الوعي التاريخي ومشكلة بناء الهوية الوطنية العراقية

شارك الموضوع :

ان الحديث عن هوية عراقية وطنية جامعة ليس ترفا فكريا او ثقافيا، بل هو السبيل الوحيد لبناء الإنسان والدولة، ووضعهما على المسار الصحيح للتنمية الحقيقية الشاملة

الانسان هو ابن البيئة التي يعيش فيها، ولكن هذه البيئة لا تقتصر على الأرض والمناخ واللحظة الزمنية التي تشكل عمره القصير، بل تمتد الى ما هو أعمق وابعد من ذلك فتشمل ارثه الماضي بكامله، وما اضفاه الاقدمون من المعاني والدلالات على المكان والزمان والأشخاص والاحداث ... وهو ما يُكون بمحصلته النهائية الوعي التاريخي للإنسان وبنيته الثقافية التي تفرقه عن غيره من البشر، فيصبح هذا الوعي عاملا حاسما في تشكيل ادراكه وفهمه لذاته والأخر، أي تحديد هويته الخاصة والعامة. ولذا تجد ان الشعوب التي لها وعي تاريخي متماثل، غالبا ما تتمتع بإرث ثقافي متماثل، ويكون احساسها بهويتها متقارب، فهي متصالحة مع نفسها وتاريخها من جانب، ومع محيطها الذي تعيش فيه من جانب آخر، وهذا ساعدها كثيرا على التقدم بدون التعرض لمشاكل ناجمة عن التنافر الثقافي.

وليست كل الشعوب ذات لون ثقافي واحد، فمعظمها متنوعة عرقيا واثنيا، ولكنها تجاوزت عقبة تنوعها واستطاعت بناء هويتها الوطنية لأسباب كثيرة، منها: توصلها الى قناعة بأن الصراع لا يجدي نفعا؛ لأنه يزيد الأوضاع السيئة سوءً، وما عزز هذه القناعة هو وجود قيادات سياسية حكيمة بدرجة عالية لتركز على المشتركات بين افراد المجتمع والابتعاد قدر الإمكان عن مصادر الصراع والفرقة، فضلا عن وجود حكومات قوية في مؤسساتها الدستورية، ولكنها -أيضا-عادلة في قوانينها بحيث يقف الجميع متساوين امام القانون، تدعمها منظومة قيم مدنية مناسبة ساعدتها على ترسيخ رابطة المواطنة والهوية الوطنية الجامعة.

وبقدر تعلق الامر بالعراق، نجد ان هذا البلد لم يكن محظوظا بدرجة كبيرة، فالوعي التاريخي لمكونات الشعب شكل- ولا زال- عائقا كبيرا امام بناء هوية وطنية واحدة، فالعراقيون اليوم ليس لهم وعيا تاريخيا داعما لوحدتهم واحساسهم المشترك، وانما لكل طائفة وعيها التاريخي الخاص بها، فالرموز والأماكن والاحداث والازمنة لا تعطي المعنى نفسه للجميع، فبغداد العباسية على سبيل المثال تعني للبعض رمزا قوميا يعكس القوة والحضارة والقيادة المثالية، ولكنها للبعض الاخر تعني سجنا كبيرا يرمز للظلم والتهميش والاقصاء، وما يفخر به البعض من رموز واحداث وأماكن وازمنة يخجل منه البعض الاخر ويحاول التبرؤ منه وانكاره. 

وما جذر هذا الوعي التاريخي وزاد اعراضه المرضية هو السقوط المدوي لبغداد العباسية سنة 1258 م على يد المغول الذي أنهى عملية التواصل الحضاري بين الأجيال العراقية المتعاقبة. ومع تقلب هذه الأجيال لعقود طويلة بين المستعمرين والطغاة المحليين والأجانب، ومعاناتها من تخلف شديد انهى دور المدينة والمدنية سقط الماضي سقوطا مريعا في مجموعة من السرديات التاريخية المختلفة والمبالغ بها الى حد بعيد، وتلك السرديات التي تشكلت في ظروف التخلف والخوف والارتماء في أحضان ملاذات ثقافية أمنة شكلتها الولاءات والروابط الأولية اصبحت ليست مجرد سرديات تشكل هوية الانسان الطبيعية، وانما اصبحت حصون تحمي هذه الهوية من هويات اجنبية معادية تحاول مهاجمتها على الدوام، فأصبحت علاقة الانا بالأخر لا تقوم على التشارك والتعاون، بل على العداوة والتغالب، وقد استمر هذا الحال لوقت طويل بلغ ما يقارب السبعة قرون، مما رسخ حالة شاذة من علاقة الانا بالآخر.

وما زاد الطين بلة هو ان الدولة العراقية الحديثة التي ابصرت النور بعد سنة 1921 لم تنعم بالاستقرار لوقت طويل في ظل مشروع دولة متكامل الأركان، بل وقعت بسرعة في فخ المؤامرات السياسية، والتدخلات الخارجية، والانقلابات العسكرية المستمرة... مما جعل الذاكرة التاريخية المأزومة تترسخ بظروف واحداث ورموز معاصرة زادت فجوة الخلاف بين العراقيين، وعززت أزمة الثقة والعداء بين الأنا والآخر، فالانا والأخر لا يمدان جسور التعايش والثقة والاحترام بينهما، بل يشتركان في الخوف والاتهام والتخوين المتبادل، ولا يجتمعان مع بعضهما الا اضطرارا او عندما تدفعهما الى ذلك بعض المصالح الملحة، اما معظم الوقت فهما متورطان في العداوة والتآمر ومحاولة كل طرف فرض هويته ووجهة نظره على الطرف الاخر.

ان تجربة دور النخبة والسلطة والحكم في تاريخ العراق الحديث كانت -ولا زالت- غير مثالية في بناء الهوية الوطنية الجامعة للعراقيين، بل انها حولت الشعب الواحد الى مجموعة شعوب منعزلة ومتباعدة لا يربطها ببعضها سوى الجنسية العراقية، وحتى هذه الأخيرة هناك من يريد التخلص منها بطريقة ما، فكانت النتيجة بناء غير مكتمل للإنسان والدولة، فالإنسان لا زال اسير وعي تاريخي خاطئ ومبالغ في سردياته من جانب، والدولة أسيرة نخب متصارعة وغير حكيمة، ومؤسسات دستورية هشة وضعيفة يسهل تجاهلها وخرق منظومتها القانونية من جانب آخر، وقد ساعد كل ذلك على استمرار متلازمة العنف والتخلف والفوضى، مما قاد بالنهاية الى ضعف الانسان والدولة معا.

وعليه، يتطلب اصلاح الحال وعيا تاريخيا مختلفا تسهم في وضعه نخب ثقافية واجتماعية واعية تجعل بوصلته إعادة الاعتبار للدولة، والارتباط بالأرض، والتماسك بين أبناء المجتمع على قاعدة المواطنة لا المغالبة، وإعطاء الرموز والاحداث والأماكن دلالاتها المشتركة والمحترمة، كما يتطلب وجود قيادات سياسية تمتلك فهما للدولة وحاجاتها، والانسان ومتطلبات بنائه ارقى من مستوى فهم عامة الناس، قيادات تمثل جميع العراقيين على اختلاف انتماءاتهم العشائرية والحزبية والعرقية والاثنية... وان يتم بذل العناية الكافية من الجميع لاستدامة الاستقرار الأمني والسياسي، فوجود الاستقرار هو الضمانة الأساسية لتراكم النجاح وتجاوز الأخطاء.

بكلمة موجزة اخيرة: ان الحديث عن هوية عراقية وطنية جامعة ليس ترفا فكريا او ثقافيا، بل هو السبيل الوحيد لبناء الإنسان والدولة، ووضعهما على المسار الصحيح للتنمية الحقيقية الشاملة.  

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية