يسكن مدن العراق 70 بالمائة من مواطنيه وفيها اغلب النشاط الاقتصادي، عدا الزراعة والنفط الخام، وايضا الجزء الأعظم من الأنفاق الحكومي وجميع دوائر الدولة في المدن. كما ان مشكلات البناء التحتي والخدمات العامة والسكن... يشملها مفهوم التنمية الحضرية. وتعاني المدينة العراقية من النمو غير المتوازن بين السكان وامكانات خدمتهم من جهة، وضعف السيطرة على مسار التحضر واستخدامات الارض من جهة اخرى.
ولتحقيق انجازات ملموسة، ترفد النهضة الشاملة، من الضروري ربط عملية اصلاح الوضح الحالي بأهداف واضحة من بينها وضع حد نهائي لكافة اشكال الاستخدام غير الرسمي للأرض بإزالة الاسباب التي ادت اليه. ولذا فالتلازم بين الاصلاح واعادة تخطيط استخدامات الارض وتهيئة النطاقات المكانية الكافية للتوسع واحتياجات الاستثمار في البنى التحتية والخدمات العامة، هذه المهمات مجتمعة بحاجة الى قيادة مركزية لبرنامج الاصلاح والتطوير الحضري على المستوى الوطني.
لكن المسالة تبقى معلقة على مدى النجاح في تسريع تنمية البنى التحتية وانهاء مشكلة انتشار السكن في اراضي خالية من العناصر الضرورية للمدينة الحديثة.
ويتعذر الفصل بين مهمات التنمية الحضرية، في العراق، واعمار المدن التي تضررت في العمليات الارهابية والحرب على الارهاب، واعادة الاسر النازحة واستئناف الخدمات الاساسية.
ولقد تناولت مقالات سابقة قيد الموارد على التنمية الحضرية عموما والبنى التحتية خاصة، وهنا نؤكد ان من الاخطار الكبيرة التي تهدد المدينة العراقية، ومستقبل الرفاه في العراق، الاستمرار على الاساليب الحالية في اعداد وتخطيط وادارة تنفيذ برامج ومشاريع البنى التحتية. لأن التغيير الجذري في ادارة برنامج الاستثماري الحكومي، والتدابير الأخرى لتأسيس الشركات المتخصصة ووحدات الرقابة ...، من الشروط الضرورية لخفض التكاليف وبخلافه تتبدد الموارد ويتسع العجز وينتشر البؤس ويزداد اضطراب المجتمع الحضري.
تطال المدينة العراقية، المركز القديم، والنطاق التالي، تحولات في استخدام الارض ومع تغير الوظيفة الاقتصادية يتبدل الطابع الاجتماعي والثقافي قطعا، وهذا النمط من التحول شائع في كل العالم. وبعيدا عن المركز ومحيطه القريب يحصل وعلى نحو مستمر اجتياح التجارة والخدمات لأحياء سكنية. والملاحظ ان تخطيط التنمية الحضرية والضوابط العمرانية تعجز، لحد الآن، عن استيعاب ومواكبة الضغوط الاقتصادية بما فيها قيمة الارض وكلف الفرص البديلة لاستخدامها. ومما يلاحظ ضعف قدرة الأجهزة المعنية على التنسيق والتكامل والفرض المنظم للخطط والضوابط. ومن الامثلة الشائعة في المدينة العراقية التناشز بين مستويات ارضيات الابنية فيما بينها ونسبتها الى الطريق المطلة عليه والشارع الرئيسي، واختلاف عرض الارصفة ومناسيبها وتدرج المناسيب، وعدم اتساق الواجهات وارتفاعات الابنية في المكان الواحد. وهذه النواقص لا تعود كلها الى تجاوزات شاغلي الارض من القطاع الخاص بل ان دوائر البنى التحتية والخدمات والتراخيص لا تستطيع الالتزام دائما بالضوابط ومن الشائع عدم الالتفات الى المناسيب وتدرجها ونسبتها الى ارضيات الابنية عند تجديد الطرق، على سبيل المثال.
ومن المعروف قيام دوائر الحكومة بتخصيص مساحات للسكن وتمليكها مع علم الدوائر المعنية بعدم امكانية خدمتها. وبذلك لا يمكن القول ان السكن غير الرسمي فقط يفتقر الى عناصر المدينة الحديثة بل السكن الرسمي قد لا يختلف كثيرا عما يسمى "العشوائيات".
ان اعتماد اللامركزية في اعادة تخطيط المدن الكبرى في العراق يساعد كثيرا على خفض التكاليف وزيادة الرفاه. وعلى سبيل المثال تقسيم بغداد الى مناطق حضرية متكاملة مكتفية من كافة الخدمات بما فيها تجارة الجملة والمصارف والخدمات الصحية وغيرها لخفض حركة النقل من والى المركز القديم ويقتضي هذا التوجه بعض التحوير وموارد للتعويض وإعادة البناء.
وليس من المبالغة ان التنمية الحضرية لا تستقيم في النهاية الا في سياق تنمية مكانية متكاملة شاملة للأرياف واستحداث وتطوير القرى بالمعايير الحديثة للحد من الهجرة نحو المدن.
لقد اهملت مقاربات التنمية الحضرية في العراق اقتصاديات الارض التي تراوحت قيمتها بين 200 بالمائة الى 250 بالمائة من الناتج المحلي في بريطانيا بعد عام 2002 ما يدل على اهمية الارض المتزايدة في الاقتصاد المعاصر. فهي وعاء للقيمة مثل النقود الوطنية والذهب والعملة الأجنبية والأصول المالية والحقيقية. ولأسعار الارض وتداولها صلة وثيقة بمناخ الاستثمار والادخار وسوف تظهر هذه الصلة أكثر فأكثر في عراق المستقبل. ان انماط انتشار الأنشطة الاقتصادية والخدمية والبنية العمرانية في النسق الحضري وتغيرات استخدامات الارض لا تفهم على الوجه الصحيح دون استحضار قيمة الارض في النموذج النظري ودراسة الواقع.
ان ملكية الجزء الأكبر من ارض العراق حكومية، تسمى اميرية صرفه، وقليل منها ملك صرف للأهالي وقطاع الاعمال الخاص، واخرى رقبتها للدولة وللأفراد حق التصرف بها وهو على نوعين: الطابو الذي حازه الأفراد ابتداء بالشراء من الحكومة ثم تداولوه، والممنوحة باللزمة، والى جانب تلك الاشكال من الملكية والحيازة القانونية عقود الاصلاح الزراعي. وفي الواقع ان حقوق التصرف هي من اشكال الملكية لأنها قابلة للبيع والتحويل ولها اسعار تحركها قوى السوق. ومن اهم محددات اسعار الارض صنفها الرسمي: زراعية؛ زراعية مشغولة بالبساتين؛ او اصناف اخرى ذات استخدامات غير زراعية او حضرية. وتؤثر السياسة الحكومية للأرض من توزيع وتمليك في اسعارها، ومن العوامل الهامة في تحديد السعر قربها من المراكز الحضرية. لذلك تتدرج الأسعار من المركز نزولا الى تخوم المدينة، ومن التخوم الى اعماق الريف، وايضا موقعها من الشوارع الرئيسية خارج المدن.
ان التأثير المتبادل بين اسعار الاراضي واستخداماتها لا بد ان يجد له موضع اهتمام في السياسة الاقتصادية عموما، والتنمية المكانية ايضا، كون الارض من ادوات الاستثمار بذاتها وثمة صلة بين عوائد النشاط الشاغل للأرض وقيمتها وان اغفال هذه العلاقة من اسباب فقدان السيطرة على الانتشار العمراني والاقتصادي في المكان.
سكان الاحياء البائسة والمناطق الفقيرة Slums ضمن حدود المدن حوالي 30 بالمائة من الحضر في الدول النامية، والعراق ليس بعيدا عن هذه الظاهرة في بعض او جميع ابعادها. وذلك لأن التعريف يشمل ليس فقط المساكن المتهالكة او ذات المساحة الصغيرة بل افتقار الأحياء السكنية الى الخدمات الاساسية المتعارف عليها مثل مياه الشرب المنتظمة والصرف الصحي، وايضا مشكلات الوضع الرسمي لأرض السكن او ملكية الارض او اجازة البناء، ما يسمى في العراق سكان العشوائيات، الذين يعذبهم الخوف مما ينتظرهم من إجراءات ومصيرهم السكني. وعادة تعاني المستوطنات غير الرسمية عدم كفاية خدمات التعليم والصحة والامن وفرص العمل وكسب المعاش والاتصالات والفضاءات الخضراء والمعايير العمرانية. وقد انخفضت نسبة سكان الاحياء الفقيرة من الحضر في الدول النامية، لأقرب وحدة مئوية، من 46 بالمائة عام 1990 الى 30 بالمائة عام 2014 ويشير هذا الانخفاض الى امكانية الاصلاح والتطوير، وهي حتما موجودة في العراق، بينما في منطقة غرب آسيا، التي ينتمي اليها العراق، لم تُظهر البيانات المنشورة تحسنا ملموسا إذ كانت النسبة 21 بالمائة سنة 2000 ارتفعت الى 25 بالمائة سنة 2014، وذلك من بيانات الامم المتحدة Habitat في تقريرها ( Slum Almanac 2015- 2016 ) .
إن الاستيعاب الرسمي لتلك الاحياء يتضمن تعديلات من بينها ازالة بعض المشيدات، اضطرارا من اجل الخدمات عندما لا تتوفر مساحات كافية، ونقل بعض الساكنين الى نطاق حضري بديل، وتتطلب هذه السياسة اقناع الساكنين أنفسهم وتعويض ما يلحقهم من خسائر فعلية وعدم التزمت في معاملتهم بحجة عدم انسجام البناء مع الصنف الرسمي للأرض او" مخالفة التصاميم" فهذه لم تعد مقنعة.
ومن السياسات الرائجة والمرتبطة بأهداف التنمية على المستوى الدولي حتى عام 2030 معالجة اوضاع الاحياء الفقيرة تدريجيا بحيث تتوقف زيادتها المطلقة وتنخفض نسبتها من مجموع سكان الحضر حتى تختفي في المستقبل. ان الظاهرة انعكاس للتوسع السكني بأسرع من التخصيص النظامي للأرض وضآلة معدلات تطوير وتوسيع البنى التحتية. وايضا قصور التدابير الحكومية والامكانات المالية عن متطلبات إيواء الاسر الفقيرة التي لا تتناسب قدراتها المحدودة على كسب الدخل مع تكاليف الارض والبناء.
لكن من المفيد التمييز بين الوضع السكني غير الرسمي بصفة عامة ومشكلات التجاوز على حقوق ملكية الارض وخطط استخدامها في الاحياء الفقيرة. وكلاهما يتطلبان تضافر جهود مختلف الدوائر ذات العلاقة للعمل على تصفية التجاوزات على حقوق الملكية وانصاف الفقراء في آن. أي استيعاب الأمر الواقع، قدر الامكان، في سياق اعادة تصنيف الارض حسب الاستخدامات الملائمة. وهذا يعني استيفاء الدولة لفروقات قيمة الارض بين الصنف الاصلي والصنف الجديد بعد تعويض المالك او صاحب حق التصرف عن قيمة الارض المتجاوز عليها. او بيع المنشأ والارض التي اقيم عليها وتوزيع الثمن بين صاحب المنشأ المتجاوز ومالك الارض او الحائز على حق التصرف بها وللحكومة فرق قيمة الصنف. ويعتمد هذا المنهج على مبدأ بان الأرض وما عليها ثروة وطنية بغض النظر عن الإشكالات القانونية وحقوق مختلف الأطراف، فلا يعقل التضحية بالثروة في نطاق البناء غير الرسمي لمجرد انها تمثل مخالفة لتصاميم او خطة استخدام للأرض اعدت قبل عشرات السنين. كما ان البناء غير الرسمي يستند الى مسوغات ديموغرافية واجتماعية واقتصادية واضحة من الصعب تجاهلها لتصحيح اوضاع اجزاء كبيرة من مدن العراق تكونت في مدة ربع قرن او أكثر. ثم ان حق الانسان في السكن والمدينة، والذي لا شك فيه، يبرر التكييف القانوني للأوضاع غير الرسمية بوسائل لا تلحق ضررا فادحا بالصالح العام وتحفظ الحقوق السيادية وحقوق الناس في ملكياتهم وما انشأوا. وتساعد هذه التدابير على استكمال البني التحتي للمدينة العراقية وتطويرها، وايضا فان الاصلاح الشامل للوضع الحالي وفق مبادئ العدالة والانصاف ومراعاة احتياجات الفقراء والضعفاء هو بذاته عملية تنموية كبرى.
ان معالجة وتصحيح الاستخدام غير الرسمي للأرض واستكمال وتطوير البنى التحتية والخدمات العامة والاستعداد لمواجهة متطلبات النمو الحضري كلها عناصر اساسية لمنهجية واحدة. وذلك لتنطلق العملية من المسح التفصيلي للوضع القائم، وبلورة اسس جديدة ثم خطة لتخصيص الارض بين استخداماتها المختلفة تستوعب الأمر الواقع، قدر المكان، ومقتضيات التنمية الحضرية المثلى.
المطلوب ليس فقط قبول الامر الواقع بل تحمل المسؤولية تجاه هذه التجمعات الحضرية الفقيرة نحو معالجة جذرية لمشكلاتها تمهيدا لتطويرها كي يعيش الناس حياة كريمة مطمئنة وفي نفس الوقت احترام حقوق الملكية بجميع صيغها.