يقف العراق على مفترق طرق ولا يزال البلد يصنف على إنه من البلدان العالقة بالهشاشة على الرغم من الإمكانات الهائلة (الطبيعية والبشرية) التي يتمتع بها
يترنح الاقتصاد العراقي منذ منتصف 2014-2020 على وقع أزمات وصدمات اقتصادية واجتماعية وسياسية مركبة ومعقدة انعكست على مجمل أوضاع الاقتصاد العراقي.
فما لبث أن تعافى من أزمة مزدوجة خانقة تسبب بها احتلال تنظيم داعش لمناطق واسعة من العراق بالتزامن مع انهيار أسعار النفط والتي أدت الى تراجع النشاط الاقتصادي وارتفاع أعداد الفقراء وزيادة الديون العامة للبلد وارتفاع مستويات عجز الموازنة، وتخريب البنية التحتية في المدن التي سيطر عليها الإرهاب، حتى عاد ليقع مرة أخرى في أزمة مركبة متعددة الابعاد على أثر تفشي جائحة كورونا Cvied-19 وإجراءات التباعد الاجتماعي والحجر الصحي والتي أدت الى تعطيل اغلب النشاطات الاقتصادية، مما انعكس على أسواق النفط والتي فقدت نحو 50% من قيمتها ليشهد الاقتصاد العراقي هبوطاً حاداً في النشاط الاقتصادي هو الاقوى منذ عام 2003، وقد اقترن ذلك بمظاهرات واحتجاجات شعبية انطلقت في تشرين الاول 2019 بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
لقد داهمت جائحة كورونا العراق وهو يعاني بالفعل من اضطرابات سياسية واجتماعية، الى جانب اقتصاد هش غير قادر على مجابهة التحديات والضغوطات التي فرضتها وتفرضها الازمات المتلاحقة.
وقد كُتب الكثير وقيل الكثر عن انعكاسات هذه الازمات على الاقتصاد العراقي، وسنحاول هنا تقديم وصف بياني عما أفرزته هاتين الازمتين من انعكاسات الأوضاع الاقتصادية الكلية.
1- هبوط النشاط الاقتصادي:
يعاني الناتج المحلي الاجمالي (GDP) في العراق اختلالاً هيكلياَ واضحاً كونه يعتمد على الصادرات النفطية فقط والذي يُشكل أكثر من 50% منه ونحو 91% من الموارد المالية البلد، و99% من صادراته.
وقد فرضت الازمات التي شهدها الاقتصاد العراقي خلال السنوات الست الماضية ضغوطات هائلة على اداء النشاط الاقتصادي ليتراجع الناتج المحلي الاجمالي سواءً النفطي او غير النفطي بشكل ملموس وواضح.
شكل (1): الناتج المحلي الاجمالي للمدة 2010-2020 (مليون دينار)
{img_1}
2020 تقديرات الباحث
الشكل من عمل الباحث بالاستناد الى
- وزارة التخطيط، الجهاز المركزي للإحصاء، المجموعة الإحصائية السنوية، اعداد مختلفة.
2- انخفاض أسعار النفط وتراجع الايرادات النفطية:
على الرغم من مرور أكثر من 100 عام على اكتشاف النفط في العراق، لا زال الاقتصاد العراقي دالة لتغير أسعار النفط، ولازال الريع النفطي هو المحدد الرئيس للوضع الاقتصادي. وقد أدى ذلك الى نشوء نظام اقتصادي مشوه مصاب بلعنة الموارد وبتطرف، وأصبح أكثر توتراً وأسوء حالاً وعانى من حروب داخلية ونزاعات وصراعات وتراجع في مؤشرات التنمية أدت الى وقع العراق في فخ التخلف. وعادةً ما تُعزى هذه المآزق التنموية الى الاعتماد على مصدر واحد فقط للتمويل.
ويوضح الجدول الاتي التذبذبات الحادة التي شهدتها أسعار النفط في سياق الازمات التي اصابت الاقتصاد العراقي خلال المدة منتصف 2014-2020.
شكل (2) سعر برميل نفط خفيف البصرة (المتوسط السنوي)
{img_2}
الشكل من عمل الباحث بالاستناد الى:
- التقرير الاحصائي السنوي والتقارير الإحصائية الربع السنوية، منظمة الأقطار المصدرة للبترول (اوابك)، الكويت، اعداد مختلفة.
اما بالنسبة للإيرادات النفطية والتي تذبذبت هي الأخرى نتيجة للتغيرات التي تحصل في الأسعار، فقد شهدت انخفاضات حادة خلال أزمتي داعش وجائحة كورونا، فقد تسببت الازمة المزدوجة بتراجع كبير في الإيرادات النفطية لتصل الى نحو 51562 مليار دينار في عام 2016 وهو أدنى مستوى لها في سياق الازمة، في حين تسببت جائحة بانخفاض الكميات المصدرة خلال عام 2020 بنحو 16% بالمقارنة مع عام 2019 كما انخفضت العائدات بمقدار 48.5% عن عام 2019 لتصل الى ما يقارب 47908 مليار دينار في عام 2020.
شكل (3) الإيرادات النفطية للمدة 2011-2020(مليار دينار)
{img_3}
الشكل من عمل الباحث بالاستناد الى:
- وزارة التخطيط، الجهاز المركزي للإحصاء، المجموعة الإحصائية السنوية، اعداد مختلفة
3- ارتفاع الدين العام
في ظل الصعوبات التي واجهها الاقتصاد العراقي خلال الست سنوات الماضية وانخفاض اسعار النفط وعدم استقرارها، وتحديات الحرب على داعش والضغوطات التي فرضتها جائحة كورونا تم اللجوء للاقتراض الخارجي والداخلي لتمويل الانفاق، وعليه، فقد شهدت المديونية العامة ارتفاعات ملحوظة، وتشير الاحصاءات الى أن الدين العام (الخارجي والداخلي) قد بلغ ما يقارب 130 مليار دولار منها 25 مليار ديون سيادية واجبة الدفع خلال المدة 2020-2028 من بقايا ديون باريس و12 مليار دولار بسبب تداعيات الازمة المزدوجة (تنظيم داعش وانخفاض اسعار النفط) الى جانب 43 مليار دولار ديون سيادية خارج اتفاقية باريس، فضلاً عن 60 مليار دولار دين داخلي سواء كان نقداً أو لقاء كفالة بدفع الدين من وزارة المالية، وتشير بيانات البنك الدولي الى انه من المتوقع ان يصل الدين الى ما يقارب 170 مليار دولار في عام 2024.
شكل (4): اجمالي الدين العام للمدة 2010-2020 وتوقعات 2024 (مليار دولار)
{img_4}
2024 توقعات البنك الدولي
الشكل من عمل الباحث بالاستناد الى مصادر متعددة.
4- زيادة عجز الموازنة
جرت العادة في العراق ومنذ عام 2003 على اعداد الموازنات بعجز مخطط (ظاهري) ومرتبط بتطورات أسعار النفط، وكانت اغلب الموازنات تتسم بتحقيق فوائض كبيرة جداً لا سيما في السنوات التي شهدت قفزات كبيرة في أسعار النفط (كما موضحة في الشكل 3). الا ان مشاكل العجز في الموازنة بدأت تظهر وبشكل جلي خلال المدة 2015-2020 باستثناء عام 2018 وذلك بسبب الصدمات والازمات التي عاشها الاقتصاد.
وفي ظل قيود المورد النفطي، فقد سجلت الموازنة العامة للبلد خلال المدة 2015 -2016 عجزاً كبيراً نتيجة تزايد الانفاق العام لخدمة آلة الحرب ضد داعش بالتزامن مع انخفاض حاد بأسعار النفط، وقد كانت نسب العجز الى الناتج المحلي الاجمالي منذ عام 2013 وما تلاها أكبر من النسبة المعيارية وفقاً لمعاهدة ماستريخت، مما أدى الى زيادة حجم اجمالي الديون، والتي كانت اغلبها موجهة نحو الانفاق الاستهلاكي، فتدهورت أوضاع المالية العامة، وضعُف قدرة الدولة على تحقيق الاستدامة المالية، واستمر هذا التدهور في عام 2020 ليزداد عجز الموازنة بسبب تداعيات جائحة كورونا.
شكل (5) عجز الموازنة للمدة 2014-2020
{img_5}
المصدر: اقتبسه الباحث بتصرف من
Abeer Abu Omar, and Khalid Al Ansary, Iraq’s Currency Devaluation May Not Be Enough to Salvage Sinking Economy, متوفر على الرابط
https://www.bloomberg.com/news/articles/2020-12-24/iraq-s-devaluation-may-not-be-enough-to-salvage-sinking-economy
5- زيادة الفقر
عادةً ما تتسبب الازمات والصدمات الاقتصادية وما يرافقها من تداعيات بنتائج سلبية على المجتمعات، ولعل أكثر الفئات المعرضة للخطر هي الفئات الهشة والفقيرة والفئات القريبة من خط الفقر والعاملين في القطاع غير الرسمي.
وفي هذا الإطار، ادت الازمات المتلاحقة التي اصابت الاقتصاد العراقي خلال المدة 2015-2020 الى انعكاسات واضحة على الفقراء.
اذ ادى الصراع مع داعش وانخفاض أسعار النفط والذي اقترن بالقيود الاقتصادية الذي فرضُه برنامج صندوق النقد الدولي 2015-2018 الى انعكاسات سلبية على المستوى المعاشي للمواطنين، وانعكست المكاسب التي تحققت في تخفيف الفقر خلال المدة 2007-2012، فبعدما انخفض معدل الفقر في العراق الى نحو %19.8 في عام 2012 بالمقارنة مع ما يقارب %23.6 في عام2007، إلا أن هذا الانخفاض في معدلات الفقر قد تم عكسه بحلول عام 2014 لتبلغ معدلات البطالة نحو %22.5 وهو ما يقارب المستوى المسجل في العام 2007
وقد تأثرت القوى العاملة والفقراء والمجموعات الهشة من تفشي فيروس كورونا في سياق التدابير والإجراءات الاحترازية التي أعلنتها الحكومة من خلال فرض حظر كامل للتجوال وغلق المحال التجارية والأسواق والأماكن الترفيهية والمطاعم والفنادق وتوقف الاعمال الحرة والمهن المؤقتة، وبالفعل فقد أدت الازمة الى تسريح الكثير من العمال المؤقتين في قطاعات الفنادق والمطاعم ومراكز التسوق والمولات والأماكن الترفيهية، الى جانب فقدان العاملين المؤقتين في القطاع العام والأجراء اليوميين لوظائفهم بسبب تعطيل الدوام الرسمي.
وفي سياق تراجع أسعار النفط وهشاشة الأوضاع المالية ومحدودية الموارد المالية لإعانة العاطلين، وعدم وجود شبكات امان وضمان تمنع الافراد من الوقوع في فخ الفقر، وفي ظل عدم توفر بيانات دقيقة عن اعداد العاطلين والمسرحين عن العمل، فقد كشفت الازمة عن ارتفاع معدلات البطالة (في بلد يعاني من ارتفاع نسب البطالة الى مستويات عالية) وسوف تتزايد اعداد الفقراء الى مستويات لا يمكن تحملها، وستدفع الازمة الافراد والاسر الذين هم على خط الفقر الى الوقوع في براثن الفقر.
