يحتل النفط مكانه مهمة ورئيسة في معظم بلدان العالم سواء كانت منتجة او مستهلكة له، وذلك لما له من مميزات ذاتية تجعله يدخل في إنتاج اغلب المنتجات الصناعية وخصوصاً المشتقات النفطية، واستخدامه أيضاً كمصدر من مصادر الطاقة المساهمة في عملية إنتاج السلع والخدمات، وكمصدر مساهم في توليد الطاقة كالطاقة الكهربائية أو غيرها.
ونتيجة لأهميته الذاتية وعدم وجود بديل أفضل منه من حيث المزايا وتكاليف إنتاجه أصبح سلعة استراتيجية دولية ذات ثقل كبير في اقتصاديات كل بلد من ناحية وإعادة ترتيب وصياغة العلاقات الاقتصادية المحلية والإقليمية والدولية من ناحية أخرى، والتي يترتب عليها إعادة صياغة القرارات السياسية من قبل أغلب الدول المنتجة والمصدرة والمستهلكة والمستوردة وذلك بما يتناسب مع مصالح بلدانها.
لعنة الموارد (العلاقة العكسية)
ومع هذه الأهمية على المستوى المحلي والدولي الاقتصادي والسياسي، إلا إن الكثير من البلدان النفطية التي تعد من البلدان الغنية بالموارد تعاني من آثار غير مرغوب بها، حيث لا تلبي مصالح وطموح مالكيها الحقيقيين، ولذا اخذ يعبر عنها بـ" لعنة الموارد " أو " المرض الهولندي" نسبة لما أصاب هولندا عندما اكتشفت الغاز، من آثار غير مرغوب بها على المستوى الاقتصادي.
تحصل العملية العكسية بين المساهمة النفطية والأنشطة الاقتصادية ليس في البلدان النفطية فحسب بل في أغلب البلدان الغنية بالموارد المعدنية الفاقدة لنظم الإدارة السليمة مع غياب الوعي الاجتماعي في توجيه الإدارة الحكومية لتلك الموارد بالاتجاه الذي يخدم مصالحه، كذلك تحصل (العلاقة العكسية) في كل بلد تأتي موارده بالاعتماد على العالم الخارجي حيث لا يسهم المجتمع المحلي في توليد موارده إلا بشكل محدود جداً.
بل يعد الاعتماد على العالم الخارجي في توليد موارد البلد بالتزامن مع محدودية المساهمين المحليين في توليد مصادرهم النقدية، يعد العامل الأهم والأساس في تحقيق العلاقة العكسية بين المساهمة النفطية والأنشطة الاقتصادية، حيث معروف إن الموارد المعدنية التي تستخرج من باطن الأرض ويتم تصديرها للخارج، تحتاج إلى صناعات كثيفة رأس المال ولذا فتكون مساهمة المجتمع محدودة في توليد الدخول وما يزيد الأمر سوء هو عدم تعشيق بل انفصال القطاع النفطي وإيراداته عن التنمية الاقتصادية.
العلاقة العكسية في العراق
ويمكن توضيح تلك العلاقة من خلال توضيح مساهمات الأنشطة الاقتصادية وخصوصاً الزراعة والصيد والغابات والصناعة التحويلية ومقارنتها مع مساهمة الصناعات الاستخراجية في الناتج المحلي الإجمالي في العراق.
ففي عام 1990 كانت مساهمة قطاع الزراعة والصيد والغابات تشكل 19.80%، والصناعة التحويلية تشكل 8.83%، وشكلت مساهمة قطاع التعدين والصناعات الاستخراجية بنسبة 14.29% من الناتج المحلي الإجمالي البالغ 74933 مليون دولار. وباقي النسبة والتي هي 57.08% تمثل مساهمات جميع القطاعات الأخرى كالكهرباء والماء والغاز، والتشييد، والتجارة والمطاعم والفنادق، والنقل والمواصلات والتخزين، والمؤسسات المالية والتأمين، والإسكان، والخدمات الحكومية، والخدمات الأخرى.
أما في عام 2015 فقد كانت مساهمة قطاع الزراعة والصيد والغابات تشكل 5.40%، ويشكل قطاع الصناعات التحويلية 3.84%، ومساهمة قطاع التعدين والصناعات الاستخراجية شكلت 38.26% من الناتج المحلي الإجمالي. وشكلت بقية القطاعات الأخرى النسبة المتبقية وهي 52.5% من الناتج المحلي الإجمالي البالغ 143413 مليون دولار.
المقارنة
فيما يلي إجراء مقارنة تثبت مدى تحقق العلاقة العكسية من خلال نسب مساهمة القطاعات أعلاه للعامين في الناتج الملحي الإجمالي:
- انخفاض مساهمة القطاع الزراعي بما فيه الصيد والغابات إلى 5.40% في عام 2015 بعد إن كانت تشكل 19.80% من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك مقابل ارتفاع مساهمة قطاع التعدين والصناعات الاستخراجية التي يمثل النفط عمودها الأساس في العراق، إلى 38.26% في عام 2015 بعد إن كانت تشكل 14.26% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1990.
- على الرغم من إننا نلاحظ إن مساهمة قطاع الصناعات التحويلية كانت أقل من مساهمة قطاع التعدين والصناعات الاستخراجية في عام 1990، إلا إن هذه الأخيرة أثرت بشكل أكبر على مساهمة الصناعات التحويلية، وستتضح الأسباب فيما بعد. حيث انخفضت مساهمة قطاع الصناعات التحويلية إلى 3.84% في عام 2015 بعد إن كانت 8.83% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1990، وذلك مقابل ارتفاع مساهمة قطاع التعدين والصناعات الاستخراجية وكما واضح في النقطة السابقة.
- كذلك نلاحظ انخفاض مساهمة القطاعات السلعية الأخرى والقطاعات التوزيعية والخدمية، إلى 52.5% في عام 2015 بعد إن كانت تشكل 57.08% من الناتج المحلي الإجمالي عام 1990. وذلك مقابل ارتفاع مساهمة قطاع التعدين والصناعات الاستخراجية.
الأسباب
وتكمن الأسباب نحو تحقق العلاقة العكسية بين المساهمة النفطية والأنشطة الاقتصادية في الاقتصاد الوطني وخصوصاً الناتج المحلي الإجمالي، في غياب الإدارة الكفؤة والإرادة الحقيقية لدى أصحاب القرار والمسؤولين الحكوميين، حيث غياب الإدارة والإرادة، سيفضي إلى أسباب نستطيع تسميتها بالأسباب الاقتصادية الفنية وهي كما يأتي:
1- ارتفاع سعر الصرف، إن اكتشاف الموارد الطبيعية المعدنية ومن ثم تصديرها مقابل الحصول على كميات هائلة من النقد الأجنبي التي ستولد بدورها زيادة الطلب على العملة المحلية وهذه الزيادة ستؤدي إلى ارتفاع قيمة العملية المحلية وهذا يعني ارتفاع أسعار السلع المحلية مقارنة بأسعار السلع الأجنبية، فينخفض الطلب على السلع المحلية نتيجة عدم قدرتها على المنافسة، فانخفاض الطلب عليها يعني انخفاض مساهمة الأنشطة الاقتصادية مقابل ارتفاع المساهمة النفطية في الاقتصاد الوطني وخصوصا الناتج المحلي الإجمالي.
2- زيادة أجور العاملين، إن اكتشاف واستخراج الموارد الطبيعية المعدنية يولد المزيد من العملة الأجنبية، وتكون قيمته المضافة كبيرة جداً، بحيث تساعد على زيادة أجور العاملين في قطاع التعدين والصناعات الاستخراجية، على اعتبارهم المساهمين في زيادة هذه القيمة المضافة ولزيادة تشجيعهم وتحفيزهم في تطوير أداؤهم بالشكل الذي يزيد من إنتاج هذا المورد. إن هذه الزيادة ستجعل العاملين في القطاعات الأخرى يلجأون للعمل في هذا القطاع رغبة بالأجور المرتفعة وهذا سيولد انخفاض عرض العمل في الأنشطة الاقتصادية فيزداد الطلب على قوة العمل فترتفع أجورهم ومن ثم ارتفاع تكاليف إنتاج السلع والخدمات وارتفاع أسعارها أخيرا فينخفض الطلب عليها فتنخفض نسبة مساهمتها في الاقتصاد الوطني.
الحلول
أولا: إيجاد إدارة صاحبة إرادة حقيقية مستقلة ومتخصصة في إدارة القطاع النفطي بالشكل الذي يسهم في دعم التنمية الاقتصادية ولا يمكن الانفصال عنها.
ثانياً: الاهتمام بإدارة سعر الصرف بالشكل الذي يشجع المنتجات الوطنية المنافسة والصمود أمام السلع الأجنبية.
ثالثاً: العمل على جعل رواتب العاملين في الدولة متقاربة حتى لا تحصل الهجرة لبعض القطاعات فترتفع أجور العمل والأسعار.
رابعاً: الاهتمام بتوفير مناخ استثماري يشجع القطاع الخاص على الاستثمار الحقيقي من خلال توفير امتيازات وضمانات تحفزه على الاستثمار.
المصادر:
- صندوق النقد العربي، النشرة الإحصائية للدول العربية، للفترة 1990-1999.
- صندوق النقد العربي، التقرير الاقتصادي الموحد، 2016.
- النسب احتسبت من قبل الكاتب.