لماذا يجب على العراق تفعيل اتفاقية الصين

شهدت الشهور القليلة الماضية نقاشاً وجدلاً طويلاً حول الاتفاقية العراقية الصينية وجدواها الاقتصادية والمالية للعراق، ليس فقط بين مجلس النواب والحكومة الاتحادية، وانما ايضا بين مختلف الخبراء والمختصين بالشأن الاقتصادي والاستثماري في البلد. معظم محاور النقاش تركزت حول شرعية اتفاق الحكومة العراقية مع الصين دون المرور بمجلس النواب، والاسباب الكامنة خلف التعتيم المستمر لبنود وتفاصيل الاتفاقية، وطبيعة المشروعات التي ستبدأ بتنفيذها الشركات الصينية والمدد الزمنية اللازمة للتنفيذ، والاليات المتفق عليها في التنفيذ والمتابعة، فضلا على شكل وطبيعة التمويل والاثار المالية المترتبة على العراق في الامد المتوسط والطويل. هذه الاسئلة وغيرها كانت مثار قلق للعديد من الخبراء والمراقبين، وهي اسئلة مثيرة للاهتمام ومشروعة ايضا، خصوصا مع تجربة المفاوض العراقي في الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية السابقة والتي لم يجني منها العراق مكاسب تذكر.

ووفقاً للمعلومات المتاحة فان الشركات الصينية ستشرع في تنفيذ مشاريع عملاقة في العراق مقابل ايداع العراق لجزء من ايراداته النفطية الصافية (100 الف برميل كما يشاع) لحساب شركات صينية. بالإضافة الى انشاء حساب ثاني يتضمن تسديد الديون التي قد يخلفها تنفيذ المشروعات الاستثمارية في العراق بتكاليف تفوق الاموال المودعة في الحساب الاول. وتشير المعلومات ايضا الى امكانية زيادة نصيب الحساب الاول من الايرادات النفطية الصافية الى قرابة (300 الف برميل يوميا) اذا ما تمكنت الشركات الصينية من انجاز المشروعات الاستراتيجية بكفاءة عالية وضمن المدد الزمنية المحددة.

ضرورات المضي قدما

         يعاني الاقتصاد العراقي في الاصل من اختلال وهشاشة في بنية الاقتصاد الوطني نتيجة الفساد وضعف ادارة الملف الاقتصادي وادامة الاعتماد على المورد النفطي بشكل شبه كامل، ما اضعف القطاعات الاقتصادية وحرم البلد من فرص النمو الحقيقي القادر على توفير فرص عمل خارج مؤسسات الدولة. من جانب اخر فان ارتباط الاقتصاد الوطني بسوق النفط الدولية وتقلباتها الحادة (منذ منتصف العام 2014) يزيد من مخاطر الانزلاق لركود اخر اذا ما تعرضت السوق النفطية لصدمة عكسية جديدة. 

       ان تلويح الرئيس الامريكي دونالد ترامب مؤخرا بعقوبات اقتصادية قد يكون مفيدا اذا ما التقط صناع القرار الاشارة وحولوا التحديات الى فرص لفك الارتباط الاقتصادي والمالي مع الولايات المتحدة (بشكل تدريجي) عبر تنويع العملات والدول، كحاضنة لاحتياطي البنك المركزي العراقي وللأموال الحكومية، وبما يناسب التطورات الاخيرة والحلفاء والخصوم الجدد. خصوصا مع وجود حاضنات دولية كبرى قد تستغل تلك الخصومة في التحالف مع العراق لمصالح جيوسياسية، ولضمان امن الطاقة ايضا، كالصين على سبيل المثال. وفي هذا السياق تبرز ضرورات عدة تحتم على العراق اختيار شريك تجاري واستثماري كبير كالصين ولعدة اسباب اهمها:

1- الاقتصاد العراقي المأزوم بحاجة لرافعة اقتصادية متينة (شركات كبرى) قادرة على تحريك القطاعات الاقتصادية غير النفطية وتنويع القاعدة الانتاجية لتحقيق النمو والاستقرار الاقتصادي وتوفير فرص عمل كافية لجميع العراقيين. هذه الاهداف العليا لا يمكن تحقيقها عبر الادارة التقليدية لإيرادات النفط وانما فقط عبر شراكة حقيقية قائمة على المصالح المشتركة مع دول تثمن الدور الاستراتيجي للعراق ومكانته في خارطة الطاقة الدولية، مع الاحترام الكامل لسيادة العراق. 

2- تقدم الاتفاقية العراقية الصينية أحد المفاتيح المهمة في تطوير الاقتصاد العراقي عبر الاستفادة من تراكم التكنولوجيا الحديثة التي تقدمها الشركات الصينية للعراق، فضلا على توفير الاتفاقية للتمويل اللازم لإنجاز حزمة من المشروعات التنموية الاستراتيجية العاجلة في اطار من الضمانات الكافية بعدم تكبيل الاقتصاد العراقي بديون سيادية او رهن ثرواته النفطية الى الخارج.

3- تقدم الاتفاقية العراقية مع الصين للبلد فرصة النهوض بالبنية التحتية المتهالكة وبتمويل آجل، وهذه فرصة اكثر من ذهبية اذا ما احسن صناع القرار اقتناصها واستثمارها بشكل جيد في ترتيب اولويات المشروعات الاستراتيجية القادرة على النهوض ببناه التحتية بشكل ملائم وضمن افاق زمنية قريبة.

4- اتساع نطاق البطالة وضعف الانتاج الوطني وتراجع معدلات النمو الاقتصادي فضلا على البنية التحتية الهشة، جميعها مضاعفات ونتائج لمشكلة سوء تخصيص الموارد النفطية في العراق. فقد اخفقت الموازنة العامة كأداة لتخصيص الايرادات النفطية، في تحقيق الاهداف الاقتصادية العليا من تشغيل واستقرار ونمو اقتصادي. كان ذلك اساسا بسبب نسب الانجاز الهزيلة للموازنة الاستثمارية (والتي لم تتجاوز 30% كمتوسط طيلة السنوات السابقة). ان ضعف تنفيذ الموازنة الاستثمارية رغم تعدد الحاجات الملحة للمدارس والمستشفيات والطرق والجسور وغيرها من الخدمات العامة، كان نتيجة حتمية لثلاث عوامل (الفساد الحكومي، اتباع موازنة البنود، ضعف الشركات المنفذة). وتقدم الاتفاقية العراقية مع الصين مخرج مناسب من المأزق التنموي الراهن اذا ما تم تنفيذها بالشروط والضمانات اللازمة. 

5- يوفر الشريك الصيني بشركاته المتنوعة فرصة لتحقيق التنويع الاقتصادي (العصي) عبر تفعيل القطاعات غير النفطية في البلد وما قد يترتب على ذلك من توفير فرص عمل حقيقية (خارج مؤسسات الدولة)، وتغطية الحاجة المحلية من السلع والمنتجات المتنوعة بدلا من الاعتماد شبه المطلق على الاستيرادات في تغطية الطلب المحلي وما يترتب على ذلك من تسرب خطير للعملة الاجنبية واختلال حاد في ميزان المدفوعات.

   مع ذلك، ورغم اهمية الاتفاقية العراقية الصينية، ينبغي قيام الحكومة بعرض الاتفاقية للراي العام بشكل مفصل وشفاف، فضلا على ضرورة تمريرها عبر مجلس النواب لتحظى بالمقبولية والالزام واستيفاء كافة الاطر القانونية والتشريعية اللازمة لضمان المضي قدما في تنفيذ الاتفاقية دون كوابح سياسية (اعتدنا عليها) قد تكبح انسيابية العمل والتنفيذ في المستقبل. كما ينبغي تأطير الاتفاقية العراقية الصينية بجملة من الضمانات والشروط لضمان التنفيذ الامثل للاستثمارات الصينية ووفقا للأوليات الملحة في جانب البنية التحتية والمشاريع الضخمة (كميناء الفاو والشركات الانتاجية) بدلاً من الانصراف الى المنتجعات والمجمعات التجارية وغيرها من المشاريع الهامشية. واخير يجب ان يحظى الجانب المالي والمتعلق بمصادر تمويل الشركات الصينية وصيغ التسديد بدراسات دقيقة تجنب الزام العراق بديون مستقبلية ضخمة تثقل كاهل الاقتصاد الوطني وتضيع فرص النمو والاستقرار المستدام.

التعليقات