ان الانتقال الى الاقتصاد الحر يتطلب دعم النهج التنموي من خلال زيادة الانفاق الحكومي الاستثماري كخطوة اولى لإعادة ترميم البنى التحتية التي هشمتها الحروب المتتالية والحصار الدولي والصراعات الداخلية لسنوات عديدة
اتجهت النظرة التقليدية في دراسة النفقات العامة الى مفهوم الدولة الحارسة كمنطلق لتسيير المرافق المحدودة التي تتولى الدولة تنظيمها دون تدخل في العملية الاقتصادية، وترك السوق يعمل ضمن آليات واتجاهات قوى العرض والطلب وفق سياسية اقتصادية رأسمالية بحتة، في حين اعطى المحدثون في المالية العامة نظرة مغايرة تتمركز حول زيادة تدخل الدولة في النشاطات الاقتصادية وخصوصاً بعد ان كشفت الازمات العالمية ضعف آلية السوق في تشغيل الاقتصاد في ضوء هذه الازمات، حيث لم تبقى النفقات العامة مقتصرة على وظائف الدولة التقليدية وانما اصبحت من اهم ادوات السياسة الاقتصادية والاجتماعية بعد ان تغير شكل الدولة و حجمها، لتتحول الكثير من الدول وفق هذا المنطق الى دول انتاجية داعمة للاتجاهات التنموية، والتي اخذت على عاتقها توجيه مسيرة الانفاق نحو خلق تنمية مستدامة، تعمل على ارساء معالم الاقتصاد الحر وتغذية السوق المحلي بما يحتاجه لإدارة هذه المسيرة وتحت مسمى الدولة الإنتاجية ( او الدولة الإنمائية ).
وفي العراق سيطرت الدولة على القطاعات الاقتصادية والانتاجية والزراعية والخدمية وباقي مفاصل الدولة ضمن التوجه الاشتراكي منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي ولغاية عام 2003 حيث تبدلت وجهة الدولة نحو هجر النهج الاشتراكي الى مفاهيم وسياسات داعمة لاقتصاد السوق في ظل التوجه الجديد للانتقال من الاقتصاد الموجه الى الاقتصاد الحر.
ان الانتقال الى الاقتصاد الحر يتطلب دعم النهج التنموي من خلال زيادة الانفاق الحكومي الاستثماري كخطوة اولى لإعادة ترميم البنى التحتية التي هشمتها الحروب المتتالية والحصار الدولي والصراعات الداخلية لسنوات عديدة وإعادة صياغة وبناء هذه البنية وعدها مرتكز لخلق وجذب الاستثمار الداخلي والخارجي وبما يحقق التنمية الاقتصادية والاجتماعية للعراق .
لكن الواقع المالي والاقتصادي وتوجهات الانفاق الحكومي منذ عام 2003 ولغاية الان يعكس اتجاهً مغاير لهذه الاهداف فعند الرجوع الى موازنات الاعوام 2016 و 2017 و ٢٠١٨ ومقارنة حجم الموازنات الاستثمارية في مقابل الموازنات الجارية يتجلى الخلل فقد كان حجم التخصيصات الاستثمارية لهذه الاعوام وعلى التوالي 25.74 / 25,٤٥/ ٢٤,٦٢ في مقابل التخصيص الجاري والذي بلغ 80،14 /75،21 / ٧٩،٥١ وعلى التوالي مع ملاحظه ان نسبة عالية من الموازنات الاستثمارية تذهب نحو دعم وتطوير وصيانة الإنتاج النفطي وبنسب قد تصل الى 50٪ من القيمة الكلية لهذا التخصيص في حين ان نسبة باقي القطاعات الانتاجية والزراعية لا تكاد تذكر امام هذه التخصيصات ففي موازنة عام 2018 بلغت التخصيصات المالية لملف الطاقة قرابة ٢٢ ترليون دينار عراقي و بواقع ١٤،٨٥ ترليون تخصيصات وزارة النفط و ٦،٢٩ تخصيصات وزارة الكهرباء و١،٢٢ تخصيص قطاع الانتاج الغازي في حين بلغ التخصيص القطاعات الصناعية 1.28 ترليون دينار وتخصيصات قطاع الزراعة ١،١٦ ترليون دينار عراقي (شملت وزارة الزراعة وزارة المواد المائية) وقد يلاحظ القارئ انخفاض التخصيصات المالية الداعمة لهذين القطاعين (الزراعي والصناعي) في موازنة عام 2018 امام قطاع النفط والكهرباء مع ملاحظة ان النسب اعلاه تكون متقاربة في معظم السنوات السابقة.
