شٌح المياه في العراق بين مطرقة التغير المناخي وسندان سياسات دول المنبع

شارك الموضوع :

إن التحدي الذي يواجه العراق في مجال الموارد المائية تحدي معقد وأزمة مركبة (اقتصادية، اجتماعية، سياسية) قد ينجم عنها توترات داخلية وخارجية سواءً على مستوى المجتمعات المحلية او على مستوى العلاقات الدولية مع دول المنبع، وعليه ينبغي العمل على وضع الحلول واتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع تفاقم هذه الازمة التي تمس حياة الانسان وكرامته

يحظى قطاع المياه أهمية بالغة لدى الحكومات ويحتل مكانة بارزة في الاستراتيجيات والخطط، فتحسين امدادات المياه وإدارة الموارد المائية تعزز النمو الاقتصادي، وهو يمثل عنصراً حاسماً في توفير حياة كريمة وتحقيق التقدم والازدهار. 

وتمارس المياه دوراً حيوياً في تغذية الازدهار من خلال تلبية الحاجات الانسانية الأساسية ودعم خدمات الصحة وسبل العيش وتعزيز التنمية الاجتماعية فضلاً عن دعم الامن الغذائي وأمن الطاقة والحفاظ على السلامة البيئية (1).  

وعلى المستوى العالمي، زاد استخدام المياه بمقدار ستة أضعاف خلال 100 عام الماضية وما زال ينمو بشكل منتظم بمعدل يبلغ نحو 1% سنوياً بسبب تزايد عدد السكان والتطورات الاقتصادية والاجتماعية وتغير أنماط الاستهلاك، وتٌشير توقعات منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي الى زيادة الطلب على المياه بنسبة 55% على الصعيد العالمي بين عامي 2000 و2050 نتيجة الطلب المتزايد عليها من قطاعات الصناعة وتوليد الطاقة الحرارية والاستخدام المنزلي، ومن المتوقع أن يواجه العالم عجزاً عالمياً في المياه بنسبة 40% بحلول عام 2030 في إطار سيناريو بقاء الأمور على حالها(2).

ويعاني نصف سكان العالم من ندرة شديدة في المياه لجزء من السنة على الأقل، في حين تعاني مجتمعات كثيرة من مستويات مرتفعة للغاية من الاجهاد المائي إذ يستخدمون أكثر من 80% من الامدادات السنوية العذبة المتجددة، وفي الدول المنخفضة الدخل ترتبط مشكلة رداءة المياه بتدني مستويات معالجة مياه الصرف الصحي، في حين تعاني الدول ذات الدخل الأعلى من مشكلة الجريان السطحي الناجم عن الري في قطاع الزراعة (3).

• شٌح المياه في العراق: المعادلة الصعبة  

في العراق، ارتبطت هوية العراقيين وحياتهم وسبل معيشتهم ارتباطاً وثيقاً بالوصول الى المياه، فعلى ضفاف نهري دجلة والفرات ازدهرت الحضارات وقامت المدن وانتشرت الزراعة حتى سُمي بأرض السواد، وكان جزءً من الهلال الخصيب (سلة الخبز للعالم القديم). وفي ظل التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي شهدها العراق والتي اتسمت بارتفاع معدلات النمو السكاني بمعدلات عالية جداً انعكست على تنامي الطلب على المياه بشكل كبير بالتزامن مع عدم الكفاءة في إدارة الموارد المائية، فضلاً عن التحديات المتلاحقة (خارجية وداخلية) أدت الى اضعاف قدرتهٌ على إدارة ملف المياه بشكل سليم وبما يتلاءم مع التطورات الاجتماعية التي يشهدها البلد.

ويواجه العراق معادلة صعبة تتمثل في السياسات التي تبنتها دول المنبع فضلاً عن ظاهرة التغير المناخي الذي لعب دوراً مباشراً وغير مباشر في انحسار الموارد المائية. 

فقد تأثر البلد كثيراً بسبب السياسات المتبعة من البلدان المتشاطئة على حوضي دجلة والفرات وغياب التنسيق المشترك وتوسع استثمار الموارد المائية على الأنهار التي ترد إلى العراق وإقامة مشاريع الخزانات والسدود في كل من تركيا وسوريا (خلافاً لمبادئ التنسيق والتعاون المشترك في اقتسام موارد المياه للدول المتشاطئة)، مما أدى بالمحصلة النهائية إلى نقص واضح في مجمل متحصلات العراق من الموارد المائية لتنخفض الواردات المائية بشكل كبير (بلغت بحسب بعض الإحصاءات ما يقارب 45%).

إذ أن المشاريع التركية من الجانب التركي في جنوب شرق الاناضول واهمها سدا اتاتورك وأليسو المقامان على نهري دجلة والفرات خفضا حصة العراق المائية بنحو 70%، في حين عمدت إيران الى ملئ خزان الكرخة الذي قطع الامدادات عن الأراضي العراقية بنسبة بلغت 90% كما عمدت الى تغير مسار أكثر من 42 نهر كبير ومجرى مائي واعادتها لداخل الحدود الإيرانية.

وبحسب البيانات فقد خسر العراق بسبب سياسات دول المنبع نحو 60%من الثروة المائية خلال 100 عام، وتدهور مستوى انهاره التاريخية نحو عشرة أضعاف من 1350 م3/ ثانية في العام 1920 الى أقل من 150 م3/ ثانية خلال السنوات الأربعة الأخيرة.

في حين فاقم التغير المناخي مشكلة ندرة المياه بشكل لافت للنظر والذي أصبح يمثل تحدياً خطيراً وتهديداً كبيراً، والذي أضاف عوامل خطورة إضافية على إدارة موارد المياه، إذ إن هناك علاقة مباشرة وسببية وباتجاهين بين التغير المناخي وندرة المياه، فالارتفاع المتزايد في درجات الحرارة والاضطرابات في المناخ والاحداث المناخية المتطرفة ادى الى حدوث ندرة في المياه وانخفاض في الموارد المائية، بالمقابل فإن عدم توفر الموارد المائية أثر وسوف يؤثر بشكل مباشر على فقدان الأراضي الزراعية وزيادة التصحر والتي تؤثر في حدوث تغيرات مناخية.

ويؤثر التغير المناخي على الموارد المائية بطرق متعددة وله أنماط زمانية ومكانية ارتدادية وتفاعلات بين العمليات المادية والبشرية معقدة، ومن شأن هذه الآثار أن تضيف تحديات للإدارة المستدامة للموارد المائية التي تتعرض لضغوط شديدة وتخضع لتقلبات مناخية عالية وظواهر جوية قصوى وهو يؤثر بالفعل على توافر المياه وكميتها لتلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية مما قد يعرض الملايين من الافراد لمخاطر شتى.

مخطط (1) ضغوطات المناخ وسياسات دول المنبع ومخاطره على الموارد المائية

المخطط من عمل الباحث

إن الاحتباس الحراري والتغير المناخي الذي يعيشه العالم قد حوّل العراق الى واحد من أكثر البلدان تضرراً من التقلبات المناخية، إذ إن ارتفاع درجات الحرارة وقلة هطول الامطار وتدهور التربة وحالات الجفاف الحادة قد حولت بيئة العراق شبه الجافة الى صحراء. ومن المتوقع ان يفقد البلد مزيداً من الواردات المائية قد تصل الى 80% بغضون عام 2025 مما سيفاقم من حدة الأثر البيئي، فضلاً عن ذلك التراجع، فإن الموارد الذاتية المتحققة من داخل العراق تراجعت هي الأخرى بسبب ظروف الجفاف وشملت الروافد والمياه الجوفية ومعدلات الخزن في السدود والخزانات وذلك للعلاقة الوثيقة بين سقوط الأمطار وتوفر المياه من هذه المصادر (4).

