ما من شكّ في أن اكتشاف الغاز في شرق المتوسط يمثّل فرصةً لازدهار جميع اقتصادات المنطقة، لكن في ظلّ مناخِ الخلاف وانعدام الثقة السائد حالياً، قد تسفر احتياطات الطاقة هذه أيضاً عن مزيد من التوتّر، والصراع على المنطقة وفي قلبها سوريا، ليس صراعاً بالمعنى السياسي الكلاسيكي كما يتم تصويره في الإعلام أو على مستوى النّخب، حقيقة الصراع كما تعرفه خاصة الخاصة لا يقتصر على الجيوبوليتيك، ولا على الاعتبار السياسي المحض الذي يخلو من السر الأهم، منطقة شرق المتوسط تزخر بكميات وفيرة من الغاز. سبق أن تم الكشف عن بعض المعلومات حول المخزون الغازي الموجود في شرق المتوسط، بحراً وبراً، في سوريا ولبنان وفلسطين المحتلة.
بدأ الصراع الحديث على الغاز والبترول في شرقي البحر الأبيض المتوسط، خفياً بين الدول منذ عام 1966، عندما اكتشفت سفن أبحاثٍ بريطانية حقولاً للغاز في جبل )إراتوسثينس( الممتد تحت مياه المتوسط ، ثم جاءت الولايات المتحدة وروسيا بين أعوام 1977 و 2003، لتؤكد أنّ الغاز في شرقي المتوسط يمتدُ من شواطئ اللاذقية إلى غربي مصر، في جبل )إراتوسثينس(، اعتباراً من جرف اللاذقية إلى شمالي دمياط بـ 180 كلم، وتتضمّن منطقة حوض شرق البحر المتوسّط احتياطات استراتيجيّة ضخمة من الغاز، وصلت وفقاً لتقديرات المُسُوح الجيولوجيّة الأميركيّة إلى ما يقارب الـ122 تريليون قدم مكعّب.
كان لإسرائيل حاليا نصيب الأسد من الغاز الطبيعي الذي اكتشف في شرق المتوسط، فاستغلت الانشغال المصري خلال الثورة، وعملت على التنقيب بحُرية في ظل عدم وضوح الحدود البحرية بين مصر وإسرائيل، مكتشفة العديد من الآبار التي تحتوي على أكبر احتياطات غاز في المنطقة، وأبرزهم ليفاثان الذي يحتوي على 18 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، ومن بعده تمار الذي يحوي 9.9 تريليون قدم مكعب، وماري المكتشف قبالة سواحل غزة، ويحوي 1.1 تريليون قدم مكعب.
وتأتي من بعدها مصر باكتشاف أحد أكبر حقول الغاز ليس فقط في المنطقة، ولكن في العالم، بعد أن أعلنت شركة إيني الإيطالية عن اكتشاف حقل زُهر قبالة سواحل البحر المتوسط، باحتياطي غاز بلغ 30 تريليون قدم مكعب، وذلك إلى جانب حقول دلتا النيل على سواحل المتوسط، والتي تبلغ كمية الغاز الطبيعي فيها نحو 50 تريليون قدم مكعب.
أما عن قبرص، فلها حقل أفروديت باحتياطي 7 تريليونات قدم مكعب، إلى جانب قبرص أ الذي يحتوي على 7 تريليونات قدم مكعب، أما لفلسطين فكان حقل مارين القريب من قطاع غزة، ويحتوي على 1.4 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي.
ويتركـز الاحتياطي السّـوري مـن الغــاز والبتــرول في الباديــة الســورية والسـاحل بواقـع 83%، بينمــا يوجــد في الجزيــرة الســورية فقــط 12%، خلافـاً لمـا هــو معــروف ومتــداول ، وحسب الدراسات الحديثة؛ تبـدأ آبــار الجزيــرة السورية بالنضــوب اعتباراً مـن عــام 2022، بينمـا بـاقي الحقــول في الباديــة والساحل، إن بــدأ اسـتغلالها عام 2018، ستبقى حتى عام 2051 على الأقل، وترتيب سوريا لعام 2008 كان في المرتبة 43 عالمياً في احتياطي الغاز، بينما تحتل المرتبة 31 باحتياطي البترول، أما في عام 2017 فان الاحتياطي السوري من الغاز في منطقة تدمر وقارة وساحل طرطوس وبانياس، هو الأكبر بين الدول الست، وقدر مركز فيريل للدراسات احتياطي الغاز السوري بـ( 28,500 ) مليارمتر مكعب وهذا يجعل سوريا، إن تمّ استخراج هذا الغاز ثالث بلد مصدّر للغاز في العالم، وسوف تحتل مركز قطر، بعد روسيا وإيران، إنّ ثلاثة حقول غاز متوسطة الحجم شمال تدمر، تكفي لتزويد سوريا كاملة بالطاقة الكهربائية، 24 ساعة يومياً، لمدة 19 سنة.
بدأ مخزون الغاز في شرق البحر المتوسط يؤثّر في العوامل الجيوسياسية في الشرق الأوسط، فقد جذبت اكتشافات الغاز الضخمة في إسرائيل، والاكتشافات المهمة التي ستبرز قبالة شواطئ قبرص ولبنان، اهتمام الدول الكبرى في العالم كما الدول المؤثرة في المنطقة.
إصرار موسكو على الدفاع عن سوريا، ليس فقط لتأمين منفذ لها على المتوسط، بل الأهم هو الغاز والبترول، وإنشاء قاعدة بحرية دائمة في طرطوس سببه بحر الغاز هناك، ونؤكد هنا؛ أنّ روسيا مستعدة لخوض حرب عالمية من أجل ذلك، فالمعارضة السورية لا تؤتمن حتى لو تعهدت لموسكو، وتعمل وفق أوامر أمريكية، وسوف تُسلّم الامتيازات للشركات الغربية، كما ان سيطرة روسيا على الغاز السوري يعني منع المنافسة الدولية للغاز الروسي وخاصة نحو اوربا.
بما أنّ الجزيرة السورية، ومناطق سيطرة الانفصاليين، سوف تنضب من البترول خلال السنوات القليلة القادمة، فإنّ دعم واشنطن لهم مرهون بهذه الثروة، ولهذا تدعم الولايات المتحدة الانفصاليين للوصول إلى دير الزور وجنوبي الرقة، عسى أن يستطيعوا ضمها إلى فيدرالية “طموحة جداً”، وهذا مستحيل. لهذا فقيام فيدرالية في محافظة الحسكة هو انتحار اقتصادي، خاصة بعد عام 2022، وعندما تكون سوريا من أوائل الدول المصدرة للغاز، بينما يكون غاز الجزيرة السورية شارف على النضوب.
كذلك نرى ان تدخل قطر بقوة في حرب سوريا وهي البعيدة كل البعد عن الصراعات الكبيرة، بل ليس لديها الامكانيات التي تؤهلها لتصبح قوة كبرى، ولكن الغاز كان هو السبب، فاذا تم استثمار الغاز في سوريا بشكل تجاري ستصبح ثالث دولة منتجة في العالم، ليس هذا المهم بل الاهم هو قرب حقول سوريا من الاسواق العالمية اوروبا، لهذا فان الغاز القطري سيصبح بعيدا عن هذه الاسواق بل غير ذي جدوى تجارية، لهذا نرى ان قطر بدأت وبكل قوة لتدمير سوريا وتمزيقها الى دويلات طائفية لمنع حدوث منافسة لها.
نفس الأمر ينطبق إلى حدّ ما على إيران، فوصول المعارضة السورية إلى الحكم يعني القضاء على 30% من اقتصادها، لهذا فإنّ أيّ تصور سابق أو لاحق لتخلي موسكو وطهران ومن ورائهما بكين، عن دمشق، هو خيال سطحي، ومجرد أماني.
تركيا التي خرجت من مولد الغاز بدون أيّ متر مكعب، أصرت على دخول جيشها سوريا، وتريد الاحتفاظ بمناطق نفوذ شمال غربي حلب، حيث توجد ثلاثة حقول غاز صغيرة. وتطمح للوصول إلى الرقة، حيث الحقول المتوسطة الحجم.
داعش وحسب بعض التحليلات تمّ توكيلها اقليميا ودوليا باحتلال تدمر والسيطرة على البادية السورية، حيث حقول النفط والغاز العملاقة، كانت المخطط حسب بعض المصادر أن تدخل قوات أردنية وسعودية لتحريرها، الا ان الجيش السوري وحلفاؤه، وبالتعاون مع روسيا قد حرروا تدمر.
مجاميع الارهابين الذين حاولوا البقاء في منطقة القصير على الحدود مع لبنان، والذين جاؤوا منها، ثم حاولوا إلى الامتداد شرقاً وجنوباً حتى منطقة قارة وبحر من الغاز الطبيعي، استطاع الجيش السوري مع حزب الله اللبناني القضاء عليهم، وفي الجولان وريف درعا، تسيطر المجموعات المسلحة على ثلاثة آبار غاز تسعى إسرائيل للسيطرة عليها كاملة، تقع مناصفة بين أرض تحتلها في الجولان وأرض تابعة لمحافظتي القنيطرة ودرعا.
على هذا الاساس فان سوريا وخاصة منطقة شرق المتوسط الساحلية تطفوا على حقول ضخمة من الغاز، تقدر بمليارات الامتار المربعة من الغاز، لهذا سيكون الصراع عليها حاميا بين الشركاء المتصارعين الدوليين ولإقليمين، وسينتج عنها عدة سيناريوهات اهمها هي:
اولا: تأجيج الوضع في سوريا:
أن تداعيات دول اليورو، بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الاوربي، مع أزمة اقتصادية أميركية بالغة الدقة أوصلت أميركا إلى حجم دين عام مقداره 14.94 تريليون دولار، في وقت وصل فيه النفوذ الأميركي إلى حد ضعيف جداً في مواجهة قوى صاعدة كالصين والهند والبرازيل بات واضحاً أن البحث عن مكمن القوة لم يعد في الترسانات العسكرية النووية وغير النووية، إنما هناك حيث توجد الطاقة، وهنا بدأ الصراع الروسي – الأميركي يتجلى في أبرز عناصره في سوريا، وهنا بدات الازمة السورية لأكثر من 6 سنوات، بدمار لكل مفاصل الحياة مع خسائر بشرية كبيرة جدا، والهدف حسب اغلب التحليلات مصادر الطاقة الجديدة فيها، لهذا فان تاجيج الصراع سوف يستمر في سوريا طالما لم يتفق الفرقاء على تقاسم الحصص بينهم، لان أي هدوء أو انتهاء للحرب على سوريا في الوقت الحاضر، يعني أنّ موازين القوى انقلبت فجأة لصالح دمشق وحلفائها عسكرياً واقتصادياً، خاصة مع تقدم الجيش السوري في عدة محاور وسيطرته على اهم مكامن الغاز في الساحل والبادية، لهذا سيتم تأجيج الوضع واختلاق معارك هنا وهناك، وبما أنّ الوكلاء فشلوا في فرض شروط واشنطن، بما في ذلك تركيا والسعودية واتباعهم، لهذا جاء الدخول الأميركي المباشر من خلال انزال قوات عسكرية في شمال سوريا بحجة مساعدة قوات سوريا الديمقراطية في محاربة داعش في الرقة، والهدف للحصول على حصة من الغاز السوري.
وذكرت بعض الوسائل أن دمشق أرسلت رسائل باستعدادها لتمرير الغاز السعودي والإيراني ومن محيط روسيا للبحر المتوسط، وانها لا تقطع الطريق أمام تعاون مع تركيا، لكن عدم وجود حديث عن انتقال الغاز القطري عن طرق سوريا هو عامل اخر لتاجيج الصراع.
ثانيا: تقاسم النفوذ:
ان استمرار الصراع بين الفرقاء في سوريا يبدوا وحسب المراقبين لانهاية قريبة له، والسبب جولات الكر والفر بين الجيش السوري والمعارضة من جهة، وبين المجموعات المسلحة المختلفة من جهة اخرى، كما ان الصراع في سوريا لم يعد حليا صرفا أي بين الحكومة المعارضة، او صراع نفوذ بين الدول الكبرى امريكا وروسيا، بل شمل عدة دول اصبح لها اهداف ومصالح هي الاخرى، ولها اجندات تختلف عن مصالح واجندات الكبار وان هي جندتها لصالحها، فدول مثل قطر لم يكن هدفها الحصول على غنائم في سوريا او امتيازات في حقول النفط والغاز، وذلك لعدم وجود الإمكانيات العسكرية والصناعية لهذه المهمة، بل ان هدفها تدمير سوريا لمنعها من منافسة قطر في مجال صناعة الغاز، وذلك للكميات الكبرة من الغاز المكتشفة في سوريا وقربها من الاسواق في اوروبا، لهذا فان اهداف هذه الدولة، وحتى السعودية وتركيا وايران تختلف اهدافها عن الاستراتيجيات والاهداف الامريكية والروسية، ان اطالة امد الحرب والخسائر الكبيرة في سوريا، وعدم وجود بارقة امل للحل العسكري من كل الاطراف، قد تدفع الى توافق امريكي روسي حول سوريا من خلال تقاسم النفوذ الاقتصادي (وهو جوهي المشكلة ومستقبل حلها)، وانهاء الصراع فيها، واجراء استثمار مشترك للموارد الاقتصادية بمشاركة الشركات الامريكية، خاصة بعد التصريحات الامريكية الاخيرة من انها لا تسعى لاسقاط الرئيس الاسد، وهناك تصريحات روسية ممثالة من ان هناك تفاهمات بين موسكو وواشنطن حول سوريا، وهذه مؤشر حسب المراقبين على وجود تفاهمات بين الدولتين لحل هذه الازمة بينهما، وابعاد الاطراف الاقليمية الاخرى المعرقلة له، خاصة وان بوادر ابعاد تركيا بدات من خلال تعاون وثيق بين امريكا واكراد سوريا رغم الاعتراضات والغضب التركي عليه، كما ان روسيا هي الاخرى قد تبعد ايران وحزب من سوريا باي لحظة، خاصة وان ايران تحتاج الى روسيا كداعم لها في المحافل الدولية، لهذا فهي لاتمانع على أي تسوية امريكية روسية في المستقبل، حتى السعودية فان امريكا اطلقت يدها (او تورطت) في اليمن وهي منشغلة في تاسيس احلاف عربية اسلامية، لمواجهة التهديدات الاقليمية، لهذا فهي بعيدة الان عن سوريا وازمتها الدولية.
يشكل الغاز فعلياً مادة الطاقة الرئيسة في القرن الواحد والعشرين سواء من حيث البديل الطاقي لتراجع احتياطي النفط عالمياً أم من حيث الطاقة النظيفة، ولهذا فإن السيطرة على مناطق الاحتياطي (الغازي) في العالم تعتبر بالنسبة للقوى القديمة والحديثة أساس الصراع الدولي في تجلياته الإقليمية، ولكن الاعتقاد السائد الان هو ان التعاون سيكون البديل الاوحد عن الصراع حول مكامن الثروات الطبيعية في سوريا ومحيطها، لان الصراع سيقود الى كوارث انسانية وبيئية قد لا تستطيع الدول الكبرى السيطرة عليها مستقبلا، كما حصل في هجوم داعش على الاراضي العراقية عام 2014، وما تلاه من مجازر وانتهاكات جسيمة في المناطق التي سيطر عليها.
اضافةتعليق