في الوقت الذي تتسارع فيه احداث المنطقة بشكل عام والعراق بشكل خاص، ومع التحضيرات التي سبقت عمليات تحرير مدينة الموصل - مركز محافظة نينوى وثاني أكبر مدينة في العراق من حيث عدد السكان بعد بغداد، إذ يبلغ تعداد سكانها حوالي 2 مليون نسمة، وتبعد عن بغداد مسافة تقارب حوالي 465 كلم شمالا-، والتي تعد المعقل الاخير لتنظيم "داعش" في العراق، تصاعدت حدة المواجهة الإعلامية والتصريحات السياسية بين بغداد وأنقرة على خلفية تواجد القوات التركية في معسكر بعشيقة في محافظة الموصل وإصرار الرئيس التركي على التدخل العسكري والمشاركة في عمليات التحرير الجارية حالياً في المحافظة (التي اطلقها رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي فجر الأثنين 17أكتوبر 2016). وعلى -أثر ذلك-تجاوز الرئيس التركي حدود اللياقة والسياقات السياسية والدبلوماسية المتعارف عليها دولياً بهجوم إعلامي غير مسبوق على رئيس الوزراء العراقي. هذا الإصرار من جانب الرئيس التركي للمشاركة في عمليات تحرير الموصل، وعدم احترامه للأعراف والقوانين الدولية، قد يترتب عليه تداعيات دولية (سياسية واقتصادية)، وقد يتسبب في قطع العلاقات السياسية بين بغداد وأنقرة إذا ما أصرت تركيا على التدخل، والذي سينعكس سلباً على حجم التبادل التجاري والاقتصادي بين البلدين، وكذلك تقف وراءه أسباب سياسية ومعطيات واقعية أفرزتها عمليات التحرير السابقة وواقع العملية السياسية العراقية بعد 2003. وربما سائل يسأل لماذا هذا الإصرار من الجانب التركي، وعزم اردوغان على مشاركة قواته في عمليات التحرير، على الرغم من التداعيات السياسية والقانونية لهذا الموقف؟
هناك اعتقاد كبير بأن السر في إصرار الرئيس التركي على مشاركة قواته في الموصل وقوة تصريحاته المستفزة لبغداد، تحمل في طياتها توافق تركي- سني (أي أن هناك توافقات على مستوى بعض القادة السنة العراقيين كـ " محافظ نينوى السابق أثيل النجيفي وأخيه اسامة النجيفي وطارق الهاشمي وغيرهما" وكذلك بعض رؤساء الدول العربية مع الجانب التركي، تدفع اردوغان على الإصرار على مشاركة قواته في تحرير الموصل) لعدة أسباب حتى وأن كانت "معنوية"؛ وذلك من أجل موازاة الدور الإيراني في العراق -على أقل تقدير- في الحدود المتاخمة لتركيا كتلك التي تمارسها الجمهورية الإيرانية في وسط وجنوب العراق، وعدم عزل دور أنقرة "السياسي والعسكري" من المشاركة في عملية كهذه، لاسيما وأن عمليات التحرير تجري على مشارف حدودها الجغرافية من الجانب العراقي، والتي تعدها "تركيا" حدود رخوة؛ بسبب مشاكلها المستمرة مع عناصر حزب العمال الكردستاني، واطماع الأكراد المستمرة في الانفصال والتمدد، فضلاً عن رمزية محافظة الموصل بالنسبة لها، وكذلك لافتقادها – وهذا ربما يكون السبب الرئيس- إلى ادوات التدخل غير المباشرة كتلك التي تملكها إيران في العراق. فضلا عن أن تركيا تريد اثبات موقف سياسي استراتيجي يعزز من مكانتها الإقليمية في المنطقة، لاسيما بعد أن تلاشى حلمها التاريخي في الانضمام للاتحاد الأوروبي، وحالة التشنج السياسي التي تمر بها العلاقات التركية-الأمريكية بعد عملية الانقلاب الفاشلة ورفض واشنطن تسليم الداعية عبد الله كولن إلى السلطات التركية. ولهذا فأن تركيا تبحث عن دور سياسي يتناسب مع حجمها السياسي والعسكري في المنطقة، الذي يمكنها من مجاراة الدور الإقليمي لدول المنطقة -وقد يكون هذا الدور معنوي أكثر منه مادي-، لاسيما بعد حالة الإرباك السياسي التي تعرضت لها تركيا عقب الانقلاب العسكري الفاشل، ولربما تريد تجاوزه من خلال افتعال الازمات الخارجية سواء بما يتعلق بإصرارها على المشاركة في عملية تحرير الموصل أو بتوتر العلاقات بين البلدين، في ظل تزايد الخروقات الامنية المستمرة في العاصمة والمدن التركية الأخرى. ولهذا ربما الأزمة العراقية-التركية وكذلك الأزمة التركية-الأمريكية هي فرصة مناسبة لتجاوز تركيا العثرات السياسية الداخلية، وهذا ما يدفع بالرئيس اردوغان الى أن يكون مستفزا في تصريحاته ومتشنجاً لهذا الدرجة الكبيرة. هذه الاسباب وغيرها لعلها من الاسباب التي تقف وراء الاصرار التركي للتدخل في العراق، فضلاً عن المخاوف السياسية التي تظهرها تركيا في العلن سواء فيما يتعلق بالتواجد الشيعي هناك وتخوفها من حالة التغيير الديموغرافي في المحافظة أو بتواجد عناصر حزب العمال الكردستاني وتهديدها للأمن القومي التركي. وكذلك لا ننسى هشاشة الوضع العراقي الداخلي والبيئة السياسية العراقية المشجعة لذلك، وحالة عدم الاستقرار السياسي، والانقسام الطائفي بين القوى السياسية، وتغييب المصلحة الوطنية لصالح الطائفة أو الحزب أو القومية، وانتقائية التعامل مع دول الجوار، والفشل في خلق بيئة سياسية مشجعة ومطمئّنه للجميع، فضلاً عن فشل الدبلوماسية العراقية في تطبيع العلاقات مع دول الجوار على اساس الصداقة وحسن الجوار، بعيداً عن الروابط الدينية والمذهبية والقومية، وفشل الحكومات العراقية المتعاقبة في كسب ود أبنائها؛ ولهذا نرى اليوم هناك تذبذب في ردة الفعل العراقية على التدخل التركي. فهناك بعض المواقف الداخلية المؤيدة للتدخل التركي، فضلاً عن مواقف بعض الجالية العراقية في الخارج التي خرجت ببعض المسيرات المؤيدة للتدخل التركي والمنددة بالتدخل الإيراني. وهذا بالتأكيد يبعث بمؤشرات خطيرة على الانقسام المجتمعي ازاء المواقف الخارجية، وهو ما يتطلب بالفعل معالجة حقيقية تدرك حجم التحديات والمخاطر المستقبلية وتبادر إلى حلحلة الازمات وجمع المشتركات وتصحيح مسار العملية السياسية العراقية، وتجاوز اخطاء الحكومات السابقة والوقوف على مسببات "داعش" ومعالجتها، والعمل على إصلاح النظام السياسي العراقي وطريقة إدارة الحكم وفقاً للتحديات الراهنة، وإحياء الامل والروح في الانسان العراقي أتجاه وطنه وشعبه من خلال اشعاره بحريته وهويته الوطنية كمواطن، وتأمين العيش الكريم له. وإلا سوف لن يشفع للحكومة العراقية تحرير الموصل والتخلص من تنظيم "داعش"؛ لأن بقاء الوضع على ماهو عليه ينذر بتحديات كبيرة، لاسيما مع استمرار الصراع السياسي الحالي وغياب الرؤية الوطنية الجامعة.