شكل (6) اعداد الفقراء للمدة 207-2020 (مليون فقير)
{img_6}
2020 توقعات
المصدر: الشكل من عمل الباحث بالاستناد الى:
حسن لطيف الزبيدي، زياد طارق حسين الربيعي، زينة أكرم عبد اللطيف النداوي، دراسة حالة: الفقر ومستويات المعيشة في ظل تداعيات ازمة كورونا، مركز الرافدين للحوار، النجف الاشرف، 2020.
6- الاحتياطات الأجنبية وصافي الأصول الأجنبية
في ظل عدم قدرة السياسة المالية على مواجهة التحديات التي فرضتها الازمات بسبب عدم توفر الموارد المالية واعتماد الموازنة على مصدر تمويل واحد (النفط)، انبرت السياسة النقدية لمواجه هذه التحديات.
ففي ظل الازمة المزدوجة (تنظيم داعش وانخفاض اسعار النفط) حاول البنك المركزي الحفاظ على استقرار الاسعار وتلبية الطلبات على العملة الأجنبية لأغراض التصدير وغيرها، مما سبب استنزاف واضح وكبير للاحتياطيات خلال المدة 2017-2015، إذ انخفضت الاحتياطيات من نحو 77.7 مليار دولار في عام 2013 لتصل الى ما يقارب 48.9 في عام 2017 وبمعدل انخفاض بلغ ما يقارب38%، ومن ثم ارتفعت لتصل الى تقريباً 62 مليار دولار في عام 2019. في حين لم تؤثر جائحة كورونا على حجم الاحتياطيات وذلك بسبب إجراءات التباعد وتوقف أغلب الأنشطة الاقتصادية وتوقف الاستيرادات مما قلل من الطلب على العملة الأجنبية.
شكل (7) حجم الاحتياطيات الدولية للمدة 2012-2020 (مليار دولار)
{img_7}
الشكل من عمل الباحث بالاستناد الى:
- البنك المركزي العراقي، التقارير السنوية، أعداد مختلفة.
اما بالنسبة لصافي الأصول الأجنبية والتي لها انعكاسات على ميزانية البنك المركزي في جانب الموجودات من خلال تأثيرها في الأساس النقدي فقد تأثرت هي الأخرى وبشدة جراء تداعيات الصدمات والأزمات التي عاشها خلال المدة السابقة، ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يستمر تراجع صافي الأصول الأجنبية للعراق حتى 2024، مما ينعكس سلباً على أداء السياسة النقدية.
شكل (8) تراجع صافي الأصول الأجنبية للمدة 2016-
{img_8}
البيانات متاحة لغاية 2019، 2020-2024 توقعات صندوق النقد الدولي
Abeer Abu Omar ,Khalid Al Ansary, Iraq’s Currency Devaluation May Not Be Enough to Salvage Sinking Economy, متوفر على الرابط
https://www.bloomberg.com/news/articles/2020-12-24/iraq-s-devaluation-may-not-be-enough-to-salvage-sinking-economy
ختاماً، يقف العراق على مفترق طرق ولا يزال البلد يصنف على إنه من البلدان العالقة بالهشاشة على الرغم من الإمكانات الهائلة (الطبيعية والبشرية) التي يتمتع بها.
ولا يزال العراق نقطة للمفارقة فهو ارض الرخاء والفقر والاستقلال والتبعية والاستقرار والاضطراب.
وتسترعي الانعكاسات التي أفرزتها الازمات والصدمات التي عاشها ولا يزال يعيشها الاقتصاد العراقي الانتباه الى والاستفادة من هذه الازمات وتكثيف الجهود للشروع بطريق الإصلاح الاقتصادي من خلال إعادة النظر بالإجراءات المتبعة والتي أُتخذت سابقاً، وتبني سياسات اصلاحية اقتصادية تلائم أوضاع الاقتصاد العراقي والعمل على تطوير سياساتنا الاقتصادية وادواتنا بما يتلاءم ومتطلبات المرحلة الراهنة.
اضافةتعليق