إن هناك الكثير من المكتسبات التي حققتها الدولة العراقية من خلال حربها ضد تنظيم "داعش"، لاسيما على الصعيد السياسي والعسكري
إن المتعارف عليه في أعراف الحروب والقواميس العسكرية بأن للحرب نتائج مدمرة على كافة المستويات، وقد تحمل آثار سلبية كبيرة على المدى البعيد، لاسيما على الصعيد الاجتماعي، فحتى الطرف المنتصر في الحرب هو خاسر بحساب المنطق، وعلى الرغم من مرارة الحرب الطويلة التي خاضها العراق بمؤسسته العسكرية بمختلف صنوفها ضد تنظيم داعش، وارتفاع تكاليفها "المادية والبشرية" على مدار الثلاث سنوات الماضية، فضلاً عن الهزائم المتكررة التي منيت بها القوات الأمنية العراقية مع بداية الاجتياح الداعشي، والتي أطاحت بسمعتها الأمنية (محلياً وإقليميا ودولياً)، إلا أن مجريات الحرب تحولت فيما بعد لصالح الدولة العراقية، بغض النظر عن الخسائر الاقتصادية والبشرية. إن هناك الكثير من المكتسبات التي حققتها الدولة العراقية من خلال حربها ضد تنظيم "داعش"، لاسيما على الصعيد السياسي والعسكري. وقد توزعت هذه المكتسبات أو المخرجات على ثلاث مستويات، وهي:
المستوى الوطني
على الرغم من المعاناة الكبيرة التي عاشها الشعب العراقي جراء الحرب ضد تنظيم "داعش"، من تهجير وقتل ونزوح، إلا أن مخرجات هذه الحرب كبيرة نسبياً على المستوى الوطني، لاسيما على صعيد التطور العسكري الذي حظيت به المؤسسة العسكرية العراقية. ويعد هذا التطور في أداء المؤسسة العسكرية بجميع صنوفها أبرز مكتسبات الحرب ضد تنظيم "داعش". إذ حظيت باحترام جميع العراقيين بمختلف مكوناتهم الدينية والمذهبية والقومية وباختلافاتهم السياسية، وتمكنت القوات الأمنية من إعادة ثقتها بنفسها أولاً، ومن ثم إعادة ثقة المواطن العراقي لها، لاسيما بعد كل النكسات وحالات الشك الاجتماعية التي منيت بها بعد عام 2003، لاسيما مع التطور الكبير في أداءها العسكري وتعاملها الإنساني مع كل طبقات المجتمع العراقي من (النازحين والمحاصرين). فثقة المواطن العراقي اليوم بالمؤسسة العسكرية باتت أكبر من أي وقت مضى، وأن النصر العسكري الذي تحقق بعد تحرير محافظة الموصل كان له بُعدين كبيرين:
1. بُعد عسكري: يتمثل بالتطور الكبير في قدرات القوات الأمنية العراقية.
2. وبُعد اجتماعي: تّمثل بإلتفاف جميع العراقيين حول المؤسسة العسكرية. إذ تمكنت القوات الأمنية بجميع صنوفها من ردم تلك الشقوق والتصدعات التي تولدت جراء الصراع السياسي والحرب الطائفية بعد عام 2003، وسد الفجوة الكبيرة التي اخُتلقت بين المواطن والمؤسسة الأمنية نتيجة للسياسات الحكومية السابقة.
كذلك من بين المكتسبات التي حققتها الحرب ضد تنظيم داعش، تبلور المفهوم الوطني أو الشعبي وغياب الهويات الفرعية، فالنصر الذي تحقق، نصر عراقي بعيداً عن كل المسميات الفرعية. ولعل من أبرز مكتسبات هذه الحرب، نزع شرعية تنظيم "داعش" المحلية، وتكذيب اسطورته الخيالية والدينية، وكذلك نزع شرعيته السنية، تلك الشرعية التي صورها الإعلام السياسي المحلي والإقليمي والدولي وطبعها في أذهان الناس، فضلاً عن ذلك، فأن النصر على داعش نزع الشرعية السياسية والاجتماعية لكل المعارضين الذين يعارضون العملية السياسية العراقية، وافشل كل مخططاتهم السياسية "التي رسمتها بعض الدول الإقليمية"، وكذلك أفشل مشاريعهم الطائفية والتقسيمية الهادفة إلى تقسم العراق من خلال المراهنة على المكون السني أو ما يطلق عليها بمظلومة أهل السنة في العراق. فسنة العراق اليوم باتوا أكثر وعياً من السابق، وأدركوا بأن لا سبيل لهم إلا بعراق موحد وقوي بعيداً عن التطرف والارتباطات الخارجية.
المستوى الإقليمي
ربما لا يختلف أثنان على أن حرب العراق ضد تنظيم داعش، إعادت له جزء من سمعته السياسية في المنطقة وقواه العسكرية بين الدول الإقليمية، إذ خاضت القوات الأمنية العراقية ضد تنظيم "داعش" معارك شرسة وحرب شوارع، هي الأولى من نوعها في المنطقة والعالم، وربما لم توجد حرب بالعصر الحديث تتشابه مع تلك الحروب التي خاضتها القوات الأمنية العراقية، فالقيمة هنا ليس بالأسلحة العسكرية فقط، لكن بالقيمة البشرية والروح القتالية التي تسلحت بها القوات العراقية، وهنا يمكن أن نطلق عليها بـ(العقيدة العسكرية العراقية). فهذه العقيدة كانت غائبه عن مبادئ المؤسسة العسكرية العراقية؛ نتيجة للصراعات السياسية والطائفية والارتباطات الخارجية بعد عام 2003، التي اضعفت من قدراتها القتالية كثيراً، وكانت أحد الاسباب المباشرة في سقوط محافظة الموصل. هذا التطور الكبير في أداء المؤسسة العسكرية، أعطى رسالة واضحة للدول المجاورة والإقليمية بأن العراق لا يمكن أن يكون ساحة صراع وحرب بالوكالة بين دول المنطقة، وأن أي تفكير مستقبلي لإعادة سيناريو تنظيم "داعش" إلى العراق، سيكون مصيره الفشل، وأن العراق قادر على صد أي اعتداء يمس سيادته وأمنه القومي، وأن الانتصار على تنظيم "داعش" اعطى صورة واضحة للعالم، ولاسيما للدول الإقليمية، بأن الشعب العراقي، شعب متسامح ومنفتح دينياً وسياساً، ومؤمن بالعملية السياسية والنظام الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة، ورافض لكل الحركات والتنظيمات الإرهابية والسلفية التي صُدرت إليه من دول المنطقة بعد عام 2003.
المستوى الدولي
بالرغم من الانتقادات الكبيرة التي تعرضت لها الحكومة العراقية من المجتمع الدولي، لاسيما من دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية بعد أن سيطرة تنظيم "داعش" على محافظة الموصل، إلا أن معظم دول العالم اليوم ‘‘أن لم تكن جميعها‘‘ تغيرت نظرتها إلى العراق والدولة العراقية بشكل عام. فالانتصارات المتتالية التي حققتها القوات الأمنية العراقية، لاسيما بعد تحرير الموصل، فضلاً عن التغيير النسبي في المنهج السياسي للحكومة العراقية وآلية إدارتها لمعارك التحرير، اعطت صورة مغايرة عن العراق شعباً وحكومةً، إذ اصبحت المؤسسة العسكرية العراقية محط احترام جميع دول العالم، لاسيما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، الذي عبر رئيسها "دونالد ترامب" عن احترامه وتقديره لشجاعة القيادة والمقاتلين العراقيين وقال: بأن الانتصارات العظيمة للمعركة تتردد أصداؤها الآن في كل مدن العالم. هذا الانطباع العالمي سيكون له انعكاسات إيجابية، وسيساهم في مساعدة الحكومة العراقية سياسياً واقتصاديا وعسكرياً، لاسيما في مجال الأعمار وتدريب القوات العراقية والدعم العسكري، فضلاً عن المواقف السياسية الدولية التي ستزيد من قوة الدولة العراقية على الصعيدين الإقليمي والدولي.
إلا أن هذه المكتسبات والمخرجات الإيجابية للحرب العراقية ضد تنظيم "داعش" بحاجة إلى طرق وآليات سياسية ومنهج حكومي واضح المعالم من أجل المحافظة عليها، فالنصر العسكري بحاجة إلى إصلاح سياسي داخلي يشمل المنظومة السياسية للدولة العراقية بجميع مفاصلها؛ لأن جميع هذه المكتسبات ممكن أن تتبعثر بالصراع السياسي وحالة عدم الاستقرار. وعليه فأن جميع القوى السياسية العراقية مطالبة بدعم صانع القرار سياسياً وأمنياً من أجل خلق بيئة سياسية سليمة تحقق الاستقرار السياسي والتعايش المجتمعي ونبذ التطرق، مستغلة بذلك بعض المواقف الإقليمية والدولية الداعمة للحكومة العراقية. فهل أن القوى السياسية العراقية قادرة على نبذ خلافاتها الحزبية وانقسامها السياسي من أجل مشروع وطني يحافظ على مخرجات الحرب ضد تنظيم "داعش" أم ستكون الأزمات السياسية هي المسيطرة على المشهد السياسي العراقي؟
اضافةتعليق