الحضارة Civilizations هي نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي ، وتتكون من عناصر اربع : الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون؛ وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمِنَ الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها بمساندة من النخب الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها من النخب التي تعد اساس في النهضة الحضارية او الابداع الحضاري ، وربما المواجهة الحضارية.
واليوم تشهد حضارتنا الإسلامية مرحلة خطرة للغاية وسط تراجع النخبة عن أداء المهام الحضارية التي من شأنها ان تعطي دفعا معنويا وماديا يجعل من الحضارة الإسلامية أو المنتج الحضاري الإسلامي ممسكا بزمام القدرة على مواكبة الاحداث الزمانية والمكانية ، فحضارتنا يتم تحريكها من قبل جماعات دولية وإقليمية تتحكم بمسار الإعلام والفكر وفق نظرية تصارعيه لا حوارية تقود الى بث التطرف والتشتت والفوضى في الميدان ، لصناعة نتاج فكري متطرف بامتياز، ولا بد من الإشارة إلى أن هدف القوى المؤججة للصراع والتطرف هو إلغاء المركزية البسيطة التي يتمتع بها المجتمع الإسلامي ، وهذه المركزية تلغى من خلال اختراق المنظومة الأسرية ، وإنهاء تواجدها كمنظومة إصلاحية في الحل الحضاري ، وإضاعة البوصلة التي تتحدد على أساسها الأفكار وتتبلور المواقف التي تشخص مكامن السلب ومنابع الإيجاب .
وهذا الواقع سيولد على المدى البعيد انحرافا حضاريا على الصعيد الفردي والجماعي ، السياسي والمؤسساتي .. وكل المؤشرات تؤكد أن الصراع الحضاري العالمي يتجه رويدا رويدا باتجاه استهداف الحضارة الاسلامية ، وهذا الاستهداف يأتي بمساندة فاعلة من عقليات مشتركة في ادارة بوصلة الصراع الخفي ، الناعم الوطأة ، والشديد التأثير ، بالاشتراك مع تنظيمات إسلامية ، اخطأت في قراءة الواقع الفكري العالمي ، وسط محاولة منظمة لتشويه الحضارة الاسلامية وبث الشلل في ديناميكية النصوص البنيوية التطورية المرتبطة بها.
ووسط هذا الصراع تولدت اتجاهات لدى كثير من الشباب والجيل المعاصر للإحداث إلى أن تستسلم للضغوط الإعلامية ، فتكونت جراء ذلك ظاهرة خطرة للغاية ، وهي ظاهرة استيراد الأفكار وتراجع النخبة الفاعلة عن توضيح مصدر وقصد هذه الأفكار ، ذات المنابع المشكوك في دقتها ، اوحرصها على التطور الحضاري الإسلامي ، فتحول الفكر المستورد إلى ممارسة فكرية واتخذ موقعه كمرتكز أخلاقي اجتماعي ، وهنا مكمن الاشكال ، ومركز المرض الحضاري ، لان هذا المرتكز الاخلاقي سوف تترتب عليه ممارسة واقعية لقواعد الفكر الهجين ، فتظهر سلوكيات غريبة بعيدة عن الواقع الاسلامي لتأتي الصدمة الحضارية وتتراجع إلى الوراء حضارتنا الاسلامية بفعل هذه الأساليب .
ان هذه الفوضى المؤسساتية و السياسية والفكرية والاجتماعية والثقافية التي تعاني منها مجتمعاتنا اليوم ، جعلت من الشعوب تتوقف عن الابداع المستدام او المتجدد ، وبنفس الوقت تنتظر أفكارا خلاقة وسط عجز نخبوي عن اظهارها ووضع قواعد تطبيقها اجتماعيا ، لصناعة الحضارة ، او اعادة اصلاح عللها لتنهض من جديد لان الحضارة منجز عالمي ، والإنسان بدون منجز لا قيمة له ، كذلك المجتمع ، الذي تتغلب عليه مركبات التطرف لتعقيده على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري والثقافي ، واختراقه ، وتخريب منظومته القيمية والاخلاقية والفكرية المتحكمة بعملية الإنتاج الحضاري ، وخطورة الأمر تقتضي رفع راية الاعتدال ، ووضع الحلول الجذرية لمشكلة التطرف من منطلق إسلامي أصيل ، بمساعدة مراكز الأبحاث ومنظمات المجتمع المدني ومؤسسات اصلاح الاسرة والمجتمع ، لاصلاح المجتمع اصلاحا متكامل الاركان راسخ القواعد ، ومواجهة المنظمات والقوى العالمية والإقليمية والوطنية التي تضغط باتجاه تأجيج الصراع على حساب الحوار والاعتدال .
ومن الحلول المقترحة لوضع خارطة طريق في هذا المجال ما يلي :
- الاهتمام بالأسرة لأهميتها وتشعب قدراتها ودقة وحيوية وجودها في قلب الصناعة الحضارية والاجتماعية ، فهي عنصر فعال في صناعة او اعادة تهيئة حضارات نقية المنبع سليمة البناء والوجود.
- تبني واعادة الادوار واحالتها للنخبة الخلاقة المبدعة لمواجهة العجز الفكري الذي دفع المجتمع لاستيراد الأفكار بصورة تلقائية ، وهذا يأتي من خلال التشخيص الدقيق للمشاكل والعوائق أمام الارتقاء الحضاري ، ثم تغليب العقل وتنقية الأفكار ، لقبول الأحسن وترك الأسوأ،عبر تنقية فكرية بأسلوب علمي سلمي ومنهج فكري معتدل الاتجاه متزن الطرح واقعي الفكر متلائم مع العصر ، يدار ويبث من خلال اعلام هادف بناء لامسيس حتى يبتعد عن الحلول الترقيعية العاجلة وضيقة الأفق.
- تحديد المسارات المستوردة وبيان نهاياتها لكي تعرف وتتيقن بمعرفتها الجماعات المتطرفة المتناحرة والمتصارعة ان المراد من التطرف هو القضاء على اهم عنصر من عناصر حضارتنا هو فكرة التطور والارتقاء من خلال الحوار والاعتدال .
- تغليب الاعتدال على التطرف وعكس المعادلة للنهوض بواقعنا الاجتماعي والفكري عبر التفاهم لا التقاتل والاحتراب فما الاحتراب الا محاولة لجرنا الى الوراء قرونا بعيدة سحيقة عن المسيرة الحضارية .
- اعطاء مساحة واسعة من الحرية لمراكز الابحاث الغير مسيسة أو موجهة ، كذلك الحال بالنسبة لمنظمات المجتمع المدني خاصة ذات الاهداف الاستراتيجية لاهميتها في التشخيص العلمي وقدرتها الفاعلة على اختراق العقول واستئصال جذور التطرف ، لسد الفجوات الفكرية التي تخلق الازمات والاختناقات الدافعة للاستيراد الخارجي.
اضافةتعليق