قد يرى البعض الى ان دعم القطاع النفطي يعد اولوية قصوى لما يمثله من مورد رئيسي لرفد الخزينة العامة بما يقارب 90٪ من إيرادات الموازنة العامة حيث تشكل الصادرات النفطية الخام مانسبته قرابة ٩٩٪ من الصادرات السلعية . وسيكون الجواب على هذا ان هذا العذر بالضبط هو مايجب التخلص منه فقد اثبتت الازمة المالية و الاقتصادية والاجتماعية التي خلفها انخفاض اسعار النفط عام 2014 بالإضافة الى التاريخ الريعي للدول النفطية ان تنويع مصادر التمويل الحكومي ضرورة لا تقل اهمية عن ادامة وتطوير المصدر الوحيد لهذه الايرادات وان المبالغة في تطوير قطاع الطاقة (النفط والغاز والكهرباء) على حساب اهمال باقي القطعات الانتاجية سيقود البلاد لامحالة الى ازمات اقتصادية واجتماعية وسياسية قادمة و قد تتجلى هذه المشكلة بوضوح عند اجراء حساب بسيط ومقارنة بين معدل النمو السكاني في العراق و البالغ ٣٪ امام نمو الانتاج النفطي ومضاعفته حتى مع افتراض ثبات الارتفاع في الأسعار العالمية للبرميل الواحد فستكون النتيجة انه خلال فترة قد لا تتمكن الواردات النفطية من تغطية الزيادات السكانية واستيعاب الايد العاملة الداخلة للسوق سنوياً، وستكون الدولة في تلك الحالة مرغمة على اللجوء الى مصادر ساندة او بديلة ولكن سيكون الوقت قد تأخر كثيراً .
ان اجراء مقارنة من نوع ثاني بين القطاع النفطي من جهة و قطاع الانتاج الصناعي و الزراعي من جهة ثانية من حيث تشغيل العمالة العراقية الداخلة في السوق بشكل متزايد والتي قد تصل الى ٢٥٠ الف يد عاملة تدخل ضمن نطاق العمل في كل عام لن يكون ابدا في صالح توجهات الموازنة الاستثمارية للبلد ولن يكون ابداً بصالح الإنتاج النفطي الذي يوصف بأنه كثيف رأس المال في الوقت الذي يعد القطاع الزراعي والصناعي من اكثر القطعات حيوية ويوصف بأنه قطاع كثيف العمالة ويمكن ان يكون له الاثر الاكبر في انتشال السوق العراقية من مشاكل البطالة والركود التي يعاني منها في حال تفعيل دورهما، فأن القطاع الزراعي وحده يمكنه ان يحتضن ما لا يقل عن 34٪ من الايدي العاملة و يمكن ان يخلق فرص عمل لمئات الالاف من الشباب الذين لم يجدوا في ضل الركود الاقتصادي الحالي وضعف القطاع الخاص وميوعة باقي القطاعات الإنتاجية سوى اللجوء الى التوظيف الحكومي الذي اثقل كاهل الجهاز الحكومي بترهلات وظيفية ليس بحاجة لها وهذا ما يفسر ضياع قرابة 75٪ من الموازنات العمومية في بنود الموازنة الجارية .
ان تركز الانفاق الحكومي على الموازنة الجارية مع ضعف الموازنة الاستثمارية طوال السنوات السابقة ولغاية الان يعكس حقيقة ان الدولة العراقية لم تكن في توجهها الاقتصادي دولة حارسة، كما انها لم تكن دولة تنموية او انتاجية بل انها تجاوزت هذه النماذج لتتوقف عند حدود أخرى ومفهوم اخر وهو دولة رصد التخصيصات، اي ان دورها اقتصر على تخصيص وتبويب الايرادات التي تتحصل عليها من خلال تصدير المورد الطبيعي الخام الى الخارج لغرض انفاقها، وان معظم هذا الانفاق يذهب على شكل رواتب ومخصصات وانفاق جاري، وليس هذا فقط بل حتى الانفاق الاستثماري يذهب معظمه نحوه ادامة وتطوير قطاع النفط والطاقة والذي يعمق بدوره الجانب الريعي دون الالتفات الى الانشطة الاقتصادية الاخرى و التي تعد الوجه الحقيقي لقوة الاقتصاد في حالة تفعيلها .
ان مشكلة دولة التخصيصات تتمركز في انها لا تؤسس لاقتصاد حقيقي قادر على احداث التنمية المستدامة من جهة و غير قادر على مواجهة تحديات السوق من جهة ثانية، وان الاستمرار في تعميق الجانب الريعي مع الاعتماد على الاستيراد في سد الفجوة الحاصلة واهمال باقي القطاعات الإنتاجية، قد تقودنا الى مواجهه حتمية مع الفوضى الاقتصادية والاجتماعية في حال حدوث اي اهتزازات جديدة في اسعار النفط العالمية، لذا فان الدولة ملزمة بإعادة صياغة فلسفة الانفاق الحكومي و بما يناسب التوجه الى ارساء قواعد انتاجية تعمل على خلق فرص عمل حقيقيه للمواطن العراقي وتغير توجه السياسة الاقتصادية من دولة رصد التخصيصات الى دولة تنموية اسوة بالكثير من دول العالم التي ادركت اهمية الاقتصاد في تحقيق الاستقرار الاجتماعي و السياسي
اضافةتعليق