الاقتصاد العراقي من الانغلاق المحكم إلى الانفتاح المفاجئ

     في عام 2003 تم اسقاط النظام في العراق عبر التدخل الخارجي من خلال الاحتلال الامريكي بحجة إمتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، ويعد هذا العام بمثابة النقطة الفاصلة ما بين نظامين اقتصاديين وهما النظام الاشتراكي الذي يؤمن بسيطرة الدولة على الاقتصاد والنظام الرأسمالي الذي يؤمن بحيادية الدولة أي رفع يدها عن الاقتصاد وتدعه يعمل كما يشاء لإيمان أنصاره بأن تدخل الدولة سيشوه ادآء الاقتصاد.

قبل عام 2003

قبل عام 2003 كان النظام السياسي هو نظام الحزب الواحد والمتفرد بالسلطة وجعل الدولة في قبضته وأصبحت كل مقدرات البلد تحت رحمة تلك الدولة التي يقبض عليها ذلك الحزب الواحد ورئيسه فأصبح اقتصاد البلد يُدار بواسطة الدولة التي يقودها الحزب الواحد ورئيسه. وكنتيجة للتفرد وغياب الكفاءة وفقدان الرؤية الاستراتيجية في إدارة النظام السياسي والاقتصادي تعرض البلد للعديد من المشاكل وأبرزها الحروب الثلاثة الايرانية والكويتية والامريكية والعقوبات الاقتصادية، هذه المشاكل جعلت المجتمع العراقي يعاني من الفقر والحرمان ونفاذ صبره تجاه واقعه المؤلم فأظهر التفاعل مع سقوط النظام ليس حباً بالاحتلال وإنما للتخلص من سلطة الحزب الواحد وسياساته الخاطئة، حين لجأت المعارضة العراقية في الخارج للولايات المتحدة الامريكية لاسقاط النظام.

بعد عام2003

 وبعد عام 2003 تم تغيير النظام السياسي والاقتصادي من نظام الحزب الواحد إلى النظام الديمقراطي سياسياً ومن النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالي اقتصادياً، بحيث أصبح للشعب دور كبير في ممارسة الحكم بواسطة الانتخابات عبر الاقتراع السري المباشر بحكم الدستور الذي صوت عليه الشعب عام 2005 وكان بين متضمناته هو الاعلان الصريح عن التحول الاقتصادي نحو النظام الرأسمالي كما في المادة 25 التي تنص على أن " تكفل الدولة اصلاح الاقتصاد العراقي وفق اسس اقتصادية حديثة وبما يضمن استثمار كامل موارده وتنويع مصادره وتشجيع القطاع الخاص وتنميته " والمادة 112 ثانياً التي تنص على أن " تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الاقاليم والمحافظات المنتجة معا برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز بما يحقق اعلى منفعة للشعب العراقي معتمدة احدث تقنيات مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار" .

 الانتقال المفاجئ والصدمة

 إن تشجيع القطاع الخاص وتنميته واعتماد أحدث مبادئ السوق، بالإضافة الى الحرية الاقتصادية تعد جوهر النظام الراسمالي الذي اعتمده الاقتصاد العراقي بعد عام 2003 بشكل مفاجئ والذي تسبب في نشوء الفوضى السياسية والصراعات الداخلية وغياب المصالح العليا للبلد وتقديم المصالح الخاصة على المصالح العامة واستمرار استزاف هدر الثروات الوطنية وعدم السعي لبناء دولة قوية يكون شعورها وشعارها المواطن أولاً حتى ينعم بثرواته بشكل حقيقي. 

