يمثل وجود التنظيمات العسكرية العاملة خارج إطار المؤسسة العسكرية والأمنية العراقية المتمثلة بتشكيلات وزارتي الدفاع والداخلية واحدة من القضايا المهمة التي تحتاج الى عناية واهتمام صناع القرار والجهات المسؤولة في هذا البلد، فهذه التنظيمات اما تنضوي تحت مظلة التشكيلات الرسمية بصورة قانونية منظمة واما تكون قوات موازية تعمل خارج إطار الدولة وتفرض واقع دولة في داخل الدولة مما يفتح الباب على خيارات عدة غير معروفة النتائج في المستقبل. وقد شغل وجود هذه التنظيمات وعلى رأسها الحشد الشعبي اهتمام الكثير من المحللين داخل العراق وخارجه، وفتح قريحتهم لتأويلات كثيرة، ومنهم (رنج علاء الدين) المحلل في معهد بروكنغز، فقام بنشر مقال مهم له يوم 28/10/2016 حمل عنوان (كيفية حل مشكلة الفصائل الشيعية العراقية) جاء فيه:
"من المؤكد ان تضع عملية الموصل نهاية لسيطرة تنظيم" داعش" الاقليمية على العراق وستكون المسمار الأخير في نعش مايسمى" بالخلافة" ولكن ما القادم؟ اذ يفتقر العراق الى الموارد والقدرة التي تمكنه من اعادة بناء المدن التي دُمرت منذ بدء حملة مكافحة" داعش"، وليس هناك اي ضمانات على ملء المجتمع الدولي لهذه الفجوة. كما يعاني العراق من عواقب ومخلفات الفساد والطائفية واختلال الحكم، ولكن هذه الأمور ليست جديدة، فضلا على مسألة تعامل الحكومة العراقية والشعب مع صعود الفصائل الشيعية.
فهم المشكلة
برزت الفصائل الشيعية المنضوية تحت مسمى" الحشد الشعبي" بفعل النجاحات الميدانية التي حققتها ضد " داعش" بعد انهيار الجيش العراقي عام ٢٠١٤، اذ أنظم حوالي ١٠٠ الف من المقاتلين الشيعة وبعض العرب السنة لملء الفراغ الذي خلفه الجيش، بعد الفتوى الدينية التي اصدرها اية الله العظمى السيد علي السيستاني والتي تدعو جميع العراقيين القادرين على العمل للدفاع عن البلاد.
في كثير من الأحيان تقوم الجهات الفاعلة غير الحكومية بالطعن واضعاف سيادة الدولة، اذ اعلن" داعش" نهاية نظام الدولة القومية التي اُنشأت في الشرق الأوسط منذ قرن من الزمان، لكن التعامل مع الجهاديين سيكون اكثر وضوحاً من التعامل مع الفصائل العراقية الشيعية، اذ انظم الأقوياء منهم الى معارضة نظام البعث السابق في عام١٩٨٠-١٩٩٠ وبعضهم الأخر بعد الفوضى والفراغ الذي اعقب الحرب عام ٢٠٠٣، كما ان لهذه الفصائل تداخل ثقافي وديني وسياسي مع السكان الشيعة المحليين و الدولة العراقية، وتقلد بعض زعماءها مناصب وزارية وخدم مقاتليها – واستمروا بالخدمة- في الجيش والشرطة. كما تعمل هذه الجهات الفاعلة والمدججة بالسلاح والغنية بالموارد بشكل مستقل وتحدت الدولة في مناسبات عدة.
تعد قصص التضحيات التي تنشرها والرمزية الدينية الشيعية امر اساسي لهويتها، وهذا يعني ان من الصعب ان تصبح عناصر فاعلة يمكنها بناء تحالفات سياسية طويلة الأمد مع الجهات التي لاتتفق معها في العقيدة وسياسة العلامة التجارية خشية ان يؤدي هذا الى تقويض السرد الذي يؤسس وجودها. وقد جعلت الخصائص السياسية والاجتماعية والدينية التي تتمتع بها جنبا الى جنب مع سعيها الى ترسيخ نفسها داخل الدولة العراقية التحدي المتمثل في التعامل معها أكبر، ومن الصعب ان لم يكن مستحيلا هزيمتها عسكرياً، كما سببت في زيادة التكاليف على الدولة العراقية الضعيفة بالفعل.
ما يمكن القيام به
لايمكن للعراق البقاء على قيد الحياة اذا سمح للفصائل-التي قام البعض منها باعمال طائفية-بالحكم، كما ستسهم مشاركتها في السلطة بازدهار العنف والتطرف، ومن المؤكد ان تؤدي الى اعادة احياء "داعش" في المستقبل. هناك الكثير من الخيارات المتاحة امام صناع السياسة في العراق والولايات المتحدة لأثبات عدم تحول المكاسب والانتصارات الأخيرة التي تم تحقيقها على " داعش" الى تكاليف على المدى الطويل، سواء في العراق ام في غيره من البلدان في جميع انحاء العالم لاسيما في امريكا اللاتينية وافريقيا، وقد يحاول صناع القرار في بعض الأحيان دمج مثيري العنف مثل الفصائل وامراء الحرب في الحكومة، لكن هذا امر غير محتمل. يجب اعادة تعريف العملية بحيث لا تتم مطالبة الفصائل بالقاء السلاح بل المشاركة في الحوار الاجتماعي الذي يهدف الى تأمين حصتها وتحديد دورها في العراق، كما تعمل هذه الفصائل الشيعية في العراق على الثغرات الاجتماعية والقانونية في الوقت الذي لاتزال فيه علاقتها مع الدولة ضعيفة وسيئة، وهذا يولد عدم اليقين وبالتالي عدم الرغبة بالدخول في اي حوار واتفاق. ولمعالجة هذا الأمر يجب تحديد سلطة الفصائل، اي تحديد الوقت الذي بدأت فيه والوقت الذي ستنتهي فيه، وسيسهم تحديد هذه المعايير في تولد ثقافة المسائلة، وللمدنيين قوة خاصة في مناطق النزاع تمكنهم من حث الجماعات المسلحة على احترام حقوق الانسان واعتماد المعايير الأساسية مثل حسن السلوك والمسؤولية، كما تعتمد هذه الفصائل اعتماداً كبيراً على الدعم الشعبي ومن المحتمل ان تتفاعل مع المجتمعات المحلية من النخب السياسية العراقية واطراف خارجية مثل المسؤولين الحكوميين والمنظمات غير الحكومية، وجماعات حقوق الإنسان، ويمكن ان تقدم الولايات المتحدة المساعدة في هذا الجانب من خلال توفير الدعم المالي والتدريب والتعليم للجهات الفاعلة في المجتمع المدني كجزء من الجهود الرامية إلى زيادة جهود تحقيق الاستقرار. ومن غير المرجح ان تقبل الفصائل الأقوى في العراق بالمقترحات التي تحدد صلاحيات مموليها بالأسلحة والاموال في إيران (وتحاول استغلال الانقسامات للمحافظة على سيطرتها على البلاد) ومع ذلك يبدو ان هذه المجموعات أضعف مما تبدو عليه، وهي في حالة عداء للسكان المتذمرين من حكمها. فضلا على هذه الجماعات المتحالفة مع إيران، هناك فصائل قوية موالية للحكومة في بغداد من القوى القومية التي تعارض بشدة الفصائل المدعومة من إيران والنفوذ الايراني بشكل عام، وفصائل موالية لآية الله السيد علي السيستاني الذي يحظى باحترام مختلف ألوان الطيف العرقي والديني، ويعارض التدخل الايراني في الشؤون العراقية، وانتقد علناً الفصائل الشيعية المدعومة من إيران بسبب الفظائع التي ارتكبتها. وفي بعض الأحيان اختارت الفصائل المصالحة التنافس غير العنيف مثلا عن طريق المشاركة في الانتخابات لكن هذا سيكون مجدياً عندما تصبح الدولة العراقية أكثر قوة، لذا يجب اجبار الفصائل الشيعية على الاختيار مابين عملية مأسسة يعترف بوجودها وبين المواجهة المسلحة والتي لايمكنهم الانتصار فيها على المدى البعيد. وفي حال لجأوا الى الخيار الثاني" المواجهة المسلحة" يجب على الولايات المتحدة استغلال الانقسامات في المؤسسة السياسية الشيعية، لتعمل بشكل كثيف مع الفصائل المتحالفة مع الدولة وتقدم الدعم المالي والسياسي لها. كما ان هناك فرصة لزيادة دعم رئيس الوزراء حيدر العبادي، الذي يشكل أخطر تهديد لحكم الفصائل والذي يقف بينها وبين الميزانية الوطنية وبينها وبين المؤيدين لإيران اعضاء الطبقة السياسية الشيعية في العراق مثل رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي حاول الأطاحة به على مدى العامين الماضيين.
لاتزال للدولة العراقية بصمتها الخاصة في المعايير الدولية للسيادة، وتبقى هي الممثل الوحيد القادر على بناء وتشكيل النظام الدستوري والقانوني في البلاد. في الماضي، سعت الفصائل المتشددة الى الاندماج والمشاركة في العملية السياسية واعتمدت بذلك على الشرعية والمصداقية التي اكتسبتها، وينبغي الترحيب بها مرة اخرى شريطة ان تحدد الدولة العراقية ومؤسساتها قواعد اللعبة وليس العكس".
نظرة تحليلية
بصرف النظر عن النوايا التي يتكلم بها بعض المحللين عن الفصائل المسلحة العراقية التي قاتلت الارهاب-ومنها الحشد الشعبي-الا ان الشيء الذي من الضروري ادراكه بعد زوال خطر داعش وتهديده للأمن والاستقرار في العراق هو ان تتحول مهمة جميع المشاركين في هزيمة الارهاب خارج إطار الدولة من القتال الى صنع السلام تحت مظلة الدولة والقانون العراقي، اذ لا يمكن لهذه الفصائل ان تحمل السلاح الى الابد، بل من المفيد لها ان تنخرط في الحياة السياسية؛ لتنشغل بتثبيت حالة السلم والأمن الاهلي. ان بناء دولة القانون والمؤسسات يتقاطع تماما مع أي وجود عسكري خارج إطار الدولة، ولا يمكن لدولة عراقية كاملة السيادة ان توجد مع وجود مجاميع عسكرية مجهولة التمويل والانتماء تعمل خارج إطار سيطرتها.
ان مرحلة ما بعد داعش-فعلا-تمثل اختبار لمدى قدرة الساسة والقوى في العراق على الاستجابة للمرحلة الجديدة التي سيدخلها بلدهم، وهي مرحلة لا تثير خوف المراقبين الخارجيين فقط، بل يتوجس منها خيفة ابناء البلد أنفسهم، ولا بد من التذكر دائما انه من السهل إنتاج نسخة جديدة من داعش بصورة أو أخرى، اما اجهاض هذا الخيار فهو المعيار على قدرة العراقيين في الاستفادة من تجاربهم المرة والتطلع الى ما هو أفضل في المستقبل.
https://www.brookings.edu/blog/markaz/2016/10/28/how-to-resolve-iraqs-shiite-militia-problem
اضافةتعليق