لا يجب على الولايات المتحدة الامريكية اتخاذ قرارات عسكرية او دبلوماسية استنادا على ما يحفظ مصداقيتها فقط، لأن المصداقية يجب ان تكون وسيلة وليس هدفاً بحد ذاتها. ولكن الولايات المتحدة لا تستطيع الاستمرار بقيادة الاجراءات الدولية المصممة للدول المقاطعة واحضارهم مجدداً الى طاولة المفاوضات
بقلم: أريان طباطبائي
الناشر: مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية نقلا عن مجلة The Atlantic
ترجمة: وحدة الترجمة في مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
إذا اعتمدت المصداقية في جزء منها على رغبة البلد في اتباع طريقة التهديدات العسكرية، فمن المؤكد ان هذا يعتمد على التزامها بالاتفاقات الدولية.
تحدثت السفيرة الامريكية نيكي هيلي على وجه الخصوص عن الصفقة الايرانية والنوايا المصممة لتشويه سمعتها. وبشكل موسع ، قالت في خطاب لها حول الموضوع انه بموجب الاتفاقية فإن الولايات المتحدة الامريكية والقوى الدولية قد تفاجأوا بالموقف الايراني. فقد وافقت طهران على تعليق برنامجها النووي مقابل التخفيف من العقوبات، وهي اتفاقية يحاول الرئيس الامريكي ترامب اعادة النظر بها. وتناول خطاب هيلي بعض تفاصيل هذه الافكار، عندما قالت : ان تقييم أي اتفاقية دولية يبدأ وينتهي بطبيعة الحكومة التي قامت بالتوقيع عليه ... هل يمكن الوثوق بها بالالتزام ببنودها؟
بالطبع، كانت تتكلم حول طبيعة الحكومة الايرانية، الا ان موضوع الالتزام يمكن تطبيقه على الادارة التي تخدم فيها. واذا كانت مصداقية الولايات المتحدة الامريكية – كما ناقش نقاد الرئيس السابق اوباما فيما يتعلق بازمة الخطوط الحمراء السورية – تعتمد جزءاً على الرغبة في الاستمرار من خلال التهديدات العسكر ية، فمن المؤكد ان هذا الأمر يعتمد ، ايضاً ، على التزامها بالاتفاقات الدبلوماسية.
وكما تحاول ادارة الرئيس ترامب ايجاد حل للتهديد النووي الكوري الشمالي المتزايد من خلال التلميح علانية انها ستنسحب من الصفقة النووية مع ايران – رغم وجود المراقبين المستقلين ورقابتهم المتكررة وتأكيدهم ان ايران ملتزمة حتى النهاية - فإن مثل هذه المصداقية قد تحدد امكانية حل الازمة سلمياً في شبه القارة الكورية.
سيقوم الكوريون الشماليون بمراقبة الصفقة الايرانية، وكذلك مصداقية الجانب الامريكي كما كان عليه الامر في الخطوط الحمراء الشهيرة الخاصة بالرئيس اوباما في ازمة سوريا. وقد جرى انتقاد فشل الرئيس اوباما في معاقبة نظام الاسد لإستخدامه الاسلحة الكيماوية – بعدما صدر الاعلان ان استخدام هذه الاسلحة سيكون خطاَ احمراً سيؤدي الى عواقب شديدة على سوريا اذا تجاوزت هذه الخطوط الحمراء .
ورفض الرئيس اوباما ، في دفاعه، موضوع المصداقية في هذا السياق عندما ذكر ان القاء القنابل على فرد هو لمجرد إثبات رغبتك لإلقاء القنابل على أحدهم فقط؟.
ولا يتمتع هذا الرأي ببعض الاسناد في دوائر وحلقات السياسة الخارجية، الا ان بعضهم من صانعي السياسة لا يزال يعشعش هذه المصداقية لدرجة انها تستطيع ان تجر الولايات المتحدة الامريكية الى الحروب التي هي ليست من مصالحها القومية.
الا ان المصداقية لا تحتاج فقط القوة العسكرية، فتهديدات الدول العسكرية قد تؤخذ على محمل الجد عندما تكون واضحة وجرى استخدامها في الماضي. والشيء نفسه سيكون حقيقياً من الناحية الدبلوماسية: فالدول تستطيع تحسين تقدمها من خلال القنوات الدبلوماسية اذا توفر لديها سجل تتابعه في هذا الامر من خلال التزاماتها عبر هذه القنوات. واذا ارادت احدى الدول تبيان قدراتها ورغبتها في استخدام القوة لتحقيق تهديد فعلي لاعدائها، ستكون تلك الدولة - التي تدخل باتفاقات دولية- مجبرة على تبيان قدرتها ورغبتها الاستمرار بالموضوع حتى نهايته، وبخلافه ليس هناك من فائدة – في المقام الاول - للدعوة لطاولة المفاوضات.
