المثقف والمجتمع: الدور والتأثير

شارك الموضوع :

على الرغم من شكوى المثقفين الدائمة؛ بسبب عدم القدرة على كسر الجمود في مجتمعاتهم، وضعف سبل التواصل معها، فان التطور التكنلوجي الهائل في الوقت الحاضر يعطيهم فرصا لم تعط لأقرانهم في الماضي للتحرر من الانعزال او الوقوع تحت الهيمنة القهرية للقوى والقوالب الثقافية السائدة من خلال التواصل الهادف مع مجتمعاتهم، وقيادة التحولات الثقافية المؤثرة داخلها، وهذا الامر حيوي ولا غنى عنه، لاسيما في مجتمعات متنوعة عانت من أزمات الدكتاتورية وعدم الاندماج وهشاشة البناء الديمقراطي كمجتمعاتنا

الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة والمجتمع ليس حديثا جديدا، فقد كُتب عن ذلك الكثير، لاسيما علاقة المثقف بالسلطة، لكننا هنا سنركز فقط على علاقة المثقف بالمجتمع؛ لأن المجتمعات التي يغيب فيها دور المثقف او يضعف تتعرض الى التصحر الثقافي؛ نتيجة فقدانها روح الابداع والخلق، والارتداد القهقهري في ما تنتجه من معارف وفنون وآداب وأفكار، لتصبح في النهاية ساحة مفتوحة لشتى المظاهر الفكرية والسلوكية البدائية؛ بسبب انشغالها بحاجاتها اليومية وولاءاتها الأولية، فتتخلى -جهلا او عمدا – عن التفكير في مستقبلها، ولا تتدارس نتائج افكارها وافعالها المستعجلة، ولذا تصبح قراراتها -العامة والخاصة- قرارات غير حكيمة وذات تأثيرات سلبية، فالحكمة قُرنت بالتأني والتفكير العميق، والمجتمعات التي تقع في شرك الثقافة البدائية تفتقر الى ذلك، ولذا تجدها دائمة النزاع والصراع والانتقال من حال الى حال اسوء منه.

والمثقف هو: ذلك المفكر الواسع المعرفة والاطلاع والاحاطة بظروف بيئته المحيطة، والذي تحرر من القيود الثقافية والمصالح المادية الضيقة لينشغل بإصلاح الشأن العام لمجتمعه، عارفا بما يتطلبه الإصلاح من مراجعة ونقد وتصحيح وتغيير في العقليات الفكرية السائدة والقرارات والإجراءات العملية المطبقة. 

وعليه، لا تطلق كلمة المثقف على من يقرأ ويكتب او من يحمل شهادة علمية في تخصص ما، بل تطلق على من يكون واسع الاطلاع والمعرفة، ولديه القدرة على التفكير النقدي البناء لما يحيط به، مع استعداده الدائم للانفتاح على الرأي الاخر، والعمل الدؤوب للخوض في حوارات ثقافية تشمل شتى الموضوعات حتى تلك التي يُنظر اليها على انها من المحرمات او الخطوط الحمراء التي لا يمكن الاقتراب منها، ناهيك عن امتلاكه الاستعداد الذهني: المعرفي والعملي لصناعة التغيير والتأثير في الرأي العام. 

ان غياب هذه المواصفات لدى كثير من الناس، على الرغم من امتلاكهم لشهادات علمية مرموقة جعلتهم مجرد متخصصين في علومهم الخاصة، لكنهم غير مفيدين في صناعة التغيير الثقافي الإيجابي في مجتمعهم، ولذا تجدهم عند اهتمامهم -أحيانا- بالشأن العام لا يختلف اهتمامهم كثيرا عمن دونهم في العلم من أبناء المجتمع، سواء في نمط التفكير او السلوك، وهذا ما جعل الكثير يتساءل متعجبا كيف لهذا الفلان الفلاني... ان يقول ويفعل ما يفعله ذلك الانسان العادي في المجتمع؟ 

والجواب هو ان هذا وامثاله امسكوا زمام العلم، دون ان يمسكوا زمام الثقافة الحقيقية، فعلت شهاداتهم العلمية عن اقرانهم، ولكن تشابهت عقلياتهم الفكرية معهم، وعندما يشعرون بالفجوة بينهم وبين مجتمعهم؛ نتيجة عدم امتلاكهم مؤهلات التأثير الإيجابي فيه يميلون الى التعالي عليه بالجلوس في بروج عاجية، دافنين انفسهم في تخصصاتهم العلمية الضيقة او بين جدران منازلهم لا مبالين بما يحصل حولهم، ومنهم من يميل-أحيانا- الى التعصب الفكري والسلوكي فتجده منخرطا بالعمل مع تيارات فكرية متعصبة ومتطرفة او واقعا في فخ البحث عن مغانم سريعة على أبواب رجال السلطة والحكم الفاسدين، غير مباليا في ان يصبح بيدقا بأيديهم او ناطقا رسميا باسمهم.

ان الثقافة اشبه بمكونات البناء، والمثقف الحقيقي هو عامل البناء المحترف المشرف على هندستها، ومخرجاته الفكرية والسلوكية تمثل الاسمنت الذي يربط تلك المكونات؛ لمنحها التماسك والقوة والاستمرار، فضلا عن الابداع والجمال، وعندما يختفي المثقفون الحقيقيون ويهيمن الزائفون من انصاف المثقفين او غير المثقفين، تكون النتيجة تشويه البناء الثقافي، وارباك المجتمع معرفيا وسلوكيا، فتجد كل فرد يضفي على المفردات المتداولة وقواعد السلوك السائدة معان واعتقادات تحرفها عن مسارها الصحيح او يصبح اسيرا لمعان واعتقادات بالية تحول بينه وبين التحرر من ثقافة الجمود والتخلف والبدائية.

وكلما زاد عدد المثقفين الحقيقيين في المجتمع زادت فرص السلام والمحبة والتمدن والنضوج العقلي، وتطورت منظومة الاخلاق والسلوك الاجتماعي، وامتدت الجسور بين الانسان وأخيه الانسان بصرف النظر عن الانتماءات الفكرية والدينية والعرقية، وحل التعاون والتنافس البناء محل التنازع والصراع الهدام؛ لأن وجود المثقف الحقيقي الملتزم أخلاقيا بدوره يعني اعلاء الاهتمام بالشأن العام على الاهتمام الاناني بالشأن الخاص، مع احترام الحدود الفاصلة بين الاثنين.

وعلى الرغم من شكوى المثقفين الدائمة؛ بسبب عدم القدرة على كسر الجمود في مجتمعاتهم، وضعف سبل التواصل معها، فان التطور التكنلوجي الهائل في الوقت الحاضر يعطيهم فرصا لم تعط لأقرانهم في الماضي للتحرر من الانعزال او الوقوع تحت الهيمنة القهرية للقوى والقوالب الثقافية السائدة من خلال التواصل الهادف مع مجتمعاتهم، وقيادة التحولات الثقافية المؤثرة داخلها، وهذا الامر حيوي ولا غنى عنه، لاسيما في مجتمعات متنوعة عانت من أزمات الدكتاتورية وعدم الاندماج وهشاشة البناء الديمقراطي كمجتمعاتنا.

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية