ترامب يُدمر الابتكار الأمريكي، والصين ستجني ثماره

شارك الموضوع :

خلال الأشهر القليلة الماضية، تبلورت خطة مُحكمة لضمان هيمنة الصين على المنافسة الاقتصادية العالمية. إلا أن مهندسي الخطة الرئيسيين ليسوا قادة الصين، بل سياسيون أمريكيون. اذ ان تحديد إدارة ترامب للوكالات الفيدرالية تقوض قدرة الولايات المتحدة على الابتكار، وهو المحرك الرئيس لنموها الاقتصادي

ديفيد جي فيكتور، نقلا عن مجلة (Foreign Affairs) -واشنطن

مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

حزيران-يونيو 2025

ترجمة: د. حسين احمد السرحان


خلال الأشهر القليلة الماضية، تبلورت خطة مُحكمة لضمان هيمنة الصين على المنافسة الاقتصادية العالمية. إلا أن مهندسي الخطة الرئيسيين ليسوا قادة الصين، بل سياسيون أمريكيون. اذ ان تحديد إدارة ترامب للوكالات الفيدرالية تقوض قدرة الولايات المتحدة على الابتكار، وهو المحرك الرئيس لنموها الاقتصادي. وتُصعّب سياسات الهجرة المُعادية على الشركات والصناعات والجامعات الأمريكية جذب أفضل الأفكار والمواهب من جميع أنحاء العالم والاستفادة منها لتعزيز ازدهار أمريكا. وتُثير التهديدات الجامحة بفرض رسوم جمركية وقيود على سلاسل التوريد الأجنبية مخاوف المستثمرين، الذين بدأوا يُجمّدون رؤوس أموالهم ويبحثون عن فرص جديدة بعيدًا عن الفوضى. في غضون ذلك، تزداد الصين تنافسية في المجالات التي تُعيقها الولايات المتحدة.

تحتاج واشنطن الى إعادة اكتشاف قيمة الابتكار. فكل مجال من مجالات النمو الاقتصادي المستقبلي الذي تستعد الولايات المتحدة للريادة فيه مثل البرمجيات، والذكاء الاصطناعي، وحفر آبار النفط والغاز، والروبوتات، وإنتاج المركبات الكهربائية - يعتمد على ابتكارات يستحيل رعايتها دون دعم موثوق وطويل الأمد من الحكومة الفيدرالية. كان كلا الحزبين السياسيين الأمريكيين يعتبران الاستثمار العام في التعليم والتدريب والابتكار أساسيًا لازدهار البلاد في المستقبل. أما اليوم، فلا يفهم أيٌّ من الحزبين هذه الرؤية أو يدعمها بشكل موثوق، بل يتبنون سياسات ثنائية الحزب تهدف الى تقليل اعتماد الولايات المتحدة على الصين، ويتحدون لمهاجمة بكين، مما يدفع بقية العالم نحو اعتماد أكبر عليها.

إن عزل الاقتصاد الصيني عن الغرب سيفشل. وليس أمام واشنطن خيار سوى المشاركة في اقتصاد معولم لم يعد بإمكانها السيطرة عليه منفردةً. لقد أنفقت الولايات المتحدة عقودًا وتريليونات الدولارات لبناء أفضل نظام ابتكار في العالم. وبدوره، أصبح هذا النظام المصدر الرئيس لقوتها الاقتصادية والعسكرية. وان تجريدها من بعض امتيازاتها سيكون بمثابة انتحار، في وقت تسعى فيه الصين لبناء جهاز ابتكار ينافس الولايات المتحدة.