 إذ إن الانتقال بشكل مفاجئ من الانغلاق المحكم إلى الانفتاح المفاجئ كان بمثابة الصدمة التي يواجهها شخص كان جالس في عتمة شديدة الظلام وإذا به يخرج فجأة تحت أشعة الشمس الساطعة في رابعة النهار. ان الانتقال المفاجئ في العراق تسبب في عدم انضباط سلوك النظام السياسي والاقتصادي في العراق وذلك لتجذر الثقافة الاشتراكية في بنية الدولة والمجتمع وإذا به ينتقل الى نظام جديد يختلف عنه بالكامل. وكانت النتيجة شيوع الفساد في كل مفاصل الدولة وسوء المناخ الاستثمار الذي افضى إلى عزوف الاستثمار المحلي فضلاً عن الاستثمار الخارجي ومن ثم تدهور القاعدة الانتاجية التي هي بالاساس كانت ضعيفة وتعتمد اقتصاد الحرب في الغالب قبل 2003 فضلاً عن المنافسة الاجنبية للسلع المحلية كانت هي السمة البارزة بعد الانفتاح المفاجئ والتي تسببت في غلق الكثير من المصانع الوطنية وزيادة البطالة وشيوع الكثيرمن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وغيرها. ويمكن توضيح نتيجتين للانفتاح المفاجئ غير المدروس وهما:

-احادية الاقتصاد

ما رافق الانفتاح المفاجئ هو الاعتماده على القطاع النفطي في تمويل الاقتصاد واصابة هذا الاخير بظاهرة المرض الهولندي المتمثلة بارتفاع قيمة العملة المحلية كنتيجة لزيادة العملة الاجنبية بفعل الصادرات النفطية من جانب وتوجه العاملين للعمل في القطاع العام والنفطي من جانب آخر وذلك لسببين للحصول على الضمان التقاعدي بالنسبة للاول وارتفاع الاجور بالنسبة للثاني، هذا ما تسبب في تدهور القاعدة الانتاجية الوطنية وهدر الثروة النفطية وذلك لاستخدامها في تغطية الانفاق التشغيلي والاستيرادي بشكل كبير جداً دون أن يتم تحويلها على سطح الارض بعد إن تم استخراجها من باطن الارض كونها ثروة وطنية تشمل الجميع ولا تقتصر على أحد، اي تم الاقتصار عليها في توفير التمويل اللازم لتلبية المتطلبات المحلية والخارجية سواء الاستيرادية او الاقراضية، وهذا ما يعني اعتماد الاقتصاد العراقي على النفط فقط.

 -التبعية الاقتصادية

 الاعتماد على القطاع النفطي وتدهور القاعدة الانتاجية الوطنية وزيادة الانفاق التشغيلي والاستيرادي لتلبية الطلب المحلي دفع بالاقتصاد العراقي إلى الوقوع في شرك التبعية الاقتصادية، التي تعني فقدان الاستقلال الاقتصادي بفعل ضعف التنويع الاقتصادي والاعتماد على قطاع واحد، لأنه في ظل التنويع الاقتصادي يتم تحقيق الاستقلال الاقتصادي والتخلص من التبعية الاقتصادية لان التنويع الاقتصادي يفضي إلى إشباع الطلب المحلي، وللمزيد يمكن مراجعة المقال المنشور بعنوان" دور التنويع الاقتصادي في الاستقلال الاقتصادي".

الفرص الضائعة والتخطيط السيء

إذ لو تم الاطلاع على بيانات واحصائيات وزارات النفط والمالية والتخطيط والتجارة والبنك المركزي لتبين إن مليارات الدولارات تم صرفها في الجانب الاستهلاكي والاستيرادي فضلاً عن عمليات الفساد التي أدت إلى هدر الثروة الوطنية دون الاهتمام بإرساء قاعدة انتاجية متطورة قادرة على تمويل هذا الاستهلاك لاحقاً مع التمتع بصفة المتانة والاستقلالية بعيداً عن التبعية التي تمت الاشارة إليها آنفاً. ولكن كنتيجة لصعوبة الحصول على البيانات والاحصاءات الخاصة بالاموال المهدورة او التي أُسيء استخدامها من قبل الجهات الرسمية، سنلجأ إلى الاستشهاد ببعض ما أشارت إليه وسائل الاعلام وكما يلي: 

1- " كشف تحقيق استقصائي، انجز لاول مرة في العراق بإشراف فريق صحفي تخصصصي، تفاصيل الموازنات العامة منذ 2003 الى العام الحالي، ليحل بذلك أكثر الالغاز تعقيداً في اداء الحكومات العراقية المتعاقبة بعد الاطاحة بنظام صدام.وبحسب التحقيق الاستقصائي، فإن مجموع موازنات الدولة العراقي منذ 2005 الى العام 2018، باستثناء العام 2014، بلغ 1.134.754.563.878.027 ترليون دينار عراقي اي ما يعادل 954، 377.261.385 مليار دولار امريكي" .

2- " كشف وزير النفط العراقي عادل عبد المهدي، أن مجموع موازنات العراق منذ عام 2003 ولغاية الآن(2015) بلغت 850 مليار دولار، مقدراً بأن 25،5 مليار دولار منها ذهبت لجيوب الفاسدين من المسؤولين في الدولة، بينما أهدر 94% من الموازنة، في موازنات تشغيلية غير منتجة ومشاريع استثمارية لم تؤت ثمارها. "  

3- " فاق مجموع الموازنات المالية في العراق، منذ عام 2003، 918 مليار دولار، حيث تتصدر احتياجات الأمن والدفاع أبواب الموازنات، وسط اتهامات وجهها أعضاء في مجلس نواب ومختصون إلى الحكومات المتعاقبة بسبب "سوء" إدارتها "       

يتضح من خلال المصادر أعلاه إن هذه المبالغ مبالغ هائلة صرفت واستهلكت في غير مجالها كنتيجة للتخطيط السيء والتي تعتبر بنفس الوقت فرص ضائعة كان من الممكن اغتنامها لتطوير الاقتصاد العراقي.

وهذا يدل على إن اصحاب القرار أياً كانوا لايهمهم العراق والدليل إن هذه المبالغ ذهبت سدى دون فائدة للاقتصاد والمجتمع إذ لو كانوا يريدون فعلاً بناء دولة قوية تهتم بالمواطن بالدرجة الاولى لأهتموا ببناء اقتصاد قوي تكون وظيفته زيادة رفاه المجتمع ولما وافقوا على الانفتاح المفاجئ وتعرضه للصدمة التي لايزال لم يخرج من آثارها السلبية على كافة الصُعُد. وهذا الشجب للانفتاح المفاجئ لا يعني الرغبة بالرجوع للانغلاق الكامل بل يعني كان من المفترض أن يحصل الانفتاح ولكن بشكل تدريجي مدروس ياخذ بعين الاعتبار الظروف السياسية والاقتصادية الاجتماعية التي كانت سائدة قبل 2003 ليتم تلافي العديد من المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ظهرت كنتيجة للانفتاح المفاجئ وعدم مراعاة الظروف المذكورة. 

ولذا لابد من أخذ الدروس والعبر من الاخطاء السابقة وعدم تكرارها لتلافي الخسائر المادية والمالية والبشرية والزمنية وغيرها وحتى يتم توظيف كل الامكانات التوظيف السليم الذي يضمن تحقيق الرفاه للمجتمع عبر بناء الاقتصاد بشكل صحيح.

المصادر:

  - صحيفة العالم, أين ذهبت موازنات العراق؟, للاطلاع التفاصيل راجع الرابط http://www.alaalem.com/?aa=news&id22=46258 

  - صحيفة الاتحاد, عبد المهدي: 850 مليار دولار بددها الفاسدون في العراق, للاطلاع على التفاصيل راجع الرابط http://www.alittihad.ae/details.php?id=77582&y=2015 

  - صحيفة عربي21, موازنات العراق ما بعد صدام نحو تريليون دولار.. أين ذهبت؟, للاطلاع التفاصيل راجع الرابط https://arabi21.com/story/918594/ 

التعليقات