على مايبدو بأن تداعيات الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا ستستمر ليس على الصعيد الداخلي فقط وإنما على الصعيد الخارجي والعلاقات الخارجية التركية، لاسيما مع دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. سياسة الرئيس التركي اردوغان واضحة بعد عملية الانقلاب العسكري (وهي هيكلة المؤسسة العسكرية والأمنية وكل مؤسسات الدولة التركية وابعاد خصومه سواء كانوا سياسيين أو مدنيين، لاسيما اولئك الذين يرفضون سياسة اردوغان في أخونة الدولة التركية من قضاة وأكاديميين ومثقفين). وهذه التوجهات كانت واضحة منذ بداية الانقلاب، ومن خلال حملة الاعتقالات التي نفذتها اجهزة الأمن التركي، وتوجيه اصابع الاتهام إلى الداعية (عبد الله كولن) المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي على أثره اخذت العلاقة بين البلدين بالتصعيد، لاسيما بعد اتهام اردوغان للولايات المتحدة بأنها هي من تقف وراء "عبد الله كولن". إلا أن كل ذلك ربما يمكن تلافيه بخطوات دبلوماسية ناجحة بين البلدين، لكن ماذا لو إعادة تركيا العمل بعقوبة الإعدام؟
تركيا التي وقفت طويلاً على أبواب أوروبا منذ سنوات، وقامت ببعض التعديلات والإجراءات من أجل تسهيل مهمتها في الانضمام للنادي الأوروبي، إلا أن مشاكل تركيا مع اليونان وقبرص والأكراد وحزب العمال الكردستاني، فضلاً عن طابعها الإسلامي حالت دون ذلك، على الرغم من تنفيذها لبعض شروط الاتحاد الأوروبي كإلغائها عقوبة الإعدام والتزامها بالاتفاقيات الأوروبية في مجال حقوق الانسان. ويبدو بأن حلم الدولة التركية تبدد نتيجة كل هذه السنوات والانتظار على ابواب أوروبا، ولم يعد حلم الدخول للنادي الأوروبي يعني لها الكثير، لاسيما مع توجهات الرئيس اردوغان وفكره السياسي وايديولوجيته السلفية " الإخوانية". ولهذا ربما تكون تركيا قد ايقنت بأن دورها في الشرق الأوسط وليس في أوروبا بعد كل هذه السنوات، ولذلك انخرطت بملفات المنطقة سواء في سوريا أو العراق أو فلسطين ودعمها للمحور الإسلامي السني المتشدد في المنطقة. وهذا ما كشفت عنه تداعيات الانقلاب العسكري وتوجهات اردوغان بعد فشل الانقلاب ولهجته الشديد اتجاه اصدقاءه الأوروبيين، وربما اردوغان يفكر في الخروج عن طاعة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بعزمه على إعادة العمل بعقوبة الإعدام.
وقد ألغت تركيا عقوبة الإعدام في العام 2004، على أمل أن تسرّع من إجراءات انضمامها للاتحاد الأوروبي التي اعتبرت أن أحد أهم انضمام تركيا إلى الأسرة الأوروبية هو إلغاء عقوبة الإعدام في البلاد، إذ صادقت تركيا رسمياً على البرتوكول السادس من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الانسان ووقعت على الاتفاقيات الملزمة مع المجلس الأوروبي المعني بمراقبة حقوق الانسان في أوروبا، وقد جاء إلغاء العقوبة مع مجموعة كبيرة من الإصلاحات في مجال حقوق الإنسان في محاولة للوفاء بمعايير الانضمام للاتحاد الأوروبي. إلا أن الرئيس التركي يبدو عازماً على إعادة عقوبة الإعدام بحق الانقلابين، وأن توجهات الرئيس التركي بهذا الخصوص، أيدها زعيم الحركة القومية "دولت بهجتلي" بأن "الحزب مستعد لقبول قرار الإعدام بحق الانقلابين في حال كان حزب العدالة والتنمية جاهزاً لذلك، واصفاً أن حزبه مستعد للقيام بكل ما يترتب عليه القيام به وسط راحة بال تامة". وعلى العكس من الحركة القومية عارض حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد إعادة العمل بعقوبة الإعدام. وهذا ربما يدخل القوى السياسية والاحزاب التركية بحالة صراع سياسي من شأنها أن تقود إلى انقسام سياسي أكثر وتهدد وحدة واستقرار الدولة التركية.
هذه التطورات السياسية، والسعي إلى إعادة عقوبة الإعدام أعلن عنها الرئيس التركي بأن بلاده ستضع خلافاتها مع دول الجوار وراء ظهرها، وكذلك ستتراجع عن اتفاقياتها مع الاتحاد الأوروبي، لاسيما بما يتعلق بإعادة عقوبة الإعدام؛ لأن -وحسب تعبير اردوغان-عندما وقعت تركيا على إلغاء العقوبة كان الظرف غير الظرف عما عليه اليوم. وبهذا قد يحيل الرئيس اردوغان إقرار عقوبة الإعدام إلى البرلمان التركي، على الرغم من أن رغبة الرئيس التركي في إرجاع العقوبة قد تصطدم بمعوقات سياسية وقانونية عدة. إذ تتطلب مصادقة التعديل الدستوري في البرلمان التركي موافقة (367) نائباً (ما يشكل ثلثي أعضاء البرلمان المكون من 550 نائب) لا يحظى الحزب الحاكم منهم إلا على (317)، كما لا يكفي انضمام نواب حزب الحركة القومية الـ (40)، إلى مسعى الرئيس التركي في تأمين الأصوات الكافية، غير أن حزب العدالة والتنمية قد يحقق النسبة المطلوبة من الأصوات في طرح هذا المقترح في استفتاء شعبي، وأن تم، يمكن أن يتضمن تعديلاتً أخرى كان يسعى لها اردوغان لزيادة صلاحياته. وهذا بالتأكيد سينهي الحلم التركي في الانضمام للاتحاد الأوروبي، لاسيما مع تأكيد وزيرة خارجية الاتحاد "موغيريني" بأن لا مكان لدول التي تطبق الإعدام في أوروبا، وضغوطات أوباما على الجانب التركي في احترام القيم الديمقراطية وحقوق الانسان التي ينص عليها الدستور. وأن إعادة عقوبة الإعدام من شأنها أن تجعل تركيا في عزلة دولية؛ بسبب رفض معظم حكومات العالم إعادة تركيا العمل بها. إذ علقت الحكومة الألمانية بأن إعادة العمل بعقوبة الإعدام سينهي مفاوضات تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي، كما حثت الأمم المتحدة تركيا على عدم العودة للعمل بالعقوبة. وكان الموقف الأمريكي واضحاً على لسان وزير الخارجية "جون كيري" الذي دعا تركيا إلى الالتزام بأعلى المقاييس الديمقراطية في التعامل مع منفذي الانقلاب. وقد جاء الرد التركي على تلك الدعوات واضحاً على لسان وزير خارجيتها الذي رفض الانتقادات الغربية. ويرى الدكتور "احمد البرعي" استاذ العلوم السياسية في جامعة آيدن في اسطنبول بأن "اردوغان لن يتنازل عن تطبيق عقوبة الإعدام حتى وأن ذهب به إلى استفتاء شعبي في حال فشل البرلمان التركي في إقراره، وأن الاتحاد الأوروبي لم يقف عائقاً أمام إعادة حكم الإعدام؛ لأن الاتراك آخر ما يفكرون به هو علاقاتهم مع الاتحاد الأوروبي، لكن بالتأكيد ستكون هناك ارتدادات سلبية مجتمعية؛ بسبب الانقسام المجتمعي بين رافض ومؤيد، وبسبب الاستقطاب السياسي الذي ما يزال قائماً، كما أن مخاوف المعارضة من تغول النظام الرئاسي في تنفيذ الحكم سيكون دافعاً للمعارضة أكثر الإعادة الحكم والوقوف ضده.
ولهذا، فإذا ما أعادت تركيا العمل بعقوبة الإعدام فقد تتعرض لعزلة دولية، لاسيما مع الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وسيترتب عليها تداعيات دولية كبيرة وربما إقليمية، فضلاً عن التداعيات الداخلية التي قد تعرض تركيا لانقسامات سياسية ومجتمعية، لاسيما مع الأعداد الكبيرة التي تم اعتقالها وبالتحديد ممن ينتمون للداعية "فتح الله غولن". وبالتالي ربما تقود إعادة العمل بعقوبة الإعدام الى تعرض تركيا لعزلة دولية ونزاعات داخلية، لاسيما في ظل تمادي الرئيس التركي بطموحاته الشخصية.