العراق: خمسة أسئلة عن ارتفاع أسعار النفط

شارك الموضوع :

تلوح في الافق فرصة واعدة للاستفادة من ارتفاع اسعار النفط وتجاوز أزمة جائحة كورونا بكل تجلياتها، والسعي الحثيث الى الانتقال التدريجي نحو اقتصاد واعد ومتنوع وبما يحقق المستقبل الذي نصبو اليه

واجه الاقتصاد العراقي خلال عامي 2020 و2021 تحديات كبيرة ارتبطت بانخفاض أسعار النفط جراء تفشي جائحة كوفيد-19 والقيود التي فرضتها نتيجة التباعد الاجتماعي وتوقف الأنشطة لاقتصادية وتراجع النمو الاقتصادي، ليشهد الاقتصادي العالمي أسوء أزمة منذ ثلاثينات القرن الماضي، في هذا السياق، شهد النصف الأول من عام 2020 ظهور موجات وانتشار سلالات جديدة ومتحورة من فيروس كورونا في العديد من دول العالم والتي أثرت تِباعاً على مسارات التعافي الاقتصادي.

هذه التحديات أدت الى نشوء مخاطر كبيرة أثقلت كاهل الاقتصاد العراقي (المُثقل أصلاً قبل الجائحة) مثل ارتفاع مستويات الدين ومضاعفة المشاكل الهيكلية والبنيوية الداخلية والخارجية، وارتفاع العجز بالموازنة وزيادة هشاشة المالية العامة، مما ولد ضغوطات على السياسة النقدية وعلى استقرار أسعار الصرف.

 وقد شجع الإنجاز المتحقق على صعيد برامج التلقيح والتقدم المُحرز في مواجهة الجائحة، فضلاً عن حزم التحفيز السخية التي تبنتاها دول العالم من خلال ضخ تريليونات الدولارات على تخفيف القيود لأغلب الأنشطة الاقتصادية، وفي هذا السياق، شهدت مستويات الطلب الكلي والتجارة العالمية نمواً ملحوظاً، مما ولد طلباً متزايداً وانتعاشاً للطلب العالمي على الطاقة.

وفي ضوء هذه التطورات انعكست مسارات اسعار النفط لتأخذ مساراً تصاعدياً خلال النصف الثاني من عام 2021 لتصل الى نحو 82 مع نهاية أكتوبر/ تشرين الأول.

وهناك جملة من الأسباب أدت الى وصول الى أسعار النفط الى مستوياتها الحالية منها: 

* التوقعات بشأن استمرار عجز الإمدادات في سوق النفط العالمي خلال الفترة المتبقية من عام 2021، في ظل اتفاق دول أوبك+ على مواصلة الانضباط في تقليص تخفيضات الإنتاج بإضافة 400 ألف ب/ي شهرياً حتى شهر أبريل 2022، وتزامناً مع انتعاش الطلب على النفط.

* استمرار انخفاض مخزونات النفط بمركز التخزين الرئيس، إذ انخفضت بمستويات قياسية، فضلاً عن اضطراب الامدادات العالمية والتي دفعت شركات الطاقة الى سحب كميات كبيرة من المخزونات، مما دعم ارتفاع أسعار النفط. 

* تلقت اسعار النفط دعماً إضافياً بسبب تأثر انتاج النفط الامريكي في خليج المكسيك بتداعيات اعصار Ida رغم مرور مدة ليست بالقصيرة على اجتياحه للمنطقة اذ فقدت نحو 18% من الانتاج، وقد اشارت شركة Royal Dutch sheell   الى إن اثنين من أكبر حقولها لن تستأنف العمل حتى بداية عام 2022 بسبب انقطاع الكهرباء مما قد يعطل نحو 300 ألف برميل يومياً، الى جانب العاصفة الاستوائية Nicholas في الوقت الذي يكابح فيه قطاع الطاقة الأمريكي من تداعيات اعصار Ida، في هذا السياق تقدر مؤسسة Goldman sachas إلى إن اجمالي الانخفاض بالناتج الامريكي يصل الى 40 مليون برميل في مقابل انتعاش الطلب العالمي.

* التوقعات بتجاوز الطلب على النفط المعروض واتساع الفجوة بينهما ومخاوف من شح الامدادات في ظل حفاظ اوبك + على آلية الزيادة الشهرية وتضاؤل فرص عودة صادرات النفط الايرانية، وقد قدر بنك Goldman Sachsعجز في الامدادات عن تلبية الطلب بنحو 2.5 مليون ب/ي، وعليه ستتراوح أسعار النفط ما بين 80-90 دولار للبرميل حتى نهاية عام 2021.  

* استمرار أزمة الطاقة (من المتوقع وبحسب التقارير الدولية استمرارها حتى نهاية العام) في الاقتصادات الرئيسة ونقص امدادات الغاز، والصعود الحاد في أسعار الغاز الطبيعي الذي بدأ يتغلغل تأثيره في أسواق الطاقة العالمية وفي قطاعات اقتصادية أخرى، فقد ارتفعت الأسعار الفورية للغاز الطبيعي بأكثر من أربعة أضعاف مسجِّلة مستويات قياسية في أوروبا وآسيا، وهي ارتفاعات سعرية حادة غير مسبوقة من حيث استمراريتها وبعدها العالمي.  ويوضح الشكل الاتي ذلك.

شكل (2) قفزات اسعار الغاز الطبيعي في اوروبا واسيا خلال النصف الثاني من عام 2021

{img_1}

المصدر: أندريا بيسكاتوري، ومارتن شتومر، ونيكو فالكس، الصعود الحاد في أسعار الطاقة قد لا يتراجع حتى العام القادم، صندوق النقد الدولي، 2021، متوفر على الرابط

 https://www.imf.org/ar/News/Articles/2021/10/22/blog-surging-energy-prices-may-not-ease-until-next-year 

* ترتب على أزمة الطاقة وارتفاع اسعار الغاز والفحم ونقص الامدادات الى ظهور مؤشرات على بدء بعض الصناعات بالتحول في استخدام الطاقة باتجاه النفط، الأمر الذي ترتب عليه زيادة الطلب على النفط.    

* حفاظ دول اوبك + على آلية زيادة الانتاج الشهرية البالغة 400 ألف برميل يومياً خلال اجتماعهم الوزاري.   

* المؤشرات المتنامية على قوة الطلب الامريكي على النفط في ظل انخفاض مخزون الغازولين الى أدنى مستوى له منذ عام 2017.

* أخيراً هناك حالة من عدم اليقين تشوب أجزاء واسعة من العالم حول وتيرة توزيع اللقاح وإمكانية تفشي الجائحة وافاق الاقتصاد الكلي، وتراجع مخزونات الطاقة في الدول الرئيسة، فضلاً عن العوامل السياسية وغيرها، وكلها عوامل من شأنها ان تؤدي الى ارتفاع اسعار النفط او بقائها ضمن مستوياتها الحالية لمدة ليست بالقصيرة.    

• الاثار المُرجحة لارتفاع اسعار النفط في الاقتصاد العراقي

دخل العراق عام 2021 وهو يعاني من تداعيات انخفاض اسعار النفط وهشاشة مالية قوية وارتفاع في مستويات الدين واختلالات عميقة، وتُشير الاحصاءات إلى إن الايرادات النفطية بلغت في عام 2020 نحو 41.7 مليار دولار لتنخفض الصادرات بنحو 55% والعوائد 46% نتيجة الازمة الصحية وانخفاض اسعار النفط الذي بلغ نحو 38.8 دولار في المتوسط. 

وكان من نتائج ذلك صعوبة اقرار الموازنة العامة للبلد، وبعد مناقشات طويلة تم إقرار الموازنة بمبلغ 129 ترليون دينار وبعجز مخطط يبلغ 28 ترليون، وتخصيص نحو 29 ترليون دينار للنفقات الاستثمارية، على أساس 45 دولار لبرميل النفط، وبسعر صرف بلغ 145 ألف بالمقارنة مع 118 ألف للسنوات السابقة (وهنا لسنا بصدد مناقشة موضوع تغيير سعر الصرف). 

عموماً، وفي سياق الانفتاح التدريجي ورفع القيود وعودة النشاط الاقتصادي وانتعاش الطلب العالمي (فضلاً عن العوامل التي سبق ذكرها) خلال النصف الثاني من عام 2021، ارتفعت اسعار النفط بشكل كبير جداً لتلامس 82 دولار حتى بداية شهر تشرين الثاني من 2021 (أي ما يقارب ضعف الاسعار المثبتة في قانون الموازنة العامة لعام 2021)، وبالتأكيد كان لهذا الارتفاع في الاسعار نتائج ايجابية على الاقتصاد العراقي.  

وهنا نطرح خمسة أسئلة لمعرفة الآثار المترتبة على ارتفاع اسعار النفط وهي:

• الى أي مدى يستمر ارتفاع اسعار النفط.

• ما هي الآثار على توازن الموازنة العامة للبلد. 

• ما هي الانعكاسات على الاستدامة المالية. 

• ما هي استجابة السياسات المالية والنقدية لارتفاع اسعار النفط.

• ما هو الأثر على الاحتياطيات الاجنبية.

ففيما يتعلق باستمرار ارتفاع اسعار النفط، إن استمرار ارتفاع أسعار النفط على المستوى العالمي مرهون بانتعاش الطلب العالمي وتعافي النشاط الاقتصادي وانتشار اللقاحات بشكل اوسع وعدم ظهور وتفشي سلالات جديدة من الفيروس، فضلاً عن انتعاش الطلب العالمي على النفط في ظل أزمة الغاز والفحم.

وبخلاف عوامل العرض والطلب هناك عوامل أخرى تؤثر على استمرار وارتفاع اسعار النفط منها وضع مخزونات الطاقة وانخفاض مستوياتها في الولايات المتحدة والدول الصناعية الكبرى، استمرار ارتفاع اسعار الغاز والفحم في الاسواق العالمية، كذلك مدى استعداد دول        اوبك + الالتزام بتنفيذ الاتفاقات السارية المفعول للحفاظ على مستويات الانتاج وعدم التسرع في زيادة حجم الانتاج. 

أما فيما يتعلق بالأثر على توازن الموازنة، فإن الأثر التلقائي لانخفاض اسعار النفط هو ارتفاع عجز الموازنة الى مستويات عالية وخطرة (نتيجة الاعتماد على النفط لتمويل الموازنة) وعدم قدرة الدولة على الايفاء بالتزاماتها المالية (لاسيما الانفاق الاستهلاكي المتمثل بالرواتب والاجور) وهو ما حصل فعلاً خلال عام 2020، ومن الطرق الممكنة لتوضيح الأثر المتحقق من ارتفاع اسعار النفط هو ما يطلق عليه السعر المحقق لتعادل الموازنة العامة (بمعنى اسعار النفط التي تتوازن فيها الموازنة العامة)، وفي هذا السياق وفي ظل الاوضاع الراهنة وارتفاع فاتورة الاجور والرواتب (الانفاق الاستهلاكي) فأن الاسعار التعادلية التي تحقق التوازن في العراق قد تتجاوز حاجز 70دولار في المتوسط، ولغاية شهر تشرين الاول من عام 2021 كان متوسط الاسعار هو نحو 65 دولار، وهناك فرق يبلغ 5 دولار لكل برميل، ومن الممكن أن يتحقق التوازن في الموازنة نهاية السنة في ظل بقاء الاسعار عند مستوياتها الحالية.    

وبالنسبة للاستدامة المالية  financial sustainabilityوالتي تعني قدرة الدولة على تحمل الديون ومواصلة خدمة ديونها دون تصحيح كبير في السياسات المالية بشكل غير واقعي في المستقبل لتحقيق التوازن بين الإيرادات والنفقات، والاستدامة تتضمن تحقيق الملاءة Solvency والسيولة Liquidity، والاستدامة هنا تستبعد أي حالة تحتاج فيها إلى إعادة هيكلة الديون، (أو يتوقع أن تكون هناك حاجة إليها) وضع يواصل فيه المقترض تراكم الديون لأجل غير مسمى بشكل أسرع من قدرته على خدمة هذه الديون (لعبة بونزي أو تمويل بونزي) أو حالة يعيش فيها المقترض بما يتجاوز إمكانياته من خلال تراكم الديون مع العلم بأن هناك حاجة إلى تخفيض كبير لخدمة هذه الديون(1).

وهناك علاقة وثيقة الصلة بين الدين والاستدامة المالية، وغالباً ما تلجأ الحكومة الى الاقتراض لمواجهة الانخفاض في الإيرادات المالية نتيجة انخفاض أسعار النفط (المورد الوحيد لتمويل الموازنة)، وكلما زاد حجم الدين كلما زادت المخاطر المالية وانخفضت قدرة الدولة على تحقيق الاستدامة، وفي هذا السياق هناك أربعة قواعد للاستدامة المالية حددتها معاهدة ماستريخت وهي ( قاعدة اجمالي الدين الى الناتج المحلي الاجمالي يجب ان لا تتجاوز نسبة 60%، وقاعدة يجب ان لا تزيد نسبة عجز الموازنة العامة عن 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وقاعدة ضبط النفقات وفقاً لهذه القاعدة فان على الدولة ان توازن بين النفقات والايرادات، أي ان تكون تغطية الايرادات للنفقات مساوية 100%،  والقاعدة الذهبية وفقاً لهذه القاعدة فإن الدولة تقترض لتغطية النفقات الاستثمارية دون النفقات الجارية).

 وعلى الرغم من ارتفاع مستويات الدين العام (الداخلي والخارجي) في العراق فانه لم يصل بعد الى مستويات خطرة جداً، ومن ثم فان ارتفاع أسعار النفط خلال النصف الثاني من عام 2021 من شأنه ان يقلل من الاعتماد على الدين ومن ثم يساعد على تحقيق الاستدامة المالية في المستقبل.    

وبالنسبة لاستجابة السياسات المالية والنقدية، لا شك إن استجابة السياسات الملائمة يتوقف على حجم الصدمة التي واجهها العراق، فعلى صعيد السياسة المالية ستكون الاستجابة صعبة ومعقدة أيضاَ بسبب تضخم حجم الانفاق الاستهلاكي وعدم توفر الحيز المالي الكافي، فضلاً عن المقدار المتحقق من الوفرة المالية التي سببها ارتفاع اسعار النفط. وطالما كانت هناك دعوات الى ضرورة استخدام هذه الوفورات التي يتم تحقيقها وتحويلها الى صندوق سيادي أو تحوليها نحو الانفاق الاستثماري المولد لفرص العمل والمحفز للنشاط الاقتصادي.

أما على صعيد السياسة النقدية فيتمثل الهدف الرئيس التي سعى ويسعى الى تحقيقه البنك المركزي هو ضرورة المحافظة على استقرار الاسعار وثبات التوقعات التضخمية والمحافظة على استقرار التضخم الاساس خلال المدة المقبلة في سياق التعافي النسبي لأوضاع المالية العامة.   

وفيما يتعلق بالأثر على الاحتياطيات الدولية، لطالما كان الهدف الرئيس للسياسة النقدية بعد عام 2003 هو مواجهة تبعات المرحلة السابقة والحفاظ على الاستقرار السعري والمحافظة مستويات التضخم عند حدود مقبولة والدفاع عن قيمة العملة وهو ما تحقق فعلاً عن طريق نافذة بيع العملة، وكان ضع الاحتياطات الدولية حتى قبل الازمة المزدوجة منتصف 2014-2017 (انخفاض اسعار النفط وتنظيم داعش الارهابي) في حالة جيدة جداً، إلا إن انعكاسات الأزمة أثرت بشكل واضح على وضع الاحتياطات الدولية نتيجة لانخفاض الموارد المالية واستمرار البنك المركزي في الحفاظ على استقرار الاسعار، وما لبثت أن عادت الى مستويات ما قبل الأزمة حتى عاد الاقتصاد العراقي ليسقط في براثن أزمة جديدة نتيجة انخفاض اسعار النفط وتفشي جائحة كورونا، وقد تأثرت الاحتياطيات كثيراً في عام 2020. 

وفي عام 2021 انبرى البنك المركزي لاتخاذ اجراءات لعل أبرزها (تخفيض سعر الصرف) في محاولة منه للحفاظ على الاحتياطيات الدولية عند مستويات آمنة في سياق انخفاض اسعار النفط، ويتضح هناك علاقة طردية قوية بين ارتفاع أسعار النفط وارتفاع حجم الاحتياطيات، فمع ارتفاع الاسعار ترتفع حجم الاحتياطيات الدولية الى مستويات قريبة من مستويات ما قبل الازمة المزدوجة.   

ختاماً تلوح في الافق فرصة واعدة للاستفادة من ارتفاع اسعار النفط وتجاوز أزمة جائحة كورونا بكل تجلياتها، والسعي الحثيث الى الانتقال التدريجي نحو اقتصاد واعد ومتنوع وبما يحقق المستقبل الذي نصبو اليه. 

المصادر :

(1 )The Policy Development and Review Department, Assessing Sustainability, INTERNATIONAL MONETARY FUND, 2002,p4.   

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية