رغم الهدوء الذي رسم الحدود بين العراق وتركيا، إلا إن سمة التوتر كانت هي السائدة على المستوى السياسي بين الطرفين، خاصة في عهد العراق الجمهوري، وذلك لوجود مشاكل ترتبط أساساً بالعلاقات التركية المميزة مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، إضافة إلى الخلافات على الحصص المائية، فالمعروف أن دجلة والفرات ينبعان من تركيا، والموقف التركي من هذين النهرين يتناقض مع الموقف القانوني الدولي، كذلك موقف تركيا المتناقض تجاه الأكراد العراقيين، ودعمهم ضد بغداد، وأخيرا دخول الأراضي العراقية بدون موافقة بغداد، وإصرارها على المشاركة في معركة تحرير الموصل ، كل هذه جعلت من العلاقات الطرفين على مفترق طرق وهي بحاجة إلى إعادة نظر من جانب تركيا.
الأزمة الراهنة الدائرة بين حكومتي أنقرة وبغداد ليست وليدة اليوم، بل تعد موجة ثانية للأزمة التي اندلعت في مطلع كانون الأول عام 2015. إذ أرسلت تركيا كتيبة عسكرية تجاوز تعدادها 500 عسكري، مدعومة بنحو 25 دبابة إلى شمالي العراق، تحت مسمى تدريب القوات العراقية، وعليه طالبت بغداد الجانب التركي "الانسحاب الفوري من الأراضي العراقية والحفاظ على حسن الجوار"، مهددة باللجوء إلى مجلس الأمن، وانتهت الأزمة آنذاك بالتدخل المباشر للرئيس الأمريكي الذي أقنع نظيره التركي بالانسحاب نهاية الشهر نفسه، وتجددت الأزمة بعد تصويت البرلمان التركي بالموافقة على تمديد مهمات القوات العسكرية التركية في سوريا والعراق لمدة عام، تبعه تبادل استدعاء سفيري البلدين، وتصريحات شديدة اللهجة من الجانبين، انتهت بتقديم شكوى رسمية ضد أنقرة إلى مجلس الأمن لم يتم بتّها حتى اللحظة، لقد تجدد الجدل بين حكومتي تركيا والعراق نهاية أيلول الماضي، بشأن انتشار قوات عسكرية تركية في معسكر "بعشيقه"، استعداداً للمشاركة في تحرير مدينة الموصل من تنظيم داعش الإرهابي. فالخلاف بينهما يدور على وجود نحو 2000 جندي تركي في قاعدة في شمال العراق (في بعشيقة ، إذ إن تواجد تركيا في الموصل جاء بدون التنسيق مع العراق، لهذا عد هذا الأمر من قبل الحكومة العراقية تدخلا وانتهاكا سافرا لسيادة العراق، وقد تصاعد الأمر بشكل سريع بعد إصرار تركيا على بقاء قواتها في الموصل، وهناك الكثير من الأسباب والدوافع المعلنة التي تضمنتها تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس حكومته بن علي يلدريم، وعدد من الخبراء والمختصين الأتراك، من دخولهم لمدينة الموصل العراقية، وهي كلها غير منطقية وتدخل في شؤون العراق الداخلية، ومنها: الحفاظ على التركيبة السكانية لمدينة الموصل من القوات العراقية، والمتمثلة في قوات الحشد الشعبي المدعوم من إيران ، إذ أكد أردوغان مطلع الشهر الجاري في لقاء تلفزيوني بقناة "روتانا خليجية"، أن القوات التركية ستقوم بدورها للحفاظ على التركيبة السكانية للمدينة، وعودة أهلها من السنة العرب والسنة التركمان والسنة الكرد بعد تحريرها من داعش، الأطماع التركية في المدينة، التي كانت تابعة لتركيا طوال 4 قرون حتى الحرب العالمية الأولى، إذ فقدتها تركيا عقب توقيع معاهدة لوزان عام 1923، واتفاقية أنقرة عام 1926، ادعاء تركيا حماية أمنها القومي والذي يبدأ من بعشيقه"، إذ أن تأمين الداخل التركي يعتمد على تأمين امتداده الإقليمي سواء في سوريا أو العراق، اللتين تشهدان حرباً بالوكالة ، حسب رأي الأتراك، إذ تحارب التنظيمات الإرهابية نيابة عن بعض الدول، مثل داعش والعمال الكردستاني وقوات الاتحاد الديمقراطي السوري، الذين يحاربون في سوريا والعراق، تحت رعاية إيران وروسيا والولايات المتحدة، وفقاً لاتفاقية أنقرة 1926 ومعاهدة لوزان 1923، يحق لتركيا تأمين حدودها بالتدخل العسكري في العراق أو سوريا، خصوصاً أن الاتفاقية تمنح تركيا الحق في المشاركة في أي قرارات تخص استقرار أو انفصال أو الحكم الذاتي لمدينتي الموصل وكركوك بالعراق، وهو ما رفضه العراق جملة وتفصيلا، واستدعى السفير التركي للاحتجاج على هذه التصريحات، وأخيرا وبعد انطلاق معركة تحرير الموصل فان القوات العراقية قد طوقت القوات التركية، في معسكراتها، ومنعتها من المشاركة في المعركة، لهذا تتجه الأنظار الآن إلى مستقبل هذا التوتر بين البلدين وهل سوف يؤدي إلى صراع بين الطرفين؟ أم يحل بالطرق الودية والسلمية، وان تركيا سوف تنسحب من العراق بعد إن ترى إن النتائج ستكون ضده؟
إن الاعتقاد السائد من اغلب المحللين السياسيين إن الخلافات بين تركيا والعراق في طريقها للحل، وان الطرفين سوف يلجئون إلى الطرق السلمية لحل هذا الخلاف، ولأسباب عديدة منها:
1- جدية الحكومة العراقية في تهديداتها لتركيا، وتصميمها على تحرير الموصل، إذ إن تر كيا لم تكن تتوقع من بلد مثل العراق وهو يستجمع قواه من اجل مواجهة الإرهاب وتحرير مدنه إن يدخل في مواجهة معهم، كذلك توحد كل الأطراف العراقية خلف رئيس الوزراء في رفضهم لأي تواجد تركي في العراق، حتى الصمت الذي التزم به بعض سياسيو السنة لم يكن تأييدا لتركيا على الإطلاق، فهم في وضع لا يحسدون عليه، وهو أيضا رسالة مهمة لتركيا، بأن من تعتمد عليهم حاليا من السنة في العراق ومن وضعت كل بيضها في سلتهم لن يستطيعوا أن يقفوا الموقف المرجو منهم بالتصريح فضلا عن القتال، حتى الأكراد بداؤ بالتراجع عن مواقفهم السابقة، فقد قال رئيس إقليم كردستان مسعود برزاني" ...أن الإقليم لا يسمح بانتهاك سيادة العراق على أراضيه من قبل أي دولة"، كذلك إن دعوة الحكومة العراقية المجتمع الدولي من خلال الأمم المتحدة إلى المشاركة في تحرير الموصل من تنظيم داعش الإرهابي هي سياسة حكيمة وصائبة، وفوت الفرصة على تركيا لتحقيق إطماعها في العراق، إذ عد تنظيم داعش خطر يهدد العالم كله وليس العراق وحده، وهو ليس دولة بل تنظيم إرهابي متطرف، لهذا فان موقف تركيا ألان أصبح حرجا جدا، مما حدا بالرئيس التركي إلى إن يفقد توازنه ويتهجم بأسلوب غير لائق على العراق وحكومته، لهذا فان وإعادة الحسابات التركية أصبحت مهمة.
2- قوة الجيش العراقي، إذ لم يكن انهيار القوات الأمنية العراقية بتاريخ 9 حزيران 2014 وما تلاها من سيطرة داعش في المناطق الغربية مؤشراً على ضعف هذه القوات من ناحية العدة والعدد وفقدانها للشجاعة والقيادة الحكيمة، فالقوات العراقية لم تدخل في قتال مع داعش حتى تهزم بل إنها انسحبت وتركت ساحة القتال نتيجة الإحباط الذي أصابها من سياسات الحكام، وكان هذا الانهيار دليلا واضحا على فشل الساسة الذين هيمنوا على زمام الأمور في البلاد، لهذا فان قيام القوات العراقية وقبل الهجوم على تنظيم داعش الإرهابي في الموصل بتطويق القوات التركية، ومن قبل قوات الحشد الشعبي التي هددت تركيا بكل قوة جعل تركيا تدرك جيدا أنها لا يمكنها إن تدخل في مواجهة مع العراق، وخاصة مع قوات الحشد الشعبي، سوف يقود إلى مواجهة إقليمية قد تخسر تركيا بسببها الكثير ، لهذا سوف تجبر تركيا لحفظ ماء الوجه الانسحاب من الموصل لان أي مواجهة بين الطرفين ليس بصالح تركيا التي متواجدة حاليا في مستنقعات سوريا وحربها مع الأكراد، كما إن عدد القوات التركية في الموصل ليس بالمستوى الكبير الذي يعول عليه في حرب خارجية، كما إن الظروف الإقليمية والدولية تقف كلها ضد تركيا حاليا.
3- على الصعيد الاقتصادي، يرتبط البلدان بعلاقات تجارية واسعة النطاق تأخذ شكل استيراد العراق للبضائع التركية بكميات كبيرة، بما جعل نقطة العبور بين البلدين من أهم المناطق التجارية التي تشهد حركة دخول الشاحنات التركية إلى العراق بشكل يومي وكبير، وبالمقابل فأن العراق يصدر نفطه المستخرج من كركوك عبر أنبوب النفط الذي يمر بالأراضي التركية وصولاً إلى ميناء جيهان حيث يصدر إلى أنحاء العالم، ومع زيادة قدرة العراق على التصدير وضرورة فتح منافذ جديدة ،فقد تقرر فتح خط أنبوب نفطي آخر وأنبوب نقل الغاز عبر تركيا ليكون عاملاً من عوامل توثيق الروابط الاقتصادية بين البلدين الجارين وبما يعود بالمنفعة المشتركة عليهما، فقد بلغت الصادرات التركية للعراق عشرة مليار دولار عام 2015 ، لهذا لا اعتقد إن دولة مثل تركيا يعتمد اقتصادها على التجارة الخارجية إن تضحي بهذا المبلغ الضخم، علما إن كثير من دول المنطقة تنتظر الفرصة للحلول محلها في هذه السوق الضخمة، كذلك ظهرت تهديدات عديدة من قادة عراقيين ضد مصالح تركيا وشركاتها في العراق، لهذا فان أي تدهور للعلاقات أو توتر مع العراق سيقود إلى تدهور العلاقات الاقتصادية أيضا.
4- إن وجود القوات التركية هو عامل ضغط على العراق من عدة نواحي منها: من اجل الحصول على عقود لأعمار المناطق المتضررة من داعش، إذ تقدر قيمة الاعمار بالمليارات، كذلك الضغط على العراق لإخراج قوات الحزب العمال الكردستاني من العراق، خاصة وان هناك قوات منه متواجدة في سنجار.
5- رغبة تركيا في حل الأزمة سلميا، فقد وصل وفد من وزارة الخارجية التركية، يوم الاثنين 17 تشرين الأول 2016، إلى العاصمة العراقية بغداد، لمناقشة التطورات الأخيرة في العراق مع المسؤولين العراقيين، وان مستشار وزارة الخارجية التركية أوميت يالتشين يترأس الوفد، الذي سيجري لقاءات مع المسؤولين العراقيين، وقد تناولت المناقشات وضع القوات التركية الموجودة في معسكر بعشيقة، والعملية العسكرية التي بدأت فجر الاثنين ضد تنظيم داعش الإرهابي في الموصل، والمسائل الإقليمية التي تهم البلدين، وعلى الرغم من التصريحات التي أكدت على عدم توصل الطرفين إلى حل للازمة، إلا إن هذه الزيارة هي دليل على تراجع تركيا في لهجتها المتشددة، وإصرارها على التواجد العسكري في العراق، علما إن هناك وفدا عراقيا سوف يتوجه إلى انقره حول الموضوع نفسه.
6- تأكيدات العراق أنه لم يعط أي موافقة رسمية أو شفهية لدخول القوات التركية العراق لا إلى بعشيقة ولا إلى غيرها، وإن القوات التركية التي دخلت خلسة ولم تخضع للإجراءات التي تخضع لها قوات التحالف الدولي، ووصف العراق القوات التركية في معسكر بعشيقة بـ"الغازية والمحتلة، هذا يضع تركيا في موقف محرج دوليا خاصة إذا قدم العراق شكوى دولية في مجلس الأمن، كما إن وجود القوات التركية "هو أحد التحديات قبل عملية الموصل، لهذا فان تركيا تدرك ذلك جيدا وتدخله في حساباتها الاستراتيجية.
7- دخول الولايات المتحدة على خط الأزمة العراقية التركية وتأييدها للجانب العراقي، لاسيما بعد التصعيد الكلامي بين أنقرة وبغداد، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية الثلاثاء أن القوى العسكرية الأجنبية في العراق يجب أن تكون هناك بموافقة حكومة بغداد وتحت مظلة التحالف المناهض لتنظيم داعش، وقالت وزارة الخارجية الأميركية في بيان "يجب على كل الأطراف التنسيق عن كثب خلال الأيام والأسابيع القادمة لضمان وحدة الجهود الرامية لهزيمة داعش وتحقيق الأمن الدائم للشعب العراقي"، وهذا يدل على إن وقوف تركيا وحيدة في مواجهة العراق، فحتى حليفها الأساس أمريكا تنصل عن دعمها.
8- هناك استياء تركي من الدور الإيراني في العراق، لهذا فهي تريد تصفية حساباتها مع إيران من خلال الموصل، لهذا فان إدراك العراق هذه الحقيقة قد غير المعادلة، فقد سمح لقوات النظامية فقط في المشاركة في تحرير الموصل، واسند للحشد مهمة الإسناد فقط، لهذا فان الورقة التي كانت تحتج بها تركيا وتتذرع بها قد سحبت منها. لهذا فان تواجدها أصبح غير ذي فائدة ولا يمكن التعويل عليه في مواجهة إيران.
بالتالي ووفق هذه الحقائق أعلاه فان الصراع بين العراق وتركيا مستبعد في هذا الوقت، كما إن وجود القوات التركية في الموصل لن يكون له تأثير حقيقي على الأرض، لان عدد وعديد القوات العراقية كبير وجدا، كذلك تصميم الحكومة العراقية على تحرير الموصل وإعادتها للجسد العراقي، فقد انكشفت الخطة التركية منذ البداية ومنذ دخول داعش للعراق عام 2014، إذ هي كانت مؤامرة تركية مع الأكراد وأطراف من الموصل وداعش من اجل سلب الموصل من العراق، لهذا فان باقي الأطراف العراقية كشفت اللعبة مسبقا وتوحدت ضد هذا المخطط، وحتى لو إن تركيا دخلت في التحالف الدولي ضد داعش فان في نهاية المطاف إن عمليات الحلف هي عمليات محددة بوقت وهو تحرير الموصل، وسوف تغادر القوات الدولية المشاركة، كما إن أمريكا تحاول فرض وجودها في العراق، لذا فهي غير مستعدة لدول أخرى إن تنافسها هذا الدور، كما إن حكومة العراق هي الأخرى لا تريد توتر العلاقات مع تركيا إلى حد الصراع، فهناك حاجة عراقية لتركيا متعاونة معها تقف في وجه تطلعات بعض الأطراف العراقية نحو الانفصال عن العراق، وهو ما يؤثر حتما على تركيا نفسها.