لا نريد القول ان المصداقية هي الامر الوحيد من حيث الاهمية، كما ان الفشل والخروقات الدبلوماسية لا تعني الفشل الكامل للجهود الدبلوماسية او التي تقود الى بدائل عسكرية. ورغم التأريخ المليئ بالتوترات وخرق التصريحات الدبلوماسية السابقة، من الممكن ان تعود الولايات المتحدة الامريكية وكوريا الشمالية الى طاولة المفاوضات من جديد، كما فعلت امريكا وايران في السابق.
ويعود هذا لسبب بسيط جداً هو: من مصالح الدول التفاوض عندما تكون البدائل أسوأ بكثير، وعندما تكون كلفة فشل المفاوضات اقل من الكلفة المحتملة لعدم التفاوض.
واذا ما استمرينا في الموضوع، فإن هيلي كانت مصيبة في تقديراتها: من المهم متابعة شؤون الدول، فبدون وجود مستوى معين من التنبوء، فإن جميع الاتفاقيات الدولية ستتساقط. واضافة الى ذلك، فإن الفشل في رؤية الحلول الدبلوماسية سيضع الدول في مواقف سيئة اكثر سوءاً من المواقف قبل بدء المفاوضات. واذا ركزنا على متابعة تأريخ الاحداث الايرانية، فقد فشلت في تقدير ما تريده ادارتها في ابلاغ العالم حول ما تراه عن الولايات المتحدة الامريكية.
وخلال اشهر قليلة، بدأ الرئيس ترامب بالسحب التدريجي لمصداقية من سبقوه من كل من الجمهوريين والديمقراطيين والتي بنيت على عدة عقود من الزمن. ففي الاسابيع القليلة الاولى، وضعت ادارته ايران تحت النظر لنشاطها في برنامجها الصاروخي (بدون ذكر تبعات ما تعنيه وضع ايران تحت النظر)، وقبل الاعلان الامريكي انسحابه من اتفاقية باريس حول تغير المناخ. وقد ارسلت الادارة الامريكية عدة اشارات مختلفة لعدد من الدول، بضمنها الدول المعادية لها، مثل ايران وكوريا الشمالية، اضافة الى حلفائها وخصوصاً دول حلف الاطلسي، ولعدد من القوى الاقتصادية في العالم، مثل الصين.
في الواقع، اعلن الرئيس الامريكي ان حلف الناتو قد اصبح مؤسسة قديمة الا انه غير رأيه بعد عدة اشهر في ان منظمة الحلف الاطلسي لم تعد قديمة، كما اعلن في احدى وعوده خلال الحملة الرئاسية حول السياسات الخارجية والاقتصادية مهدداً الصين بإعتبارها الدولة التي تتلاعب بالعملة، الا انه تراجع عن هذا التصريح، مما جعل الاصدقاء والاعداء يشعرون بالارتباك بحيث جعلهم لا يعتقدون بصحة التصريحات النارية ضد كوريا الشمالية او الاتفاقيات الدولية وبالتالي لن يأخذوها بمحمل الجد تحت هذه الادارة الامريكية.
إذا لم ينظر لامريكا انها صادقة في عالم الدبلوماسية، فأي دوافع هناك للدول الاخرى للجلوس على طاولة المفاوضات والاتفاق لتغيير هذا السلوك؟
تواجه الولايات المتحدة الامريكية في الوقت الراهن، إيران التي ادى برنامجها النووي الى الوصول الى الاتفاقية النووية. فالمراقبين النوويين التابعين لمنظمة الامم المتحدة اكدوا للمرة الثامنة التزام ايران بالاتفاقية منذ البدء بتنفيذها قبل أقل من عامين. ولا تزال الجمهورية الايرانية تلعب دور التحدي في عدد من المجالات، بضمنها سجلها الخاص بحقوق الانسان، واسناد المجاميع الارهابية والنشاطات الاقليمية الاخرى، كما بينت هيلي بدقة في خطابها. الا ان حلفاء امريكا وشركائها من المفاوضين معها – فرنسا والمانيا والمملكة المتحدة ، وكذلك الصين وروسيا – كرروا في تصريحاتهم ان الاتفاقية تسير في اضيق حلقاتها الخاصة بتقييد برنامج ايران النووي. وقالت هيلي انه جرى ترتيب الاتفاقية بطريقة تجعلها غير ملفتة للاهتمام. وبعبارة اخرى، بما ان الاتفاقية غير متكاملة ، فإن بدائلها ستكون اسوأ منها.
والأكثر من ذلك، وفرت الاتفاقية مجالاً للمجتمع الدولي ان يقوم بالاستكشافات للحلول الدبلوماسية المتعلقة بالتحديات الامنية التي يخلقها السلوك الايراني . وللاهمية، نلاحظ ان الممثل الاعلى للاتحاد الاوربي في مجالات الشؤون الخارجية والسياسة الامنية فيديريكا موغيريني نبهت الرئيس ترامب عدة مرات الى ان الاتفاقية هي متعددة الاطراف. ويعني هذا انه التزام ليس فقط لإيران وانما الى الاطراف الاخرى في الاتفاقية التي شملت مصالحهم ايضاً، وان اي طرف منهم لا يرغب بالانسحاب.
ورغم كل هذا، يبدو ان ادارة الرئيس ترامب عازمة على اغراق المركب، فخلال هذه الاثناء تواجه الولايات المتحدة الامريكية كوريا الشمالية – هذه البلاد ذات النظام الوحشي التي حصلت على اسلحة نووية صغيرة لكنها قيد التطوير والتنامي – وفي بعض الاحيان تواجه ايضاً ايران التي لم تحقق ما حققته كوريا الشمالية او الاتفاقية الايرانية غير الناجحة. ويذكر ان كوريا الشمالية قد جربت بنجاح صواريخها عابرة القارات قبل الاعلان عن الاسلحة النووية الحرارية.
وفي الوقت الذي تزايدت فيه قدرات بيونغ يانغ، تضاءلت قدرات ادارة السياسة الامريكية الخارجية. وكما كتب مارك بودوين في مجلة الاتلانتيك قائلاً: ان اي محاولة لسحق كوريا الشمالية ستؤدي ليس فقط الى خسائر كبرى، وانما الى أكبر الكوارث في التأريخ الانساني.
إن الحملة العسكرية على شبه القارة الكورية ستودي بحياة مئات الالاف من الاشخاص في مرحلتها الاولى وقد تكون بذات نتائج مدمرة بشكل أكبر.
كل هذا يجعل من الدبلوماسية الكورية الشمالية والصينية جزءاً لا يتجزأ من اي من الحلول. ويعني هذا ان افضل السيناريوهات للحل السلمي هو عقد صفقة تشبه الى حد ما الصفقة مع ايران – أي بعيدة عن الكمال في ترتيبها، ولكن تشمل قناعات اقتصادية من اجل تجميد بعض نواحي التطوير النووي الخاص بكوريا الشمالية– الا اذا كانت كوريا الشمالية تمتلك الاسلحة النووية فعلاً.
أما فيما يتعلق الامر بإيران، لم يكشف المسؤولين الامريكيين النقص في استراتيجيتهم وتناسقها المستمر، وانما في جهودهم المعلنة لنسف الاتفاقية والقاء اللوم على طهران. وكجزء من هذه الجهود، صرح بعض المسؤولين الامريكيين انهم يبحثون عن فرض مجدد للعقوبات التي جرت ازالتها بموجب الاتفاقية وتحت مختلف الحجج والمسميات، مثل نشاطات ايران الصاروخية التي لم تشملها الاتفاقية أصلاً.
وحاول آخرون ، بضمنهم هيلي، ايجاد أدلة لصراخهم في عدم التزام ايران، رغم وجود مراقبي الامم المتحدة النوويين واللجنة المشتركة التي تشرف على تنفيذ الاتفاقية ونقاشات شركاء الولايات المتحدة الامريكية بعكس ذلك.
إضافة الى ذلك، انضم الى هذه المؤسسات الدولية – مع حلفاء وشركاء الولايات المتحدة الامريكية – عدد من مجلس وزراء الرئيس ترامب، بضمنهم المعارض لإيران وزير الدفاع الامريكي جيمس ماتيس ومستشار الامن القومي هـ. ر. ماكماستر.
ولكن كانت هناك مطبات صغيرة على طول الطريق، ومثال ذلك، تجاوز إيران القليل في مسألة الماء الثقيل، الا ان مثل هذه المطبات موجودة في عمليات تنفيذ هذه الاتفاقيات السياسية والمعقدة. واثبتت الاتفاقية النووية مرونتها وفاعليتها في ضوء هذه التحديات ويوجه الشكر للآلية التي بنيت عليها الصفقة النووية.
إن محاولات الادارة الامريكية في تقليل اهمية الصفقة النووية مع إيران ستؤدي الى التأثير على مصداقية الولايات المتحدة، وبالتالي ستقيد المحاولات الامريكية في السيطرة على زمام الامور في طموحات كوريا الشمالية النووية، اضافة الى قضايا محتملة اخرى تتعلق بإساءة السلوك النووي – بضمنها إيران إذا لم تلتزم بالاتفاق.
لا يجب على الولايات المتحدة الامريكية اتخاذ قرارات عسكرية او دبلوماسية استنادا على ما يحفظ مصداقيتها فقط، لأن المصداقية يجب ان تكون وسيلة وليس هدفاً بحد ذاتها. ولكن الولايات المتحدة لا تستطيع الاستمرار بقيادة الاجراءات الدولية المصممة للدول المقاطعة واحضارهم مجدداً الى طاولة المفاوضات، وبالتالي تجنب استخدام القوة لهذا الغرض.
رابط المقال الاصلي:
https://www.theatlantic.com/international/archive/2017/09/iran-deal-north-korea/539250/
اضافةتعليق