خدعة بسيطة واحدة

عندما تكون الاقتصادات في متوسط عمرها، لديها العديد من الطرق للنمو. بعض الاقتصادات فيها جمهور واسع من العاملين ذوي الاجور المنخفضة في الحقول والمصانع، بينما تستغل اقتصادات اخرى الموارد الطبيعية. ومع ذلك، بمحرد ان يكون الاقتصاد تام النمو، لا توجد سوى وصفة واحدة يمكن الاعتماد عليها لتحقيق استدامة في النمو، الا وهي الابتكار. وبعد ان تصبح الموارد الطبيعية والعمالة قليلة وأكثر كلفة، يؤدي الابتكار الى تحقيق المزيد بموارد اقل. منذ الحرب العالمية الثانية، فأن ربع النمو الاقتصادي الاميركي، على الاقل، كان بفعل الابتكار الذي جعل من الممكن للاقتصاد ان يعتمد على راس المال والعمالة بفعالية.

الاقتصاد الاميركي هو مثال اساسي لوصفات تغيّر النمو طوال الوقت. في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، نمت الدولة بفعل قطع الاشجار، وتوسعت لتحتل الاراضي الغربية، وحشد اعداد هائلة من العمال (بما في ذلك المهاجرين والناس العبيد) في الزراعة من ثم في المصانع. وعندما تراجعت مساحات الاراضي والعمالة الرخيصة في نهاية القرن التاسع عشر، بدأ الابتكار يملأ الفراغ. وبعد ان تحرك الاقتصاد الاميركي نحو التصنيع، ساعدت الابتكارات مثل شبكات الطاقة الكهربائية – التي تم تطويرها على مدى عقود من الاستثمارات، والتطوير والبحث، والتي غالبت ما كانت مدعومة بتمويل حكومي – توسع الناتج الصناعي للولايات المتحدة. ومع تحول الاقتصاد الى التركيز على الخدمات، والتي تشكل اليوم حوالي 80 بالمية من الناتج الاقتصادي للولايات المتحدة، ساعدت الابتكارات الكبيرة، على سبيل المثال في مجال الكومبيوتر، على المحافظة على القدرة التنافسية للبلاد.

القصة الكاملة لكيفية تشكيل الابتكار للاقتصادات معقدة، لكن نظام الابتكار الناجح دائما يتضمن ثلاثة عنصر رئيسة: الاول، الابتكار ينشئ ويغذي قنوات للأفكار الجديدة. الولايات المتحدة قادت الابتكار على مدى عقود بسبب دعمها الفيدرالي الكبير للبحث، الذي بدأ خلال الجرب العالمية الثانية. الاموال من واشنطن ويتم انفاقها من قبل الجامعات البحثية، المختبرات الوطنية، والمؤسسات، ويتم دمج الافكار وتحويلها الى شركات تعمل على تعزيز النمو والقدرة التنافسية. وتدخل القطاع الخاص لتكملة التمويل الفيدرالي للبحث والتطوير، وخاصة في الصناعات مثل التكنولوجيا الحيوية والحوسبة. مع ذلك في كل صناعة تقريبا، اعتمدت الابتكارات الاكثر تأثيرا في الولايات المتحدة خلال العقود الثمانية الماضية، على التمويل الحكومي، وذلك لان الحكومة الفاعل الاكثر صبرا وموثوقية مستعدا لتحمل المخاطر في سبيل الصالح العام.

هذا النظام التمويلي الفيدرالي عمل بشكل جيد كونه أدمج الموارد الحكومية الهائلة بالرؤية المستقرة نسبيا. زيادة على ذلك، لقد اثبتت الحكومة قدرتها في تحديد الطريقة الافضل لتخصيص تلك الموارد. حتى مع الحزبين السياسيين الرئيسيين في الولايات المتحدة المختلفين حول الحجم المثالي ودور الحكومة، اتفقا على الاهمية الكبيرة في دعم الابتكار. عندما حاولت ادارة ريغان خفض الانفاق الحكومي، على سبيل المثال، بقي الدعم الفيدرالي للبحث والتطوير كبيرا ولم يتغير. وحتى خلال فترة رئاسته الاولى، عندما اقترح دونالد ترامب ميزانيات تتضمن خفض تمويل البحث والتطوير، فأن المشرعين الديموقراطيين والجمهوريين اعادوا الاموال والتمويل، والحفاظ على نظام ابتكار وطني سليم. 

يبدوا ان الاستمرارية في نفس هذا التوجه اقل بكثير في فترة رئاسته الثانية. فالجمهوريين اختاروا التحالف مع الرئيس لخفض دور الحكومة وتقليص الميزانيات، ومن ضمنها الابتكار. والديمقراطيون، متأثرين بخسارتهم في الانتخابات، يبدوا انهم أكثر اهتماما بتمويل الاولويات الاخرى غير العلوم. فقط في الاشهر القليلة الماضية، مع اشراف محدود جدا من الكونغرس، انخفض التمويل الفيدرالي للابتكار بشكل حاد. الغت الادارة الاميركية حوالي ألف منحة مقدمة من قبل المعاهد الوطنية للصحة، الممول الوطني الاكبر للأبحاث الطبية، ومن المقرر ان يتم الغاء المزيد من المنح في المستقبل. وبلغت التخفيضات مستويات خطيرة حتى ان مختبرات الابحاث البيولوجية الممولة فيدراليا بدأت تقتل الحيوانات المستخدمة في ابحاث موضوعات مهمة مثل سلامة الادوية الجديدة وتأثير التلوث على العمال. وقد شهدت الجامعات البحثية الرائدة في البلاد تمويل فيدرالي مخصص لأمور لا علاقة لها بالبحث العلمي. 

كيفية تفجير خط الانابيب؟

لقد أدت هذه الفوضى التمويلية الى تعريض العنصر الرئيسي الثاني لنظام الابتكار الفعال للخطر بشكل خاص: الأشخاص. العلم هو مشروع مليء بالأمل ويتميز بالتأخير في تحقيق النتائج. العالم النموذجي، بعد الحصول على درجة البكالوريوس، يقضي أربع الى ست سنوات في تدريب الدكتوراه، يتبعها سنوات قليلة ما بعد الدكتوراه العمل بأجر زهيد.

عندما تنضب المنح، ينضب أيضًا حماس الأشخاص الموهوبين الذين يسعون الى الابتكار، منذ اخر شباط الماضي، اضطرت المختبرات الجامعية والحكومية، الغير متأكدة من تمويلها المستقبلي، الى تسريح العاملين. ويقع العبء الأكبر من هذا الغموض على عاتق العلماء الشباب. ويلوح الآن احتمال كارثي لضياع جيل من العلماء في الأفق، مهددًا نظام الابتكار في البلاد.

ما يزيد من حجم الخسارة هو عداء الحكومة الاميركية للأجانب، وخاصة الصينيين. ان نجاح نظام الابتكار الاميركي جعله يتعمد بقوة على المواهب المستوردة لتولي العمل الميداني في الابحاث والعلوم. لم تنتج المدارس العليا والجامعات الاميركية ما يكفي من العلماء الناشئين والمهندسين لرفد نظام الابتكار بالكامل. وللحفاظ على التفوق البحثي للولايات المتحدة، يتعين على البلاد استقطاب المواهب الأجنبية. في جامعة كاليفورنيا، سان دييغو، حيث يعمل الكاتب، حوالي 5 بالمية من خريجي البكالوريوس، و25 بالمية من طلبة الماجستير في الهندسة، و45 بالمية من طلبة برنامج الدكتوراه في الهندسة، هم ليسوا من مواطني الولايات المتحدة. وفي جميع أنحاء الولايات المتحدة، يأتي حوالي نصف طلاب الدراسات العليا في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات من بلدان أخرى؛ وفي الهندسة، يوجد ضعف عدد طلاب الدراسات العليا الأجانب مقارنة بالمواطنين الأمريكيين والمقيمين الدائمين.

يحتاج نظام الابتكار الاميركي الى أفضل المواهب الاجنبية، وحتى وقت قريب، كان يحصل ذلك. في عام 2023، صنفت دراسة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD  الولايات المتحدة كأكثر مكان جاذب لطلبة الجامعات الاجنبية للدراسة. ومن بين جميع الطلاب الدوليين في العالم، يأتي 15% منهم الى الولايات المتحدة، وهي النسبة الأكبر بين جميع دول العالم. والصين كانت الموّرد الأهم للمواهب العلمية للولايات المتحدة. وطوال العقد الاول من القرن الحالي، وخلال اي عام، درس تقريبا 400.000 من الطلبة الصينيين في الولايات المتحدة واغلبهم في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات بالمقابل درس 12.000 من العلماء الشباب الاميركيين والمهندسين في الصين. وخلال جائحة كوفيد-19 انخفض عدد الصينيين الذين استمروا بالدراسة في الجامعات الاميركية الى 300.000 ألف طالب. مع ذلك، ثمة دلائل تشير الى أن هذا التبادل الحيوي آخذ في التلاشي. فعلى سبيل المثال، يشهد التأليف المشترك للأبحاث في العلوم والهندسة بين العلماء الأمريكيين والصينيين تراجعًا بطيئًا منذ عام ٢٠٢٠.

تحتاج الولايات المتحدة الى تقليل اعتمادها على المواهب الصينية، في أي سوق، فإن الاعتماد المفرط على أي مصدر واحد للمواهب هو في أغلب الأحيان صفة لانعدام الأمن. لكن هذا الامر سيستغرق بضعة اجيال حتى يتم اعادة التوازن الى مساهمة الطلبة الصينين في الابحاث الاميركية. وفي الوقت نفسه، أصبح مضايقة المواطنين الصينيين، بما في ذلك العلماء، على الحدود الأميركية وفي المؤسسات أكثر انتشارا، وهي الظاهرة التي دفعت الأسر الصينية الى أن تكون أكثر حذرا بشأن إرسال أبنائها الى الولايات المتحدة. إن مثل هذا الامر سيكون بمثابة كارثة بالنسبة لجامعات الأبحاث الأمريكية ـ وهدية للجامعات المنافسة عالية الجودة التي تدرس باللغة الإنجليزية في أستراليا وكندا وهولندا والمملكة المتحدة. ويتبنى منافسي الولايات المتحدة وحلفائهم سياسات جديدة لجذب العلماء الاجانب، مثل تعزيز فرص العمل وتأشيرات الدخول. في غضون ذلك، تُكثّف إدارة ترامب جهودها للحدّ من التحاق الطلاب الدوليين بالجامعات الأمريكية، في الوقت الذي تعمل فيه إدارة ترامب على تكثيف الجهود للحد من تسجيل الطلاب الدوليين في الجامعات الأمريكية.

هدم الجدار

العنصر الرئيس الثالث لنجاح نظام الابتكار الاميركي هو قدرته على الوصول للأسواق الكبيرة. لان الابتكار يسعى الى تعزيز الانتاج مع مدخلات اقل، وانه يستفاد وبشكل دائمي تقريبا من الحجم. توفر الاسواق الكبيرة فرص كبيرة وبشكل تراكمي للابتكار الذي يجعل المنتجات أفضل من خلال التجربة. في مجال تكنولوجيا الطاقة النظيفة، على سبيل المثال، كانت عولمة الأسواق بمثابة حافز للتقدم. والابتكارات المبكرة في مجال الطاقة الشمسية، المدعومة من قبل الولايات المتحدة واليابان في مجال الطاقة الشمسية في سبعينيات القرن الماضي في محاولة لتقليل الاعتماد على النفط المستورد، ساعد في جعل الطاقة الشمسية قابلة للتطبيق في عدد قليل من التطبيقات المتخصصة، في العقد الاول من هذا القرن، دعم من الحكومة الالمانية (التي كانت حريصة على خفض الاعتماد على الطاقة النووية والطاقة المستوردة وبناء الصناعات المحلية مع خفض الانبعاثات أيضًا) اوجدت سوق كبيرة اخرى للطاقة الشمسية. ومع نمو الاسواق الالمانية والعالمية، قاد الابتكار لتوفير اداء أفضل للألواح الشمسية. وبعدها وصلت حدود صناعة الطاقة الشمسية الى الصين، حيث الابتكار الهائل في التصنيع قاد الى انخفاض التكاليف بشكل أكبر، وساهم في جعل الطاقة الشمسية أكثر تنافسيةً مع الفحم والغاز. على مدى عقود، سمح هذا النهج العالمي للألواح الشمسية، التي كانت في السابق تقنيةً هامشية، بأن تصبح أرخص وسيلة لتوليد الكهرباء في أماكن كثيرة. ولكن كما جسّدت صناعة الطاقة الشمسية فوائد الأسواق العالمية، فإنها تُظهر الضرر الذي يمكن أن يُلحقه الانكفاء والانعزال بالابتكار التكنولوجي. فارتفاع الرسوم الجمركية واختناقات سلاسل التوريد، الناتجة جزئيًا عن سياسات التجارة الفوضوية، تُؤدي الى ارتفاع تكاليف الطاقة الشمسية في الولايات المتحدة. ورغم أن سياسات نقل الطاقة إلى الداخل قد تُسهم في نهاية المطاف في زيادة إنتاج الطاقة الشمسية في الولايات المتحدة، إلا أنه حتى عام ٢٠٢٣، كان حوالي ٨٠٪ من المعدات المستخدمة في مشاريع الطاقة الشمسية الأمريكية مستوردة معظمها من الصين.

الآن يخشى المستثمرون الإلغاء التعسفي لمشاريعهم أيضًا: ففي نيسان الماضي، على سبيل المثال، أوقفت إدارة ترامب مشروع طاقة الرياح البحرية لشركة إكوينور العملاقة للطاقة في نيويورك، والذي كان قد تمت الموافقة عليه سابقًا. وبعد شهر، تراجعت عن القرار بعد أن ضغطت على ولاية نيويورك لمنح الضوء الأخضر لمشروع خط أنابيب غاز طبيعي غير ذي صلة؛ وبحلول ذلك الوقت، كان الضرر الذي لحق بمصداقية العقود الأمريكية قد وقع بالفعل. تعتمد الطاقة النظيفة على الاستثمار مما يفسر ان هذه المخاطر التي يتعرض لها المستثمرون، وفقًا لخدمة بلومبرغ للتتبع، هي سبب تأجيل أو تجميد نصف المشاريع المخطط لها لبناء مصانع لتكنولوجيا الطاقة النظيفة في الولايات المتحدة.

خسارة الارض: 

قد تكون المعارضة السياسية والقانونية المتصاعدة قادرة على التراجع عن العديد من سياسات الإدارة الاميركية الأكثر ضرراً. لكن الاشارة الى بقية العالم واضحة: ففي جميع المجالات، ولاسيما تلك الداعمة للابتكار، اصبحت الحكومة الاميركية بصورة مفاجئة اقل موثوقية. تحاول الحكومات الاوروبية الاخذ بهذا الواقع ليكون حافزا على الاصلاحات السياسية والاقتصادية، من ضمنها زيادة الانفاق الدفاعي، وسياسة طاقة نظيفة أكثر تنسيقاً واقل تكاليف، واتفاقيات تجارية قادرة على الوصول الى اسوق جديدة، وكل هذا من شأنه أن يجعل القارة الاوروبية أكثر قدرة على المنافسة.

في حين تعمل الولايات المتحدة على تقويض نظام الابتكار الخاص بها، تمضي الصين قدما في مسارها. في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، تبنت بكين استراتيجية للابتكار هدفت الى تحويل اقتصادها، ومنذ عام 2000، زادت من انفاقها الكلي على البحث والتطوير. واغلب التدفقات الاستثمارية كانت عبر المؤسسات المرتبطة بالدولة، لكن دور القطاع الخاص ايضا ازداد كذلك. وعند جمع مصدر التمويل الحكومي والخاص في الصين، بقيت الولايات المتحدة صاحبة الانفاق الاكبر في العالم على البحث والتطوير، لكن الصين استمرت تمضي قدما في زيادة تمويلها. في عام 2025، كاد ان يكون الانفاق الصيني على البحث والتطوير ان يفاجئ الولايات المتحدة للوهلة الاولى. في بداية عقد التسعينيات، لم تحتل برامج الجامعات الصينية اي مستوى في التصنيفات العالمية في أي مجال من مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. اليوم، وفقا لتقارير التصنيف الاميركية والعالمية، فأن ثمانية من اصل اعلى عشرة برامج هندسية هي في الصين.

يكشف العلماء الصينيون بالفعل عن المكان الذي يرون فيه مستقبلهم في الدراسات العليا: في وطنهم. على مدى عقدين مضت، وحوالي 95% من طلاب الدراسات العليا الصينيين الذين درسوا في الولايات المتحدة مكثوا فيها للحصول على أول وظيفة لهم بعد التخرج. أما اليوم، فقد انخفضت هذه النسبة الى حوالي 80%، ومن المرجح أن تنخفض أكثر، ربما بسرعة.

الصينيون بدوءا بالعودة الى البلد الذي تمكن اقتصاده من تحويل الابتكار الى انتاج. وكثير من المحللين الذين يدرسون الابتكار، انتقدوا الصين بسبب تركيزها على تحسين العمليات - على سبيل المثال، إيجاد طرق أكثر كفاءة لاستخدام الروبوتات على خطوط الإنتاج - بدلاً من اختراع مفاهيم جديدة تمامًا. لكن الابتكارات العملية ساعدت في تحويل مصانع السيارات والبطاريات الصينية إلى شركات رائدة عالميًا في هذه الصناعات، تمامًا كما حدث عندما بدأت صناعة الطاقة الشمسية في الصين في الازدهار. وهذه النجاحات الأقل شهرة تلعب دورًا رئيسيًا في جعل الاقتصاد أكثر إنتاجية، وهو أمر بالغ الأهمية في ظل ندرة العمالة الماهرة وارتفاع تكلفتها في الصين. علاوة على ذلك، تُعدّ هذه المفاعلات بمثابة حجر الأساس لتقنيات أكثر ثورية. على سبيل المثال، يُعدّ مُصنّعو المحطات النووية الصينيون روادًا عالميين في تحسين العمليات التي تُمكّن من بناء مفاعلات نووية بتكلفة منخفضة، على الرغم من أن الابتكارات الأصلية لمعظم المفاعلات التجارية الصينية تعود الى الولايات المتحدة. تبني الصين الآن مفاعلاتٍ أكثر من بقية دول العالم مجتمعة من خلال تطبيق هذه الابتكارات على نطاق واسع. واتضح أن الاقتصاد لا يهتم بمن كان أولًا، بل يهتم أكثر بمكان بناء التقنيات.

من المؤكد أن طفرة البحث والتطوير في الصين تواجه رياحًا معاكسة. ولكي يُحدث الابتكار تحولًا حقيقيًا في البلاد، يجب أن يكون الاقتصاد الأوسع في حالة جيدة. تسعى بكين إلى اعتماد إصلاحات لخفض ديون الاقتصاد الصيني الهائلة وفائض طاقته الإنتاجية، بما في ذلك من خلال تحقيق استقرار سوق العقارات الوطني، الذي أدت تعثراته إلى تآكل ثقة المستهلك. ومع ذلك، فإن المسارات المتباينة للصين والولايات المتحدة واضحة.

الفوضى هي السرطان

لم يتأخر الوقت لإنقاذ نظام الابتكار الأمريكي. لكن ذلك يتطلب جهودًا متضافرة من القطاعين العام والخاص. والجامعات توجه هجمة التخفيضات والتدخل الفيدرالي في برامجها البحثية. مع أن الثقة بالعلم لا تزال عالية بين المتعلمين تعليمًا عاليًا، إلا أنها أقل بكثير لدى بقية الجمهور الأمريكي. ولا يمكن للعلماء أن يكونوا المدافعين الوحيدين عن بعضهم البعض.

المشرعين الاميركيين لم يأخذوا الابتكار جديا على انه اولوية وطنية. فقط 7 بالمية من المشرعين داخل الكونغرس ينضمون الى مؤيدي التكنولوجيا المتقدمة، وهي الجماعة الوحيدة في الكونغرس التي ترسخ الابتكار. ومع ذلك، فان إحياء الدعم الحكومي للعلوم والتكنولوجيا يتطلب أكثر بكثير من مجرد زيادة عدد الأعضاء المؤيدين للابتكار والتكنولوجيا. وفي ظل غياب اي استراتيجية موثوقة لتقليل اعتماد الولايات المتحدة على الصين، فان الإجماع السائد المناهض للصين سيستمر في مكافأة السياسيين المعادين للاتصالات الأجنبية بدلاً من المديرين القادرين على تحقيق أقصى استفادة من تلك الاتصالات.

يجب على كلا الحزبين إثبات أن التمويل الفيدرالي للأبحاث ليس مجرد هواية حزبية، بل هو مصدر قوة اقتصادية وسياسية طويلة الأمد. وكان لعزوف قادة الحزب الجمهوري عن الانفصال عن ترامب للدفاع عن جهاز الابتكار الأمريكي أثرٌ بالغ، ولكن لا يزال أمامهم وقتٌ لتغيير مسارهم من خلال الاستماع أكثر إلى قادة الأعمال - الذين يجب عليهم أنفسهم تنظيم صفوفهم للدفاع عن قوة الاقتصاد على المدى الطويل، وليس فقط الدفاع عن أولويات قصيرة الأجل مثل التخفيضات الضريبية.

يجب على الراغبين في إنقاذ أجندة الابتكار الأمريكية ألا يرتكبوا نفس الخطأ الذي ارتكبه مهندسو العولمة. فالابتكار الناجح غالبًا ما يُسبب اختلالات في كيفية توزيع الغنائم، وعندما تشعر قطاعات مهمة من البلاد بالتخلف عن الركب، فقد تنقلب على الابتكار نفسه. وبينما يعمل قادة الولايات المتحدة على تعزيز الابتكار، يجب عليهم الاستجابة لهذه الاختلالات بإجراء تعديلات للحد من الدور الهائل للصين كمورد عالمي. في بعض الحالات، سيكون من الضروري فرض قيود طوعية منسقة بعناية على الصادرات، مثل البطاريات من الصين الى الولايات المتحدة والسيارات من الصين الى أوروبا. في الوقت نفسه، يجب على القادة الأمريكان أيضًا إيجاد سبل للحفاظ على الترابط الوثيق بين محركي الابتكار في الولايات المتحدة والصين، بما في ذلك من خلال تشجيع التعاون العلمي في مجالات آمنة من غير المرجح أن تثير مخاوف تتعلق بالأمن القومي - وهو أمر يُفضله بالفعل كبار العلماء الصينيين والأمريكيين.

تُحرز الصين تقدمًا كبيرًا في مجال الابتكار. في الوقت الحالي، لا تزال الولايات المتحدة رائدة العالم، بفضل جهاز الابتكار الاستثنائي الذي بنته بشق الأنفس منذ الحرب العالمية الثانية. ولن يكون الدفاع عنه سهلاً، وإن إعادة بنائه من الأنقاض سوف يكون أصعب.


رابط المقال الاصلي:

https://www.foreignaffairs.com/united-states/trump-killing-american-innovation

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية