شهدت العملية السياسية العراقية بعد عام 2003 منعطفات وتحولات تاريخية خطيرة على مختلف الأصعدة، لاسيما السياسي منها والمجتمعي، ولربما لو لم تكن هناك "قيادة من الخلف" محلياً، لاسيما من قبل المرجعية الدينية ودعم دولي للتجربة الديمقراطية الجديدة لأختلف الحال كثيراً. ولعل أخطر تهديد للعملية السياسية العراقية تمثل في اجتياح تنظيم "داعش" لمحافظة الموصل وبعض المحافظات الغربية في يونيو/ حزيران 2014. وبالرغم من خطورة كل مراحل التهديد المختلفة على العملية السياسية وانعكاساتها السلبية على المجتمع العراقي، إلا أن كل الطبقة السياسية بـ (قواها وتياراتها وأحزابها) بقيت متشبثة برؤيتها السياسية الضيقة وبأجندتها المحلية والإقليمية. وبالتزامن مع اقتراب القوات الامنية العراقية من أنهاء ملف تنظيم "داعش" وتحرير محافظة نينوى، طرح "مشروع التسوية الوطنية أو التاريخية لبناء الدولة العراقية"، كمشروع سياسي وطني لقيادة الدولة العراقية بعد طرد تنظيم "داعش".
مشروع التسوية الوطنية يّذكرنا بمشارع سياسية عدة، وأخرها مشروع الإصلاح السياسي "حكومة التكنوقراط" الذي طالبت فيه بعض القوى السياسية والتيارات المدنية وشرائح المجتمع بشكل عام وتبناه رئيس الوزراء ‘‘حيدر العبادي‘‘. إذ بقي هذا المشروع على طاولة المفاوضات السياسية لأكثر من عام، حتى سُوف تدريجياً؛ ليتم الالتفاف عليه فيما بعد من بعض القوى السياسية وتم أفشاله ‘‘كمشروع للإصلاح الفعلي‘‘ بمبادرات كتلوية وشخصية وحزبية؛ لكونه يسحب إرادة القوى السياسية وتسلطها في أتخاذ القرارات. وبالرغم من أن التسوية الوطنية ستكون تاريخية -على حد وصف البعض- إذا تم توقيعها؛ لكونها تختلف عن كل المبادرات السابقة، وأنها مختلفة عن سابقاتها بأربع ركائز هي: (احتواؤها على مبادئ وأسس، وعنصر الضمانات، وخطة تنفيذية من خمس مراحل لتنفيذ التسوية، فضلا عن وجود شراكة تامة مع بعثة الأمم المتحدة في العراق "يونامي" من أجل إدخالها في البعد الأممي)، إلا أنها تبقى مبادرة ركيكة سياسياً وضعيفة القبول في الاوساط الاجتماعية بشكل عام؛ وذلك بسبب حالة عدم الثقة بالقوى السياسية الحالية، لاسيما وأن مشروع المبادرة جاء من رئيس التحالف الوطني السيد ‘‘عمار الحكيم‘‘ الذي يتهمه البعض بتقويض مشروع الإصلاح السياسي "التكنوقراط" -من خلال وثيقة الشرف التي قدمها قبل انتهاء فترة العشرة أيام الذي أمهلها البرلمان للتصويت على حكومة التكنوقراط- والتي إعادة الثقة -في حينها- برؤساء الكتل السياسية في القرارات والاتفاقات السياسية الحاسمة. وكذلك بسبب حالة عدم الثقة بين أطراف التحالف الوطني وحجم الخلاف بين أطراف العملية السياسية بشكل عام. ولهذا يتهم البعض هذه المبادرة بأنها محاولة سياسية من قبل بعض القوى السياسية الحالية للإبقاء على مكتسباتها السياسية وزيادة قبضتها الحزبية على مؤسسات الدولة وتقاسم الثروة.
وعلى الرغم من ضرورة التسوية التاريخية في هذه المرحلة للسير بالعملية السياسية إلى الأمام ودفع مخاطرها المستقبلية، إلا أن واقع العملية السياسية بحاجة إلى مبادرات سياسية وحزبية قبل الشروع بالتسوية نفسها. فالعملية السياسية اليوم بحاجة إلى مكاشفة حقيقية بين الشركاء السياسيين وتصفير للأزمات السياسية، وبحاجة إلى إرادة سياسية جامعة للتخفيف من حدة التحديات والمعوقات السياسية التي اعترضت مشروع الإصلاح السياسي وحزمة الإصلاحات التي تقدم بها رئيس الوزراء، والتي ما زالت تعترض مبادرات التسوية والإصلاح، فضلاً عن أن مبادرة التسوية بحاجة إلى واقعية سياسية تخرج من خلالها عن الإطار الحزبي والمذهبي والمزايدات السياسية في طرح مشروعها السياسي، وضرورة تكثيف الجهود الداخلية على رؤية جامعة قبل الخروج إلى المحيط الإقليمي والدولي؛ لأن حجم النقاش والخلاف الدائر بين القوى السياسية الداخلية بخصوص وثيقة التسوية يعكس مدى الاختلاف وعدم التوافق بين أطراف التحالف الوطني قبل خروجها إلى اطراف العملية السياسية بشكل عام. فالخلاف الدائر بين دولة القانون والمجلس الإسلامي الأعلى بخصوص بنود التسوية يعكس مدى الاختلاف السياسي بينهما، فضلاً عن ما كشفته احداث البصرة ‘‘الرافضة للمالكي‘‘ من حجم الخلاف بين الاطراف المعنية بالتسوية، وأن بيان ‘‘حزب الدعوة‘‘ الذي توعد به المتظاهرين بـ "صولة فرسان ثانية" يعيد إلى الأذهان العقلية السياسية التي انتجت تنظيم "داعش" في المناطق الغربية، وصاعدت من حجم الاحتجاجات في المناطق الجنوبية؛ نتيجة لسوء الإدارة والحكم في كل مفاصل الدولة.
إذاً، وعلى الرغم من صعوبة التكهن بمستقبل العملية السياسية العراقية في ظل الظروف الحالية، إلا أن تصاعد حالة عدم الثقة بين القوى السياسية واستمرار الانقسامات السياسية وكّبر حجم الفجوة بين السلطة والمجتمع وفقدان الثقة المجتمعية بشكل مطلق بالأحزاب والقوى السياسية الحالية، فضلاً عن الانقسامات المجتمعية التي خلفتها سلوكيات الاحزاب الحاكمة على قواعدها وانتشار الفساد المالي والسياسي في كل مؤسسات الدولة، واستمرار مخاطر الإرهاب المحلي والإقليمي الذي يهدد العملية السياسية بشكل مستمر، تبقى الإرادة السياسية الداخلية هي الفيصل في حل الخلافات بعيداً عن الدور الإقليمي والدولي؛ لأن كلا الدورين مهما بلغت جديتهما فأنهما سيبحثان عن مصالحهم "البراغماتية" من خلال مبادرات التسوية أو المصالحة، وتبقى المصالحة المجتمعية وإعادة ثقة الشعب بالسلطة السياسية، هي الفيصل والأساس في كل مبادرات الإصلاح السياسي أو التسويات الوطنية؛ لأن أغلب طبقات المجتمع اليوم تنأى بنفسها عن مبادرة التسوية وكأن الأمر لم يعنيها؛ لكونها فاقدة الثقة بالسلطة والقوى السياسية. ولهذا فأن تحقيق المصالحة السياسية يتعثر ما لم يكن هناك عقد اجتماعي شامل يربط المواطنين بحكومتهم ويعيد الثقة بالسلطة على اساس مبدأ المواطنة والهوية الوطنية، الأمر الذي من شأنه أن يّؤمن مستقبل العملية السياسية العراقية ويدفع بمخاطرها السياسية والاجتماعية.