الوضع الحالي لكردستان لا يستوعبه مفهوم الفدرالية، ولذا يكون لزاما ما بعد ترسيم الحدود التفاوض الهادئ للوصول الى صيغة لأنتظام كردستان ضمن العراق
من اهم ضمانات المستقبل دوام الحضور الفعال لأرادة السلام والتعاون والانفتاح والتواصل الحضاري والانساني، التي استقر عليها العراقيون، لإدارة اختلاف الخيارات بين الاقليم وبقية العراق. ولا شك عندي ان لهذا النمط الايجابي في التفكير والسلوك صلة، لا يمكن انكارها موضوعيا، بالمشتركات الثقافية والاجتماعية التي صنعها تاريخ طويل لحياة البشر على هذه الارض في الدين والسياسة والاقتصاد والخوف والامل. وقد ساعد نفوذ تلك الارادة الخيرة في الحاضر مثلما في الماضي القريب على تهذيب السياسة لتجنب الكثير من المآسي والخسائر المحتملة.
كما ان منطق المشاطرة والمغالبة، ومجاراة القوى الفاعلة في كردستان والعراق لسياسات وولاءات اقليمية ودولية متعارضة، والتطلعات الحزبية والشخصية لدور أكبر ونفوذ اوسع، كان لكل هذه وما اليها، نتائج سلبية كبيرة، بما في ذلك اسهامها في الانهيار الامني الواسع الذي أعقب احتلال الموصل، وضياع فرص سانحة في التنمية والازدهار وبناء قوة الدفاع عن امن العراق وحقوق شعبه في الحرية والعدالة والرفاه.
وقد استمعت يوم التاسع من حزيران 2017، لتصريح من شخصية قيادية في كردستان مفاده ان الاستفتاء، بنعم وهو المتوقع، لا يعني الاستقلال تلقائيا انما هو مقدمة للحوار، او التفاوض، مع بغداد، وإذا كان المقصود مقايضة الاستقلال بمكاسب، مالية وجغرافية وترتيبات امنية وعلاقات اقليمية ودولية لكردستان مع البقاء اسميا ضمن العراق فهذا المسار بعيد عن الايجابية. لأنه، وإن وصف بالحصافة السياسية حسب الدارج، سوف يؤدي الى تآكل مقومات الاستقرار والتعاون الامني والاقتصادي في العلاقة بين الاقليم والدولة العراقية.
والافضل من ذلك الوضوح التام والمباشرة بمفاوضات عالية التنظيم والاستمرارية لترسيم حدود الاقليم. لأن التوصل الى حدود معترف بها من كافة الاطراف العراقية هو نقطة البدء المنطقية لجميع الخيارات. وهنا يكون نطاق الاستفتاء البشري والجغرافي مطابقا من الناحية القانونية للاقليم الذي يراد تقرير مصيره، وهي مسألة ليست شكلية، اي ان التسوية حول الاراضي المتنازع عليها وسكانها من العرب والكورد والاقليات في غاية الاهمية قبل الاستفتاء.
نعم، ترسيم الحدود بمفاوضات بين كردستان وبقية العراق يسبق الاستفتاء منطقيا، ومن المناسب ان توكل هذه التدابير للهيئات المنتخبة في مجلس النواب والمحافظات، وتستمر الى ما بعد الانتخابات القادمة للاطمئنان الى تمثيل العراقيين في العملية، واكتساب نتائج التفاوض شرعية ملزمة اخلاقيا ودستوريا للأجيال القادمة.
وتتضمن عملية ترسيم الحدود، بالضرورة السياسية ومبادئ الديمقراطية، عناية فائقة بالمجموعات الاثنية والدينية واختيارها بين كردستان وبقية العراق، والتنظيم الاداري لوجودها وحياتها الثقافية وأمنها ومشاركتها السياسة وفرصها في الازدهار الاقتصادي والخدمات العامة... وسواها. ولذا يستحسن تنظيم المفاوضات بين مجموعتي كردستان والعراق الكبير من جهة وبين الطرفين وممثلي النطاق الجغرافي المحيط بكردستان من كافة الاثنيات والمجموعات الدينية من جهة اخرى.
وبعد الاتفاق على الحدود، عند ذاك، يصبح النظر في مستقبل العلاقة بين كردستان والعراق ممكنا عمليا مع الاخذ بالاعتبار امور ليس من المعقول التغاضي عنها وقد آن الاوان لتناولها دون حرج وهي مجموع عناصر الوضع القائم.
إذ ان كردستان ضمن حدودها التي كانت قائمة عند التغيير عام 2003 يمكن ان تندرج، على الاغلب، تحت مصطلح الاستقلال بالأمر الواقع De facto independence. وهذا الاستقلال تجلّى في ادارة الثروة الطبيعية لا سيما استكشاف وتطوير واستخراج وتصدير النفط وغيرها. علما إن الثروة الطبيعية هي مرتكز اقتصاد العراق وماليته العامة. وان اصرار حكومة كردستان على التصرف المستقل بالثروة النفطية ليس كما يقال بسبب عدم الاتفاق على قانون النفط والغاز، او التفسير المتفاوت لنصوص الدستور، انما هو مطلب الاستقلال الأقتصادي والسياسي للاقليم.
وايضا، في السنوات السابقة وعندما كان الاقليم يستلم حصة من الموازنة العامة الى وقت قريب، لم تكن للحكومة العراقية اية سيادة مالية هناك. وان الموازنة العامة ليست مجرد قيود محاسبية للايرادات والنفقات بل هي سلطة وتتمثل فيها السيادة على اعلى درجاتها، وهو المعروف في جميع الدول الاتحادية مثل الولايات المتحدة والمانيا والبرازيل ... وغيرها، وهذا لا يتنافى مع سيادة حكومة الاقليم لكنها طبيعة الدولة الاتحادية.
وحكومة كردستان مستقلة امنيا، ولها علاقات خارجية واضحة وواسعة وذات مضامين استراتيجية ايضا. وعنمدا يقال إن الاقليم ينسّق مع حكومة بغداد فهذا التعبير لا يستخدم، في الامن والعلاقات الخارجية، إلا بين كيانات مستقلة.
وخلال المدة التي سبقت الانهيار الامني في الموصل، خاصة، كانت علاقات كردستان مع حكومة بغداد تتسم بالتقاطع والتشنج، وهي لا تُفسّر بموقف معارض من التحالف الكردستاني، في المجلس النيابي، تجاه حكومة بغداد بل تختلف، وليس لها مثيل بين اقليم ودولته المركزية، حسب معلوماتي. وتفرض هذه الوقائع نفسها على السياسي الحريص على امن الناس وواجبات الدولة تجاه مواطنيها في اي توصيف يُقترح لمستقبل الاقليم سياسيا او اداريا.
وبين كردستان وحكومة العراق التزامات ومستحقات مالية معروفة لدى الدوائر المختصة وتحتاج الى تدقيق وافصاح وتثبيت. لأن الوضوح والشفّافية من المتطلبات التي لا غنى عنها في هذا المجال. مثلما هي كذلك بين الحكومة والشركات العامة والمحافظات، فهذه طبيعة التنظيم المالي المعاصر في كل الدول والمجتمعات. ولا يتعارض هذا الأجراء مع اية تسويات، مفترضة في الذهن، يمكن الاتفاق عليها في المستقبل.
فالوضع الحالي لكردستان لا يستوعبه مفهوم الفدرالية، ولذا يكون لزاما ما بعد ترسيم الحدود التفاوض الهادئ للوصول الى صيغة لأنتظام كردستان ضمن العراق. وفي حالة بقاء هذا المستوى من الاستقلال، وهو الارجح، فان الصيغة الجديدة لا تمثل استمرارا للوضع الحالي لماذا؟
لأن حكومة بغداد تمارس سيادة الدولة على باقي العراق خارج كردستان وهي المسؤولة عن امنه واقتصاده وماليته العامة وفرض القانون وحماية حقوق المواطنين، وليس لها دور مماثل في كردستان، او اي دور متعارف عليه في الانظمة الاتحادية. فلابد تبعا لذلك ان تمثل الهيئة المنتخبة والحكومة المنبثقة عنها مواطني الارض التي تحكمها تلك الهيئة التشريعية والحكومة. ومن هذه الزاوية تُبحث صيغة ارتباط كردستان مع الدولة العراقية على اسس اخرى، ربما فريدة من نوعها، عند التمسك بالاستقلال في وضعه الحالي، من جانب كردستان، وامتداده الى الاراضي الاضافية بعد ترسيم الحدود نتيجة المفاوضات آنفة الذكر.
إذا ما ذهبت كردستان نحو دولة كاملة العضوية في الامم المتحدة تصبح حدود الاقليم دولية، وهنا سوف يختلف وضع العراقيين والكردستانيين في الاقليم والدولة العراقية على التوالي من الناحية القانونية. ويطال الاختلاف الممتلكات بمختلف انواعها والارصدة المالية للمواطنين والهيئات الرسمية وحقوق التجنس وتقاعد الموظفين وغير ذلك، ومن الافضل التباحث حول هذه الامور لأنها مهمة.
والأولى ان يصار الى اضافة مادة في الدستور العراقي يوافق عليها الشعب تفسح المجال لأجراءات الانفصال عندما تختاره كردستان وتتوافق عليه القوى السياسية المهيمنة.
ورغم ما اعتدنا عليه من التعاطف مع المطالب السياسية والقومية لأخوتنا الكورد، لكن من الصعب على عراقي مثلي يقال له، في هذه المرحلة من العمر، إنك تنتمي الى شعب ليس من ضمنه الكورد ودولة العراق بدون كردستان.
اضافةتعليق