صلاحية الولايات والأقاليم في إبرام المعاهدات الدولية

يعتبر الموضوع الذي تم اختيارهُ في هذا المقال موضوعاً من موضوعات الساعة إذ إن الوحدات المكونة للدولة الفيدرالية القديمة والحديثة وفي ظل نظام العولمة أخذت وبشكل متزايد تضطلع بمهمة العلاقات الخارجية مع الدول الأخرى وعلى مختلف المستويات. إن السياسة الخارجية في الدول الفدرالية تقليدياً كانت مسؤولية الحكومة المركزية بحكم الدستور لأن هذهِ المهمة كانت لا تخضع لمبدأ تقاسم السلطات بسبب الحاجة لتقديم جبهة موحدة في مقابل الدول الأخرى. إلا إن هذا التوجه قد تغير في الآونة الأخيرة إذ انخرطت الوحدات المكونة للدولة الفيدرالية في ممارسة نشاطات دولية كانت إلى وقت قريب من اختصاص الدولة الاتحادية بحيث أصبح هناك تشارك في مستويات الحكم بين الحكومة الفدرالية وحكومات الوحدات المكونة للدولة الفدرالية (الولايات، الأقاليم، الكانتونات، الجمهوريات). وتشكل السلطات المتعلقة بإبرام المعاهدات الدولية وتطبيقها أهمية خاصة من حيث مدى الصلاحية الممنوحة لهذهِ الوحدات والتي غالباً ما يقوم الدستور الاتحادي بتحديد مداها لكي تأخذ الوحدات باعتبارها مصالح الدولة الاتحادية فيما تبرمهُ من معاهدات طالما إن تطبيق هذهِ المعاهدات قد يصبح صعباً إذا لم تتعاون هذهِ الوحدات مع الحكومة الفيدرالية وما يمكن أن ينتجه من مسؤولية دولية في حالة مخالفة التعهدات مع الدول الأخرى. إن أهمية إبرام المعاهدات في الدولة الفيدرالية تتجلى تمام التجلي في عصرنا هذا إذ أخذت هذهِ المعاهدات تتناول مسائل داخلية حساسة قد تكون موضع خلاف سياسي كبير خاصةً في ظل توزيع الدستور الاتحادي للاختصاصات بين المركز والولايات ويزداد الأمر تعقيداً عندما تكون المسائل داخلة في اختصاص الولايات المطلق ومن هنا أصبحت الكثير من المسائل الواقعة ضمن اختصاص الولايات محل معاهدات دولية وغالباً ما تشمل هذهِ المسائل العديد من الشؤون الاقتصادية والاجتماعية. إن القاعدة المقررة في القانون الدولي العام فيما يتعلق بتنظيم المعاهدات لا تحدد الجهة المختصة بإبرام المعاهدة في الدول وإنما تترك ذلك للقواعد الدستورية في كل دولة سواء أكانت دولة بسيطة أم اتحادية ولذلك فإن الدساتير تلعب دوراً حيوياً في بيان طبيعة الاختصاصات الدولية والجهات المختصة بممارستها متأثرة في ذلك بعوامل داخلية وخارجية. إن الدساتير في الدول الاتحادية اتخذت اتجاهين مختلفين في تنظيم صلاحية إبرام المعاهدات الدولية، فبعض الدساتير الاتحادية ذهبت إلى وحدة السياسة الخارجية ومنها إبرام المعاهدات وبالتالي حصر هذا الاتجاه صلاحيات التعاهد بيد الحكومة الاتحادية وهذا ما سار عليهِ دستور الولايات المتحدة الأمريكية الصادر في أيلول عام 1787 الذي منح رئيس الجمهورية وحدة تمثيل الدولة في مجال العلاقات الخارجية وإنهُ يملك صلاحية عقد المعاهدات شريطة موافقة أعضاء مجلس الشيوخ بالثلثين وهذا ما سار عليهِ الدستور العراقي الصادر عام 2005 الذي جعل التفاوض بشأن المعاهدات والاتفاقيات الدولية وإبرامها من الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية (مجلس الوزراء) مع وجوب مصادقة مجلس النواب بأغلبية ثلثي أعضائهُ. وقد ذهبت دساتير أخرى إلى إعطاء أعضاء الاتحاد (الولايات، الأقاليم) صلاحية عقد بعض المعاهدات الدولية إذ يرينا الواقع الدستوري والدولي إن ثمة دولاً اتحادية تمنح فيها الأجزاء التي تؤلفها صلاحيات معينة في ميدان التعاهد الدولي وقد سار على هذا الاتجاه الدستور السويسري الذي منح الولايات (الكانتونات) إبرام المعاهدات مع الدول الأجنبية في المسائل الاقتصادية والحدودية والبوليسية وعلى شرط أن لا تتضمن هذهِ المعاهدات ما يتعارض مع غايات الاتحاد وحقوق الولايات الأخرى كما أخذ دستور الإمارات العربية المتحدة الصادر في تموز عام 1971 بهذا الاتجاه فأجاز للإمارات الأعضاء إبرام اتفاقيات محددة ذات طبيعة إدارية محلية مع الدول المجاورة على أن لا تتعارض مع القوانين الاتحادية وبشرط إخطار المجلس الأعلى للاتحاد. وإذا كانت بعض الدساتير الاتحادية تخول الحكومة الاتحادية الهيمنة على إدارة العلاقات الدولية فإن بعض الدساتير الأخرى سمحت للولايات إبرام المعاهدات مع وضع قيود دستورية ترتكز على أساس النظر إلى أثر المعاهدات مع وضع قيود دستورية ترتكز على أساس النظر إلى أثر المعاهدات في المركز الدولي للدولة الاتحادية ويبرز هذا الأثر من طبيعة المعاهدات المراد إبرامها فإذا كانت هذهِ المعاهدة ذات طبيعة سياسية فإن الدساتير الاتحادية تنيط إبرامها بالحكومة الاتحادية أما إذا كانت المعاهدة ذات طبيعة غير سياسية فإن بعض الدساتير الاتحادية منح الولايات سلطة إبرامها مع وضع بعض القيود الدستورية ومنها موافقة السلطة الاتحادية وعدم تعارضها مع الحقوق والسلطات الدستورية للولايات الأخرى أو تعارضها مع المعاهدات التي تبرمها الحكومة الاتحادية فضلاً عن عدم تعارض هذهِ المعاهدات مع الدستور الاتحادي والقوانين الاتحادية. والخلاصة لما تقدم إنهُ في ظل التطور والتداخل في مختلف العلاقات الدولية سواء من الناحية السياسية أم الاقتصادية أم الاجتماعية وبعد أن أصبحت هذهِ المسائل موضع اهتمام متزايد من قبل القانون الدولي أضحى من الممكن أن تفوض الأقاليم والولايات المكونة للدولة الفيدرالية بعض الصلاحيات في إبرام بعض المعاهدات غير ذات الطابع السياسي كالمعاهدات المتعلقة بالجوار الجغرافي مثل المعاهدات الإدارية والكمركية والزراعية والمتعلقة بمسائل النقل والطرق والرعي مع تقييد ذلك بقيود ينص عليها الدستور الاتحادي. وإذا استعرضنا الواقع النظري والعملي في العراق في ظل دستور عام 2005 لوجدنا أن نص المادة (110) أولاً تجعل السلطة الاتحادية مختصة بشكل حصري في التفاوض وإبرام المعاهدات الدولية مع إمكانية تفويض بعض اختصاصات السلطة الاتحادية للمحافظات والعكس صحيح حسب نص المادة (123) من الدستور إلاّ إننا نرى في الواقع العملي قيام إقليم كردستان وبعض المحافظات غير المنتظمة في إقليم بإبرام بعض ما سميّ تجاوزاً اتفاقيات اقتصادية أو استثمارية مع بعض الدول والشركات الأجنبية وهذا في الحقيقة فيهِ مخالفة لنصوص الدستور المتقدمة وإذا كنا نتحفظ بشكل كبير على اطلاق تسمية (اتفاقيات ومعاهدات) على مثل هذهِ العقود الاستثمارية كون المعاهدات أو الاتفاقيات تقوم أصلاً بين الدول فإننا مع ذلك بالنسبة لإبرام عقود استثمارية مع الشركات ويجب أن يراعى فيها السياسات الاقتصادية والاجتماعية والإستراتيجية العامة للدولة وحسب قانون الاستثمار العراقي إذ إن إبرام عقد دولي دون إشراف من جانب سلطات الدولة الاتحادية يضع المسؤولية على عاتق ذلك الإقليم والمحافظة دون الدولة الاتحادية.
التعليقات