مقارنة بموارده وبالدول المُقاربة
التنمية البشرية أكثر نضوجاً
بعد إن عجزت التنمية الاقتصادية عن إيلاء الإنسان الأولوية في اهتماماتها، واقتصارها على المعايير المادية في تقييم الرفاهية الاقتصادية دون الأخذ بعين الاعتبار معايير أخرى لها أهميتها في التقييم، ظهر للوجود في تسعينيات القرن الماضي ما يعرف بمفهوم التنمية البشرية لتأخذ على عاتقها المعايير الأخرى كالصحة والتعليم بالإضافة إلى المعايير المادية كالدخل.
أعطت الأمم المتحدة لموضوعة التنمية البشرية أهمية قصوى، وذلك من خلال قيامُها بإعداد التقارير الخاصة بالتنمية البشرية لأغلب دول العالم منذ عام 1990 ولحد الآن، لتوضح مدى اهتمام هذه الدول بالتنمية البشرية وكيف تسهم في تحقيق التنمية بشكل عام التي يشكل الإنسان محورها، بمعنى آخر هو هدف التنمية ووسيلتها.
الإنسان ليس محور التنمية في العراق
ولكن للأسف، لاتزال التنمية البشرية في العراق لاتحظى بأهمية قصوى على الرغم من تزايد الاهتمام العالمي بها، وتحسن الدول المُقاربة للعراق من حيث الموارد وحجم السكان، وهذا ما يعكس قصور العراق في إدرك مدى أهمية التنمية البشرية وانعكاساتها على الحياة بشكل عام، ولم يكُن الإنسان هو هدف التنمية ووسيلتها، مما جعله يحتل مراتب متقدمة في أغلب المؤشرات السلبية ومراتب متأخرة في أغلب المؤشرات الإيجابية دولياً!
وعلى الرغم من تحسن مرتبة العراق في تقرير التنمية البشرية من 132 من أصل 187 دولة ضمها التقرير في عام 2011 إلى 120 من أصل 189 دولة في عام 2017 إلا إن هذا التحسن لايزال متواضعاً مقارنةً بحجم ونوعية الموارد التي يمتلكها من جانب ومقارنةً بالدول المُقاربة من جانب آخر.
فعلى مستوى الجانب الأول،
يملك العراق موارد كبيرة من بينها الموارد النفطية التي جعلته يحتل المرتبة الخامسة عالمياً من حيث الاحتياطي النفطي بعد كل من فنزويلا والسعودية وكندا وإيران، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن نوعية هذه الموارد وبالخصوص النفطية تتصف بالنضوب والعمومية والتذبذب، مما يُحتم استثمارها بشكل أمثل يعود لعموم الشعب وينعكس أخيراً على ترتيب العراق في تقرير التنمية البشرية، على الأقل يجعله في مصاف الدول المماثلة في ثرواته النفطية التي سنُعرج عليها في الجانب الثاني أدناه.
أما على مستوى الجانب الثاني،
فأغلب الدول المُقاربة مثل الجزائر والسعودية وإيران تحتل مراتب أفضل في التنمية البشرية وتتحسن بشكل أكبر من العراق، ففي عام 2017 احتلت الجزائر المرتبة 85، والسعودية 39، وإيران 60 من اصل 189 ضمها تقرير عام 2018، بعد إن كانت الجزائر تحتل المرتبة 96، والسعودية المرتبة 56، وإيران المرتبة 88 من أصل 187 دولة في عام 2011 حسب التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
وتجب الإشارة، إلى إن دليل التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة يقيس متوسط الانجازات في ثلاثة أبعاد أساسية للتنمية البشرية هي: الحياة المديدة والصحية، والمعرفة، والمستوى المعيشي اللائق.
وإن العمر المتوقع عند الولادة هو مؤشر للبُعد الأول، وإن العدد المتوقع لسنوات الدراسة ومتوسط سنوات الدراسة يُعدان مؤشر للبُعد الثاني، ويُعد نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي مؤشر على البُعد الثالث، يمكن الرجوع إليها بشكل مفصل في تقارير التنمية البشرية.
أبرز الأسباب
هناك أسباب عديدة تقف وراء تواضع مرتبة العراق في التنمية البشرية، يمكن الإشارة لأبرزها في الآتي:
أولاً:السبب الثقافي، حيث نلاحظ من خلال الواقع طغيان الثقافة المادية على الثقافة الإنسانية، بحيث أصبحت المادة هي الهدف والإنسان هو الوسيلة، خصوصاً من هُم على سدة الحكم! مما انعكست على تواضع التنمية البشرية في العراق.
ثانياً: تشوه المؤسسات، إن غياب المؤسسات قبل عام 2003 أو ضعفها بعد عام 2003 كان أحد الأسباب التي تقف خلف تواضع التنمية البشرية في العراق، لان المؤسسات الرصينة تعمل بشكل مستقل ومهني وموضوعي بعيد عن الأهواء والشخصنة، من اجل تقديم أفضل الخدمات للمواطنين وبأقل الكلف، وهذا ما يؤدي لتحسن التنمية البشرية، لكن واقع هذه الأخيرة في العراق يدلل على غياب رصانة المؤسسات فظلت التنمية البشرية تعاني من الإهمال خصوصاً عند مقارنتها بالموارد التي يملكها العراق وعند مقارنتها بالدول المُقاربة كما ذُكر آنفاً.
ثالثاً: خطأ عملية التحول في العراق، والذي تسبب في تعثر التحول الاقتصادي وعدم انتقال الاقتصاد العراقي بل ظل في مرحلة انتقالية يمكن أن تستمر لمدة طويلة وربما يعود للمربع الأول، وهذا ما انعكس سلباً على التنمية البشرية.
حيث تم إجراء التحول بشكل مفاجئ ودفعة واحدة، سياسياً واقتصادياً، دون الأخذ بعين الاعتبار مسألة الأولوية للتحول الاجتماعي قبل التحول السياسي والاقتصادي على اعتبار ان هذين التحولين يعتمدان بالأساس على التحول الاجتماعي، مما تسبب في ضعف التنمية البشرية لان السياسة والاقتصاد في واد والمجتمع في وادٍ آخر.
الارتقاء بالتنمية البشرية
يمكن الارتقاء بالتنمية البشرية من خلال مستويين: المستوى الحكومي وغير الحكومي، ومن الممكن أن تتكاتف الجهود بين المستويين لتحقيق الهدف بشكل أسرع وبأقل الكلف.
المستوى الحكومي
أن تقوم الحكومة برسم السياسة السليمة التي تكفل توظيف كل الإمكانات المتاحة واللازمة للارتقاء بالتنمية البشرية، وبالخصوص الأبعاد الثلاثة التي تشكل أساس التنمية البشرية، الحياة المديدة والصحية، والمعرفة، والمستوى المعيشي اللائق.
حيث يُمكن أن تقوم الحكومة بزيادة التخصيصات الاستثمارية بالنسبة للبعدين الأول والثاني لتحسين الجانب الصحي والتربوي والتعليمي.
وتقوم بتحسين المناخ الاستثماري ليصبح قادر على توطين الاستثمار المحلي وجذب الاستثمار الأجنبي لخلق مزيد من فرص العمل وتوليد الدخول للأفراد، فيتحسن البُعد الثالث المتمثل بالمستوى المعيشي اللائق.
وإن ما يسهم في بناء مناخ استثماري جاذب هو تقوية المؤسسات ورفع كفاءة أداؤها، إذ لا يمكن بناء مناخ استثماري في ظل ضعف المؤسسات وخضوعها للأهواء والأمزجة الشخصية.
المستوى غير الحكومي
أي قيام منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية والفكرية وغيرها، بتغيير ثقافة المجتمع تجاه المال، من المال كهدف إلى المال كوسيلة، وذلك خلال تبيان مساوئ هدفيّة المال وكيف إنه ينعكس سلباً على الفرد والمجتمع متى ما أصبح هدف، من جانب، وتبيان محاسن المال كوسيلة وكيف سينعكس إيجاباً على الفرد والمجتمع بمجرد اتخاذه كوسيلة، من جانب آخر.
كلا الجانبين سيولدان القناعة لدى الأفراد والمجتمع بأن المال ليس هدف بل هو وسيلة بحد ذاته لا يمكن أن يكون هدف في يومٍ ما وفق المنطق السليم والتفكير الصحيح، وبمجرد أن تصبح قناعة لدى الأفراد بان المال وسيلة وليس هدف سيُساعد الأغنياء الفقراء، وبهذا تتحسن التنمية البشرية بشكل جذري ولأجيال متعاقبة.
إن تغيير ثقافة المجتمع تجاه المال من هدف إلى وسيلة تتطلب تكاتف الجهود من ناحية واستمرارها من ناحية أخرى، لان عملية تغيير وبناء ثقافة جديدة للمجتمع هي عملية تراكمية لايمكن تأتي أُكلها بجهود متواضعة وغير ومستمرة.
اضافةتعليق