استطاعت البشرية في العصر الحديث، أن تحقق مكتسبات وإنجازات إنسانية عظيمة على مستوى احترام آدمية وكرامة الإنسان، التي بدورها رفعت من قيمة الإنسان وزادت من طموحه على كافة المستويات، فقد استطاعت البشرية تجاوز ظاهرة الاستبعاد والرق والبيع والمتاجرة بالنساء والاطفال، التي كانت منتشرة في مختلف الحضارات البشرية، وهي ظواهر انتشرت منذ بداية الخليقة، إذ كان يتم أسر قسم من أبناء البشر عبر الحروب والغارات والغزوات، واتخاذهم عبيدًا، يُباعون ويُشترون، ويعيشون مسلوبي الإرادة والحرية والحقوق. كما استطاع البشر تجاوز ظاهرة الاستعمار، التي انتشرت مع ولادة مفهوم الدولة الحديثة تقريبًا، فضلاً عن المواثيق والقوانين المتعلقة بحقوق الإنسان الجماعية والفردية التي اقرتها الدول والمجتمعات بشكل عام، والحقوق التي اقرتها الدول بشكل متباين، وكذلك من الانجازات التي استطاعت البشرية تحقيقها في الوقت الحاضر التغلب على الموروث الاجتماعي والثقافات السائدة في كل الحضارات عن الوضع المرير للمرأة، إذ بدأت اغلب الدول بما فيها الدول النامية والمتخلفة او غير الديمقراطية تناقش مواضيع تمكين المرأة بشكل حقيقي على كافة المستويات، ولاسيما على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حتى أصبح احترام حقوق المرأة شرطاً للاندماج في المجتمع العالمي، إذ دعت العديد من المواثيق الدولية إلى إنهاء التمييز ضد المرأة بكافة أشكاله، ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، كما أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1979 م اتفاقية خاصة بإنهاء التمييز ضد المرأة. وبهذا السياق يأتي عنوان تمكين المرأة كأحد المعالم البارزة في تاريخ مسيرة الانجازات الإنسانية في العصر الحديث والمعاصر.
إنَّ وضع المرأة في كل الحضارات كان وما يزال يصارع وضع تاريخي مرير ارتبط بشكل وثيق بالموروث الاجتماعي والثقافي لكل المجتمعات، ولاسيما تلك النظرة الدونية التي تحط من قيمة المرأة وتجعلها كالسلعة تباع وتشترى، فقد كان أرسطو يقول في كتابه السياسة: (جنس الذكر أصلح للرئاسة من جنس الأنثى، ومن ثم فتسلط الرجال على النساء مسألة طبيعية جداً). ويقول أيضًا: (ليس من المناسب أن تتحلى المرأة بفضائل الرجل، وما يصدر عن الرجال أنبل مما يصدر عن النساء). وهذا معروف ومتداول على مستوى الحضارة والفلسفة الاغريقية وشكل ديمقراطية أثينا أو ديمقراطية (دولة المدينة) أو ما تسمى بالمعنى الحديث بالديمقراطية المباشرة، فقد كانت تقوم على استبعاد النساء والعبيد من المشاركة السياسية، ومن المعروف أن أرسطو يستبعد المرأة تمامًا من ميدان الثقافة والسياسة والحياة الفكرية بصفة عامة، ليجعل وظيفتها مقتصرة على الإنجاب. كذلك الحال بالنسبة لأفلاطون الذي دعى في بعض افكاره السياسية إلى شيوعية المرأة، ليجعلها مشاعة للجميع بعيداً عن الكيان الأسري والعائلي والزواج؛ وذلك بهدف الحفاظ على كينونة الدولة بولاء واهتمام دائمين بعيداً عن الولاء للأسرة والاهتمام بها. فبعض الحضارات كانت تقتص من المرأة في حال ارتكب زوجها أو أبنها جريمة، وتتم معاقبتها بالقتل أو النفي، كذلك كان الفرنسيين إذا حوصروا في المعارك يقومون بقتل النساء دون الرجال بهدف الحفاظ على المؤونة لوقتٍ أطول؛ لهذا فأن ما وصلت له المرأة في الوقت الحاضر بشكل عام، يعد انجاز كبير بغض النظر عن كل اشكال التمييز التي ما تزال تعاني منها، سواء الدينية أو المجتمعية، التي تنظر لها بأنها كائن ضعيف غير مؤهل لأخذ دور الرجل في كل الميادين. فضلاً عن الآراء الفقهية التي كانت سائدة وما تزال في معظم المجتمعات الإسلامية، التي تعارض تعليم المرأة، ودخولها ميدان العمل الوظيفي والاقتصادي والرياضي، ومشاركتها في المجال السياسي وإدارة الشأن العام؛ لهذا نعتقد بأن اساس كل تمكين، ليس للمرأة فقط، وإنما بالنسبة للرجل أيضًا، يكمن في التمكين النفسي والاجتماعي، فالتمكين النفسي يعد أساس تمكين المرأة الفعلي، وهو أهم الأبعاد التي يجب التركيز عليها لإرساء تمكين حقيقي للمرأة داخل أي مجتمع. فالمرأة تكون أكثر إنتاجية ودافعية إذا شعرت بإمكانية تقديم مساهمات قيمة من خلال أفكار جديدة أو طرق أفضل لأداء العمل والمشاركة في علمية اتخاذ القرار؛ لذا فعملية التمكين تسعى لتنمية المرأة وزيادة قدراتها لقيادة نفسيا وغيرها من خلال استقلالها الفكري؛ مما يكسبها الثقة والرضا عن النفس، ولعل اهم مرتكزاته تكمن في ما نسميه، المعنى أول المغزى، أي الانسجام بين الفهم الشخصي للقيم وتوقعات الدور من خلال اهتمام المرأة بعملها وايمانها، وأن ما تقوم به مهم، وأهم طريقة لزيادة الشعور بالمعنى هو وضع أهداف واضحة لا تتناقض مع القيم التي تحملها المرأة. لهذا يتضمن البعد النفسي استطاعة النساء العمل على تحسين واقعهن الفردي والمجتمعي اللاتي يعشن فيه ومن ثم يركز على البعد الشعوري للمرأة ومدى اعتقادها بإمكانية إحداث التغيير في مجرى حياتها، كما يتضمن ويقتضي البعد النفسي للتمكين ثورة المرأة على السيطرة الذكورية التي تعيقها عن تحقيق ذاتها.
أما البعد الاجتماعي لتمكين المرأة فيكمن من خلال تهيئة الفرص لمشاركة اجتماعية أكبر وتوسيع قدراتها على الاختيار، ومنع الممارسات التي تكرس التمييز ضد المرأة أو التي تضر بها، كما أن التمكين الاجتماعي يكون من خلال مساعدة النساء في الحصول على حقوقهن في المجالات المختلفة، وتوفير خدمات التعليم والصحة للمرأة، وكذلك مساندة المرأة التي تعيش ظروفًا صعبة بما في ذلك المرأة المسُنةَّ والمعاقة، وتمكين الشابات وزيادة مشاركتهن الاجتماعية. وتمكين المرأة اجتماعياً يكمن في تغيير القيم الثقافية والموروثات الشعبية السائدة في اغلب المجتمعات عن وضع ومكانة ودور المرأة، ولاسيما في بعض المجتمعات الإسلامية والعربية ومنها العراق، وتوسيع نشاط منظمات المجتمع المدني بشكل حقيقي يمس واقع المشاكل وجوهرها وليس بشكل شكلي من اجل الدعاية والإعلام فقط، والحد من سياسة تهميش المرأة والمساواة بين الجنسين، كما تتمثل التنشئة الاجتماعية التي تتمثل بالمورثات الاجتماعية التي تنتقل من جيل الى اخر عن طريق التنشئة الاجتماعية، واحدة من معوقات تمكين المرأة في المجتمعات الشرقية، ولاسيما في المجتمعات العربية.
بالمجمل، يبدو أنَّ عملية تمكين المرأة تبقى خاضعة لعدة أمور، منها التمايز الجسدي بين الرجل والمرأة والطبيعة التكوينية الربانية التي جعلها الله في الرجل دون المرأة او بالعكس، فلكل منهما دور خاص في كثير من الأمور حتى وأنّ تبادلا تلك الادوار. والمحددات العائلية التي من شأنها أنّ تعيق أو تؤدي إلى إضعاف دور الأمومة والتماسك العائلي، ولاسيما في المجتمعات الإسلامية والعربية، ففي كل المجتمعات التقليدية والمحافظة، تتفرغ المرأة لشؤون منزلها وحياتها العائلية، وتصرف كل جهدها لإسعاد زوجها وتربية أبنائها، فضلاً عن التحدي الأخلاقي، الذي يتعلق بالعفة والانضباط العاطفي في العلاقة بين الجنسين خارج إطار الزوجية، كذلك تبقى موضوعة تمكين المرأة خاضعة في كثير من الاحايين إلى سلطة الرجل وقوته وهيمنته، التي تقف دائماً للحيلولة دون عملية التمكين.
لكن بشكل عام، يبدو إن سعي مجتمعنا من خلال السلطة الفاعلة فيه لتمكين المرأة وفق أجندة دولية أو تشريعات دولية، هو منطلق مريب وتشوبه الكثير من التشوهات والتحفظات، بسبب رفض المفهوم تارة، أو ما يتعلق به من تحديات وتغريب تارة أخرى؛ لذا يستوجب الأمر تحديد مفهوم التمكين للمرأة وفق نظرتها وارادتها الذاتية وليس وفق إملاءات غربية أو سلطوية، تراعي فيها توجهاتها وفهمها وتصورها الخاص عن عالمها وحياتها ومستوى استيعابيا لحقوقها وواجباتها ورؤيتها المستقبلية لحياتها، وبما يتلائم مع وضعها الاجتماعي والبيئة المحيطة بها؛ لأن التمرد على المفاهيم الاجتماعية والثقافية السائدة بتشريعات خارجية أو ثقافة أجنبية، سيعرضها إلى العنف بشكل أكبر ويصادر ما تحقق لها من مكتسبات تاريخية التي وصلت لها في الوقت الراهن.