• واقع الموارد المائية: ازمة غير مسبوقة

يمثل نهرا دجلة والفرات النهران المهيمنان في العراق، وتمثل مستجمعات المياه بما في ذلك روافدهما، 100% من المياه السطحية في البلاد، هذه الأنهار توفر مياه الشرب وتغذي الصناعة فضلاً عن ري مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، ويقدر التدفق الطبيعي لمستجمعات مياه الفرات ما بين 27 إلى 35.1 مليار متر مكعب/ السنة، في حين يصل تدفق مستجمعات مياه دجلة وروافده ما بين 41.2 إلى 58.3 مليار متر مكعب/ السنة، تختلف هذه التقديرات بشكل كبير بحسب المصادر، ويعود هذا إلى نُدرة البيانات والتباين الكبير للتدفق المسجل في محطات القياس. وعلى الرغم من هذا التناقض في كمية المساهمة الطبيعية للنهرين في العراق، فمن المُسلم به عموماً أن كمية التدفق السطحي للمياه قد انخفضت بسبب تدهور التدفق عند المنبع بما نسبته 30%، ومن المتوقع أن يزداد هذا التأثير في السنوات العشرين المقبلة، مما يقلل من المياه المتاحة للعراق بنحو 60 % (5). 

وقد واجه العراق خلال السنوات الماضية العديد من المشكلات التي تتعلق بشح المياه وندرتها بسبب التغير المناخي والاحداث المناخية المتطرفة، والمتمثلة بارتفاع درجات الحرارة الى مستويات عالية جداً (اعلى من المتوسط العالمي) والتبخر والتغيرات في هطول الامطار والتصحر وانخفاض احجام المسطحات المائية، ناهيك عن الإجراءات التي اتخذتها دول المنبع من خلال بناء السدود وتغير مجرى الأنهار والروافد.  

وفي سياق هذه التحديات أصبح العراق خلال السنوات الأربعة الماضية في المرتبة الخامسة في مؤشر الجفاف العالمي، اذ فقد البلد مخزونة المائي ليصل بحسب ما صرح به وزير الموارد المائية الى 11 مليار م3 في عام 2025 مقارنةً مع 53 مليار م3 في عام 2019، كما في الشكل الاتي

شكل (1) المخزون المائي في العراق بين عامي 2019 و2025

من جانب آخر، أشار المتحدث باسم الوزارة الى إن مخزون المياه في العراق بات في أدنى مستوياته منذ 80 عاما، بسبب موسم الأمطار الضعيف للغاية وانخفاض تدفق نهري دجلة والفرات، وقال على هامش مؤتمر بغداد الدولي الخامس للمياه "لا يستلم العراق سوى أقل من 40% من استحقاقه" الامر الذي يؤدي الى التوجه نحو تقليص مساحة الأراضي الزراعية المزروعة هذا الصيف.

ويتراوح معدل اجمالي استهلاك المياه لكافة الاحتياجات ما بين 50-60 مليار م3، وبينما يستمر العجز المائي يواصل الطلب على مياه الاستهلاك المنزلي الارتفاع ليصل الى 5.3 مليار م3 سنوياً في عام 2020، ومن من المتوقع ان يصل إلى 10.94 مليار م3 سنوياً عند 2035 (أي نحو الضعف)، وستتفاقم الفجوة بين العرض والطلب لتصل إلى ما يقارب 11 مليار م3 سنوياً، وسيصل العجز المائي الى نحو 37%. 

شكل (2) الطلب على المياه وعرض المياه وتوقعاتهما خلال المدة 2010-2040

وبحسب بيانات هيئة الإحصاء ونظم المعلومات الجغرافية بلغ مجموع الإيرادات المائية لنهر دجلة وروافده ونهر الفرات نحو 26.07 مليار م3 في عام 2023 (وهو ما يمثل انخفاضاً يصل الى نحو 70%% بالمقارنة مع 2019)، الأمر الذي أدى الى قيام الحكومة بدراسة موضوع تقليص الأراضي الزراعية الصالحة للزراعة، ما يعني تشريد عشرات الآف من العائلات المُستقرة، وتوسعة بيئة الفقر والعنف.

شكل (3) الواردات المائية لنهر دجلة وروافده ونهر الفرات للمدة 2015-2023 مليار م3

الشكل من عمل الباحث بالاستناد الى:

- هيئة الإحصاء ونظم المعلومات الجغرافية، الإحصاءات البيئية في العراق: كمية ونوعية المياه، قسم إحصاءات البيئة، بغداد، اعداد مختلفة.

وتٌشير البيانات الى انخفاض معدل تدفق المياه في نهري دجلة والفرات بنسبة 29٪ و73٪ على التوالي، وقد ساهم الارتفاع في درجات الحرارة والانخفاض الحاد في هطول الأمطار وتذبذبها الى تفاقم مشكلة نقص المياه، وكان توافر المياه في عام 2021 في أدنى مستوى له منذ 40 سنة مضت، في حين يفقد العراق نحو 61% من اجمالي هطول الامطار بسبب التبخر الناتج عن ارتفاع درجات الحرارة، وقد بلغ اجمالي الفاقد من المياه من البحيرات الاصطناعية التي تم انشاؤها للسيطرة على الفيضانات أكثر من 8 مليار م3، وبشكل عام يستهلك التبخر نحو 15.7 مليار م3 سنوياً (ما يعادل 14.5% من حجم الاستهلاك الكلي)، وسوف تؤدي هذه المعدلات العالية من التبخر الى خسارة سنوية تبلغ ما بين 1.5-2.5م من مستوى البحيرات والأراضي المغمورة بالمياه(6). 

شكل (4) النقص بالإيرادات المائية خلال العشر سنوات الأخيرة بالمقارنة مع المعدل الطبيعي

المصدر: اللجنة الدائمة لمتابعة التغيرات المناخية، التغيرات المناخية في العراق (تحدي الواقع وصمود المستقبل)، وزارة التخطيط، بغداد، 2023، ص21.

من خلال الشكل يتضح إن العراق فقد بالمتوسط نحو 41.8% من واردته المائية خلال 10 سنوات فقط وذلك بسبب التغيرات المناخية وما فرضته من تداعيات كبيرة على المياه وندرتها.

وبحسب دراسة معهد الطاقة العراقي من المتوقع أن يتراجع نهري الفرات ودجلة بنسبة 50% و25% على التوالي بحلول عام 2025، كما من المتوقع ان يصل حجم التراجع في الواردات المائية من الدول المتشاطئة الى نحو 35% في 2035، اذ سينخفض نهر الفرات بما يقارب 50% في عام 2035 ليصل الى 9.9 مليار م3 في عام 2035 بالمقارنة مع 18.3 مليار م3 في عام 2015، في حين سيفقد نهر دجلة نحو40% من واردته بحلول عام 2035 ليصل الى 9.822 مليار م3 في عام 2035 بالمقارنة مع 15.919 مليار م3 في عام 2016. 

عموماً، إن التحدي الذي يواجه العراق في مجال الموارد المائية تحدي معقد وأزمة مركبة (اقتصادية، اجتماعية، سياسية) قد ينجم عنها توترات داخلية وخارجية سواءً على مستوى المجتمعات المحلية او على مستوى العلاقات الدولية مع دول المنبع، وعليه ينبغي العمل على وضع الحلول واتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع تفاقم هذه الازمة التي تمس حياة الانسان وكرامته.


المصادر:

1- اليونسكو، الماء من اجل الرخاء والسلام، تقرير الأمم المتحدة العالمي عن تنمية الموارد المائية: الملخص التنفيذي، 2024، ص 3.

2- الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (اليونسكو) وآخرون، تقرير الأمم المتحدة العالمي عن تنمية الموارد المائية لعام: المياه وتغير المناخ، باريس، 2020، ص22.

3- اليونسكو، المصدر السابق، ص2.

4- تقرير الموارد المائية لسنة 2020، وزارة التخطيط، الجهاز المركزي للحصاء، بغداد، 2021، ص1.

5- موارد المياه في العراق، متوفر على الرابط، https://water.fanack.com/ar/iraq/water-resources-in-iraq/#_ftn1 

6- حملة انقاذ دجلة الدولية، لم يعد له أثر: فقدان المياه بسبب التبخر من خزانات السدود في العراق، ترجمة: جمعية حماة نهر دجلة، مؤسسة انقاذ دجلة الدولية، 2022، ص6. 

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية