تجديد الخطاب السياسي الإسلامي في العراق

المقال الأول-العوامل المؤثرة في انتاج الخطاب

بقلم: الأستاذ الدكتور خالد عليوي العرداوي

شباط-فبراير 2024

 

منذ سبعينات القرن العشرين المنصرم برزت ظاهرة الصحوة الإسلامية، فأصبحت القوى السياسية المرتبطة بها لاعبا أساسيا في العالم عموما، وفي الشرق الأوسط على وجه الخصوص، وظهر تأثيرها في ساحات وقضايا عديدة كانت تخوض فيها حوارا ساخنا، وصراعا حقيقيا-أحيانا-مع قوى محلية ودولية عديدة.

وكان العراق –ولا زال-واحدا من أكثر الساحات التي خاضت فيها القوى الإسلامية منافساتها وصراعاتها، لأثبات وجودها، وتأكيد نفوذها، والبرهنة على صحة اطروحاتها، ولكن الخطاب السياسي لهذه القوى لم يكن يخلو-في كثير من الأحيان-من ثغرات وعثرات، سببها طبيعة الظروف التي خرجت من رحمها هذه القوى، من جانب، والبنية الداخلية الفكرية التي حكمت مسارها الحركي في الحياة السياسية، من جانب آخر.

لقد انعكس تأثير هذه الظروف والبنية الفكرية على أداء الإسلاميين عند وصولهم الى سدة السلطة في بعض البلدان، فاضعف أدائهم، وشكك البعض بصحة اطروحاتهم ، وربما فاعليتها في ظل بيئة إقليمية ودولية متغيرة تتطور باستمرار ومنفتحة على تحولات جديدة غير مألوفة في حياة البشر، لاسيما في القرن الحادي والعشرين وما يحمله من توقعات وتصورات تنطوي على أنماط جديدة من القيم والاحكام من المتوقع ان تقلب حياة الناس رأسا على عقب، وفي الوقت الذي تبشرهم بالكثير من الأمور الجيدة، فإنها تنذرهم-أيضا- بمخاوف ومخاطر لم تكن تخطر على بال اسلافهم القريبين.

ويتطلب مواجهة مثل هذه البيئة قدرا عال من التكيف الفكري والسلوكي من قبل جميع المجتمعات، وبصرف النظر عن توجهاتها العقائدية والفكرية، فالتكيف وحده كفيل بالحفاظ على ديمومتها وقوة حضورها وتأثيرها، اما من يعجز عن التكيف فمصيره التراجع المستمر، والافول في النهاية.

ولذا يأتي هذا المقال والمقالات اللاحقة كمحاولة من كاتب هذه السطور لتسليط الضوء على الخطاب السياسي الإسلامي المعاصر، اذ سيتم في هذا المقال الحديث عن محددات البيئة التي ظهر فيها هذا الخطاب، والعوامل التي حكمت مساره النظري والعملي، فيما سيركز المقال الثاني على انعكاسات وتأثيرات هذه العوامل عليه، اما المقال الثالث فسيعطي رؤية مستقبلية لمتطلبات تجديده لمواكبة متغيرات العصر.

العوامل المؤثرة في انتاج الخطاب السياسي الإسلامي المعاصر

يمكن تحديد اربعة عوامل مهمة تظافرت فيما بينها لانتاج الخطاب السياسي الإسلامي المعاصر، ولا يمكن فهم هذا الخطاب من دون فهمها، وهذه العوامل هي:

1-صدمة الغرب الحديث.

عاش العالم الإسلامي طيلة العصور الوسطى حالة من المركزية الثقافية حددت بشكل كبير نظرته وعلاقته مع الاخر، انطلاقا من تفوقه وتقدمه الثقافي والحضاري، ولكنه لم يتمكن من الحفاظ على هذا التفوق وأخذ يفقده بشكل تدريجي وصولا الى العصور الحديثة، في الوقت الذي كسر الاخر-لاسيما الغرب-أغلال تخلفه ووضع نفسه في مسار صلب من التقدم والتفوق المتراكم والمستمر.

ان ادراك المسلمين لواقع تخلفهم تأخر كثيرا، على الرغم من كثرة المؤشرات الدالة عليه، ولذا استمر اعتقادهم –الفكري على الأقل- ببقاء تفوقهم وتخلف الاخرين عنهم، ولكن هذا الاعتقاد الخاطئ بدأ يهتز تدريجيا، في البداية من خلال الاحتكاك العسكري مع الأمم الأوروبية، فتبين مقدار الفارق بين التنظيم والتجهيز العسكري للجيوش الأوروبية الحديثة وبين جيوش الدول الإسلامية، لاسيما العثمانية، قديمة الطراز، ثم اتسع الامر بعد ذلك من خلال العلاقات التجارية والبعثات الدبلوماسية والارساليات التبشيرية وجولات الرحالة الغربيين، الا ان ذلك لم يُحدث تأثيره المطلوب في ايقاظ وعي المسلمين الشامل بحقيقة تخلفهم، واقتصر الامر على محاولات هنا وهناك للقيام بتحديثات جزئية في القوانين والأنظمة والمؤسسات العسكرية.

لقد كان الحدث الأكبر الذي ولد صدمة مؤثرة للمسلمين هو الحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام (1798-1801)، حيث استطاع الجيش الفرنسي احتلال قلب العالم الإسلامي بسرعة كبيرة، وجاء مصحوبا بمظاهر حداثته المادية والفكرية، وقد انتهى الاحتلال العسكري للفرنسيين في بضعة سنوات، ولكن تأثيرهم الفكري سيمتد بعدهم لعقود، اذ قاد الاحتلال وما صاحبه من جمهور العلماء والمفكرين الى ايقاظ الكثير من المسلمين من سباتهم الطويل، لا سيما العرب منهم، وبدأ ما يسمى عصر النهضة في البلاد العربية والإسلامية المصحوب بحالة الانبهار بالغرب والعجب من تفوقه الفكري والمادي، فكان السؤال المحوري لمفكري هذه الحقبة هو: لماذا تخلفنا وتقدم الآخرون؟

وانشغل المفكرون في ذلك الوقت المبكر عند اجابتهم عن هذا السؤال بمحاولة فهم الغرب والموائمة بين ثقافته والثقافة الإسلامية، ونقل تجربته في التنظيم والمأسسة والتصورات الفكرية الى العالم الإسلامي، وهذا ما تجده عند جمهور العلماء والمفكرين من أمثال: رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873)، ومحمد عبده (1849-1905)، وجمال الدين الافغاني (1838-1897)، وخير الدين التونسي (1820-1890)، وعبد الرحمن الكواكبي (1855-1905)، ومحمد رشيد رضا (1865-1935)، والشيخ محمد حسين النائيني (1869-1936)، وعبد الحميد بن باديس (1889-1940).

نعم لم تكن الأفكار في هذه المرحلة تخلو من نقد للغرب تجده في ثورية السيد الافغاني على سبيل المثال، ولكن النقد الأشد كان موجها الى مظاهر التخلف لدى المسلمين في ميدان السياسة والتربية والتعليم وتنظيم العلاقات وبناء المؤسسات وغيرها، ولم يكن الغرب قد اكتسب صفته كعدو، الا في إطار التصور الثقافي العام فيما يتعلق بدار الإسلام ودار الكفر، فيما اهتز بشكل قوي التصور السائد حول التفوق ومركزية العالم الإسلامي.

ونظرا لعدم إيقاف عجلة التخلف والتراجع الإسلامي، وعدم اتخاذ خطوات فعالة تضع الإجابة عن السؤال أعلاه موضع التطبيق الدائم والمستمر لتفوق إسلامي جديد، من جانب، واستمرار التقدم الغربي وتحوله من مظهره التجاري-الثقافي الى مظهره الكولونيالي الغاشم بداية من البلقان وأوروبا الوسطى ليمتد بعدها الى أسيا الوسطى وشمال افريقيا والشرق الأوسط في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وجسده بصورته الأفظع الاحتلال الفرنسي والبريطاني لولايات الامبراطورية العثمانية وصولا الى تفكيكها وتقسيمها في الحرب العالمية الأولى.

هذا التهديد الطويل والمذل والمستمر للعالم الإسلامي من قبل الغرب الاستعماري قاد في مرحلة لاحقة الى اهمال الإجابة عن السؤال أعلاه بشكل كبير، وتحولت حالة الانبهار بالغرب الى حالة الاحتقان والتطرف الموجه ضده، فبدأ  الكثير من المسلمين مرحلة جديدة من التمحور حول الذات لأثبات الهوية والتخندق العدائي ضد الاخر الغربي، وصولا الى شيطنته واتهامه بالتآمر المستمر على حاضر ومستقبل المسلمين، ولا يخلو هذا الاتهام في كثير من الأحيان من الواقعية، وتعد اتفاقية سايكس بيكو (1916) وانشاء الكيان الصهيوني في فلسطين من الأدلة الدامغة المؤكدة له.

ولكن انشغال المسلمين بالتحرر من الاستعمار الغربي، والنقمة المترتبة عليه، والشعور بتفوقه وانتصاره لم يكن مجرد حدث عابر في حياة المسلمين، وانما سيترك تأثيره الواضح على نمط تفكيرهم المتمركز حول اثبات الذات ، وستبدو نتائجه من خلال كتابات ومواقف المفكرين المسلمين الذين ظهروا  في مرحلة الاستعمار وما بعد الاستقلال، وقد ظهرت جلية واضحة لدى السيد الخميني(1902-1989)، وأبو الأعلى المودودي (1903-1977)، وحسن البنا (1906-1949)، وسيد قطب (1906-1966)، وعلال الفاسي (1910-1974)، والسيد محمد الشيرازي (1928-2001)،والسيد محمد باقر الصدر (1935-1980)، والسيد محمد محمد صادق الصدر (1943-1999) وغيرهم.

وفي ظل هذه المرحلة لم يعد الانشغال الفكري منصبا على تحقيق الموائمة بين الفكر الغربي والفكري الإسلامي، بل تجده مركزا بشدة على اثبات صحة الفكر الإسلامي وبطلان الفكر الغربي، فهو حديث عن إزاحة فكر لفكر آخر، بل إزاحة منظومة قيمية لمنظومة قيمية أخرى تراها معادية لها في كثير من الاحيان، فالجسور التي حاول فكر عصر النهضة اقامتها عندما كان يتساءل عن أسباب تقدم الغرب وتخلف المسلمين، وممارسته نقدا بناء للذات، وتحليلا شاملا للآخر من موقع المنافس لا العدو، اخذت تُقطع في ظل المرحلة الجديدة، بل تم تحميل الآخر المسؤولية الكاملة عن تخلف الذات وقهرها وتحجيم دورها، ومما زاد من وقع الامر وقسوته السايكولوجية الممارسات الغربية المتعالية والباحثة عن مصالح القوى الغربية بصرف النظر عن مصالح البلدان الإسلامية وحاجاتها وخصوصيتها الثقافية، وباتت الذات الإسلامية المجروحة تنظر لنفسها كضحية لا تتحمل المسؤولية عن استمرار اخضاعها، ضحية يتمحور دورها حول الخلاص من جلادها الغربي وادواته المادية والفكرية في بلاد المسلمين، ضحية أخذت تقنع نفسها –في بعض الأحيان-بأن ابتلائها جزء من مخطط سماوي سيعيد لها دورها من جديد لتعيد تفوقها ومركزيتها الحضارية السابقة.

2-الصراع مع الأنظمة الحاكمة المستبدة.

لم يتشكل الخطاب السياسي الإسلامي المعاصر عموما، والعراقي على وجه الخصوص-لا سيما في عهد الجيل الثاني من المفكرين الإسلاميين-في بيئة سياسية محلية ديمقراطية او شبه ديمقراطية، بل تشكل في بيئة سياسية مستبدة ودكتاتورية الى ابعد الحدود، نتيجة وجود أنظمة حاكمة غير متصالحة مع شعوبها: اما لأنها صنيعة الاستعمار الغربي وحامية لنفوذه ومصالحه في بلدانها ومنطقتها، واما لأنها جاءت نتيجة انقلابات عسكرية مهدت للاستبداد والدكتاتورية الحزبية والفردية فسحقت كرامة الانسان وصادرت معظم حقوقه وحرياته المحترمة.

وفي مثل هذه البيئة عاش الفكر السياسي الإسلامي المعاصر محنته السياسية، وتحمل عناء البحث عن حلول لمشاكل مجتمعه وهو يتعرض للضغط الشديد من اتجاهين: 

الأول-مثلته أنظمة حاكمة قاسية لا تتقبل فكرة التداول السلمي للسلطة، وتعد كل فكر او طرح مغاير لها فكرا وطرحا هداما لا تتهاون معه وغير مستعدة للحوار مع ممثليه. 

الثاني- مثلته الشعوب الإسلامية، ممثلة بشبابها الطموح والثائر على أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية غير العادلة، واوضاعه السياسية التي انتجت الهزيمة والانكسار والشعور بوطئة العار، لاسيما بعد تقسيم البلدان العربية والإسلامية في اعقاب الحرب العالمية الأولى، وزرع الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي والإسلامي، وما افرزته الهزائم المذلة في الحروب التي خاضتها البلدان العربية مع هذا الكيان من مرارة وحسرة قادت الى ما يسمى في الكتابات الإسلامية بالصحوة الإسلامية في عقدي الستينات والسبعينات من القرن العشرين، عندما جرى رفع شعار الإسلام هو الحل، كشعار لمعظم القوى الإسلامية ومعها جزء كبير من الشعوب الإسلامية –العربية الباحثة عن بديل للواقع السياسي غير المرغوب فيه.

لقد واجه الفكر الإسلامي ودعاته الرئيسيين واتباعهم ظروفا شديدة التحدي، ومليئة بالتضييق والتقييد وغياب الحرية، تتطلب منه الاستجابة لها بما يناسبها، فكان يمثل تيار المعارضة الرئيس لتيار السلطة والتيارات السياسية الأخرى المتهمة بالانسلاخ الثقافي والعمالة والرجعية، وكلما اشتد الخناق عليه اشتدت مقاومته للسلطة، ولذا تجد ان القوى الإسلامية فقدت الكثير من قادتها واتباعها لا في معارك خارجية خاضتها خارج دولها الإسلامية، وانما خسرتهم في مشانق وسجون الحكومات الإسلامية نفسها، او في عمليات الاغتيال والنفي المنظمة من قبلها، كما هو الحال مع الصدرين (محمد باقر ومحمد محمد صادق) في العراق، فضلا على الاف آخرين من الإسلاميين الذين فقدوا حياتهم او تعرضوا هم وعوائلهم للمطاردة والتنكيل وسائر أنواع التعذيب.

ان المواجهة مع الأنظمة الحاكمة المستبدة او المتهمة بالعمالة والخنوع للأجنبي استهلكت الطاقات الفكرية للإسلاميين، كما استهلكت معظم وقتهم وجهودهم العملية، وكانت ساحات (جهادهم) الرئيسة دولهم الإسلامية نفسها، واعدائهم المباشرين حكامهم المسلمين او افرادا من تيارات فكرية أخرى ينتمون لمجتمعاتهم المسلمة نفسها كالقوميين والشيوعيين والليبراليين، وكان تنافس الجميع حول ايهم أكثر قدرة على تلبية طموحات شعوبهم المسلمة في غالبيتها، والاستجابة لمطالبها المشروعة في الحياة العادلة، ونظام الحكم الأفضل.

نعم الكل من الإسلاميين والحكومات والتيارات الفكرية المختلفة كان يتصارع حول التأثير في الجماهير وكسب ولائها، وسحب البساط من اقدام منافسيه وتحقيق الانتصار عليهم، فدفعت شدة المنافسة وغياب التقاليد الديمقراطية الى توليد بيئة صراعية صفرية، يكون الانتصار فيها لطرف هزيمة كاملة للطرف الاخر، وقد تحكم الصراع بالنمط الفكري والسلوكي للجميع، فقاد الانشغال بهزيمة الخصوم الى نسيان الاهتمام ببناء الانسان والدولة في المرحلة اللاحقة، بل ان بناء الدولة كان هدفا ثانويا قياسا بالهدف الرئيس المتمثل بالاستحواذ عليها وتحقيق الانتصار في الصراع مع الخصوم بأي ثمن.

3-ارث الماضي.

عندما تكون البيئة السياسية منغلقة ثقافيا كالبيئة التي ظهر وتطور فيها الفكر الإسلامي المعاصر، حيث لم يعتد افرادها على الحوار في ظروف منفتحة تقبل الرأي والرأي الآخر، والتوصل الى قناعات جديدة حول القضايا المختلف عليها، فان نمط التفكير في الحلول والحاجات لمشاكل العصر ومقتضياته سينطلق من الأطر الثقافية المتعارف عليها لدى كل فريق، وتكون الرؤية حينها رؤية ضيقة تفتقر الى الشمولية والادراك للواقع المعاش.

وعليه ولد الفكر السياسي الإسلامي المعاصر وهو يعيش تحت وطئة تراثه الثقافي القديم بجميع سردياته وصراعاته وحقائقه التاريخية التي عاشها السلف في القرون الوسطى الإسلامية، بل انه استعاد صراعات السلف وأدبهم الاحتجاجي بعضهم اتجاه البعض الآخر، ولكنه حاول قدر الإمكان الباسها ثوب المعاصرة، خاصة فيما يتعلق منها بنظام الحكم من قبيل المفردات المرتبطة بالأنظمة القانونية، والمؤسساتية، واختيار الحكام والمسؤولين وتسمياتهم، والعلاقة بين السلطات، والجنسية، والعلاقات الدولية، والثروة العامة، وغيرها من المفردات التي حلت بشكل ما محل مفردات الامام والخليفة، والبيعة، وأهل الحل والعقد، وبلاد الكفر وبلاد الإسلام، والمسلمين وأهل الذمة، وبيت المال...ولكن هذا التغيير في المفردات لم يغير كثيرا نمط التفكير بها اليوم عن الطريقة التي كان يفكر بها المسلمون في العصور الوسطى، بل انهم حاولوا قدر الإمكان تكييف الحديث والمعاصر بما كان سائدا لدى القدماء لا العكس، وكان الماضي حاكما على الحاضر اكثر مما كان الحاضر تطورا طبيعيا يستلهم دروس الماضي ويستفيد من اخطائه ويتجاوز نقاط ضعفه الاحتجاجية.

وما زاد من تعقيد المشكلة هو ان الخطاب الإسلامي المعاصر لا يمثل لونا فكريا إسلاميا واحدا، وانما هو بحكم انغلاقه وتخندقه الفكري تعددت الوانه بألوان الطوائف والمذاهب الإسلامية، أي ان الباحث في هذا الفكر لن يجد فكرا إسلاميا متفق عليه من الجميع، وانما سيجد فكرا شيعيا إسلاميا، وفكرا سنيا إسلاميا، وفكرا سلفيا إسلاميا، وسينقسم كل فكر الى تيارات فكرية عديدة مختلفة الرؤى والتصورات، ولكن ما يجمعها جميعا هو التأثير الحاسم لأرث الماضي عليها فقهيا واصوليا، وعلى مستوى التجربة التاريخية في الحكم، وصراعات الطوائف العتيقة.

وهذا الحضور العاطفي والفكري الكبير للماضي، ومحاولة إعادة انتاجه بأثواب معاصرة شغل الإسلاميون كثيرا، وأضعف تركيزهم على حاضرهم من جانب، وابعدهم بعضهم عن البعض الآخر، من جانب آخر، فطريقة قراءتهم لماضيهم ستكون مختلفة قطعا، ومحاولتهم استحضار فقه الماضي وتجاربه التي لها خصوصيتها المكانية والزمانية وإسقاطها على الحاضر، جلب معه مشاكل الماضي وأزماته لتضاف الى مشاكل الحاضر وازماته، مما جعل الشعوب الإسلامية في ظل هذا الفكر تواجه مشاكلا وأزمات مضاعفة، وتجد الدليل على تأثير ارث الماضي في الاختلاف السائد في الفكر الإسلامي المعاصر من خلال ما يطرحه هذا الفكر من طروحات سياسية كنظرية ولاية الفقيه ونظرية الحاكمية ، وفكرة الامة حاملة الرسالة وفكرة الامة المهاجرة ... ناهيك عن إعادة انتاج مفردات مؤذية للسلم المجتمعي كالروافض والنواصب ذات البعد القرو سطي بثوب معاصر زاد من تفتيت الشعوب الإسلامية ومزق وحدتها، بل ان ظهور السلفية الجهادية ساهم في تغيير ظروف الصراع مع الاخر وفقا لهوية العدو المفترض، وحسب منطلقات ومصالح كل فرقة من فرقها بين عدو قريب مثلته الحكومات وبعض الشعوب الإسلامية حسب تفسير داعش واخواتها  أو عدو بعيد مثلته الحكومات والشعوب الغربية حسب تفسير أسامة بن لادن وايمن الظواهري ومن يقول بقولهما.

4-وصاية الخط العقائدي-الفقهي على الخط السياسي.

عند الاطلاع على مسار الخطاب السياسي للفكر الإسلامي العاصر، وخاصة في العراق، تجد ان هناك تداخلا كبيرا، بل هيمنة ووصاية تامة للخط العقائدي على الخط السياسي في هذا الخطاب، ولذا نادرا ما تجد فيه مفكرين سياسيين متخصصين، وانما تجد فقهاء يفكرون بالسياسة، وتُكتسب شرعية كل تيار فكري من الفقيه العقائدي الذي ينتسب اليه. وهذا الامر لن يكون بلا عواقب على مجمل الخطاب (فكريا وحركيا) فالمعروف ان عمل الفقيه الأساس سواء كان مرجعا ام مرشدا ...هو الفتوى الدينية وليس السياسة، وما السياسة الا مجرد مجال واحد من مجالات اهتمامه، على العكس من المفكر السياسي الذي تكون السياسة هي الميدان الرئيس لتفكيره وحركته، فهو يراقب تطوراتها ويقدر ظروفها ويضع باستمرار الحلول المناسبة لمشاكلها المتجددة.

ونتيجة لذلك واجهت الحركات الإسلامية أزمة كبيرة في التعامل مع مشكلات واقعها السياسي، وأحيانا اوقعها ذلك في حيرة وارتباك، فالفقيه رسم لها الإطار العام للفعل السياسي، ولم يتعرض لمعضلة معالجة الأمور التفصيلية المرتبطة بمأسسة الفعل، وتنظيم علاقاته، وتطويره وتحديد مقتضيات مصلحته... ولذا كانت الحاجة ماسة الى مفكرين سياسيين يضعون لها النظرية السياسية، ويقدمون لها الإجابة عن طريقة وضعها موضع التنفيذ، وقد اثبتت احداث العراق بعد سقوط نظام البعث سنة 2003 هذه الحاجة عندما وجدت الأحزاب والتيارات السياسية الاسلامية فيه انها لم تكن مهيئة للحدث، بل وفي حالة مواجهة وتناقض فكري –عقائدي فيما بينها، فعانت –ولا زالت-من الاضطراب والتشتت وغياب النظرية السياسية التي تحظى بالقبول والاجماع لقيادة الدولة والمجتمع.

وما يزيد من تعقيد هذا الامر هو طبيعة الفضاء الثقافي للفقيه نفسه، فمعظم الفقهاء هم نتاج فضاء ثقافي مرتبط بالمذاهب العقائدية التي ينتمون اليها، وانشغالهم باتباعهم من أبناء المذهب وترويج مقولاته العقدية مقدما لديهم على أي اهتمام آخر، وطالما ان القناعات العقدية للفقيه مبنية على الاحكام الاستنباطية التي توصل اليها داخل انتمائه المذهبي، وهي قناعات مختلفة من فقيه الى آخر، وتتعدد وتختلف باختلاف الفقهاء أنفسهم، وهو أمر طبيعي تحتمه ظروف الاجتهاد المتعارف عليها عند المسلمين، فهذا يعني أن الاعتقادات السياسية لكل فقيه ستختلف حتما من قريب او بعيد عن غيره من الفقهاء، ومن شأن هذا الاختلاف ان يقود الى اختلاف تصورات ومواقف القوى السياسية التي تنتمي اليهم، وتقاطعها المتوقع يتسبب لها –غالبا- بمشكلة كبيرة، لاسيما عندما تبنى القناعات السياسية على قناعات عقائدية صارمة.

هذه العوامل الأربعة الرئيسة التي رافقت ميلاد الخطاب السياسي الإسلامي المعاصر، ستترك تأثيرات عميقة عليه، وهو يعيش تحت وطئتها، سواء اقر بذلك أم أنكره، وهذه التأثيرات ستكون محل الكشف عنها في المقال القادم.

التعليقات