لا شك ان الانتخابات المحلية التي اجريت في 18 كانون الاول من العام الماضي، كانت من اكثر الانتخابات جدلية من ناحية التعددية الحزبية والمنافسة السياسية، ولاسيما في البيئة الشيعية، فضلًا عن نسبة المشاركة السياسية وآلية احتساب نسبتها المئوية من قبل المفوضية العليا للانتخابات. إذ تنافست في البيئة الشيعية قوى الإطار التنسيقي بشكل منفرد، متمثلة بدولة القانون، وتحالف نبني، الذي يضم كل الفصائل الشيعية المسلحة باستثناء التيار الصدري، وتحالف قوى الدولة الوطنية، برئاسة السيد عمار الحكيم ورئيس الوزراء الاسبق السيد حيدر العبادي، فضلًا عن بعض القوى المدنية غير المؤثرة في الساحتين السياسية والجماهيرية. وعلى الرغم من الفوز الذي حققته قوى الإطار التنسيقي في انتخابات مجالس المحافظات بشكل عام، بالنسبة لمجموع عدد المقاعد التي حصلت عليها بالمجمل، بغض النظر عن المراتب التي لم تتصدرها في بعض المحافظات مثل البصرة وكربلاء وواسط، وكذلك العاصمة بغداد، إلا أنها عادت مرة أخرى إلى الاجتماع تحت مظلة تحالف الإطار التنسيقي مجتمعة، وهو التحالف الذي تشَّكل قبيل الانتخابات التشريعية الاخيرة، التي جرت في تشرين الاول عام 2021؛ لتعيد بذلك تجربتها السياسية التي استحوذت بموجبها على الحكومة، فضلًا عن السلطة التشريعية بعد انسحاب التيار الصدري، وعلى الرغم أيضًا من أن قوى الإطار التنسيقي حصلت في الانتخابات التشريعية الاخيرة على ضعف عدد الاصوات بالنسبة لما حصلت عليها في الانتخابات المحلية الاخيرة، إلا انها لم تعترض على نتائج الانتخابات الاخيرة، كما اعترضت على نتائج الانتخابات التشريعية، إذ اعتصمت وتظاهرت واتهمت المفوضية والانتخابات بالتزوير والتلاعب بنتائج الانتخابات، متهمة الولايات المتحدة الأمريكية والإمارات بالتدخل في تلك الانتخابات لصالح التيار الصدري أو ضد نتائجها "على اقل التقادير" على الرغم من ان عدد الاصوات التي حصل عليها التيار الصدري اقل بكثر من قوى الإطار التنسيقي مجتمعة. فلماذا يتسائل البعض عن اسباب ودوافع هواجس قلق قوى الإطار التنسيقي من نتائج الانتخابات على الرغم من فوزهم بالمرتبة الاولى بعدد المقاعد المحلية الاخيرة في العاصمة بغداد ومحافظات الوسط والجنوب؟
إذا ما استعرضنا مجموع الاصوات التي حصلت عليها قوى الإطار التنسيقي في انتخابات مجالس المحافظات في العاصمة بغداد ومحافظات الوسط والجنوب، نرى بأنها نسب متدنية جدًا، لا تعكس الادوات والقوة السياسية والعسكرية (الرسمية وغير الرسمية) والنفوذ والسلطة والإعلام، فضلًا عن الدعم الدولي والإقليمي، التي يمتلكها الإطار التنسيقي على مدار العشرين سنة الماضية، وهي بمثابة ضربة شعبية وجماهيرية كبيرة وجهتها القواعد الجماهيرية لهذه القوى بعد انتكاسة نتائج انتخابات تشرين عام 2021. إذ حصلت قوى الإطار التنسيقي مجتمعة مجموع ما يقارب (1,539,685) صوت في الانتخابات المحلية الأخيرة في عشرة محافظات بما فيها العاصمة بغداد. وهذه الارقام مقلقة ومخيفة بالنسبة لقوى الإطار التنسيقي، فعلى الرغم من التحشيد الجماهيري والحكومي والدعاية السياسية والانتخابية ووسائل الترهيب والترغيب والتلاعب بإرادة الناخبين من خلال المال ورشوة المجتمع، وتحشيدهم طائفيًا وحزبيًا واستغلال السلطة والدعم المالي والإعلامي، إلا أن النتائج جاءت عكسية وربما كارثية في بعض المحافظات، فكيف لمحافظة مثل بغداد التي تمثل الثقل الجماهيري بالنسبة لعدد السكان بما يقارب اكثر من 9 مليون، يمكن أن تحصل فيها كل قوى الإطار التنسيقي على (331,448) صوت، بما تمثله بغداد من عاصمة وثقل شعبي وحكومي ورمزي لقوى الإطار التنسيقي لأكثر من عشرين سنة ممسكة بالسلطة من رؤساء وزراء سابقين وقيادات وسلطة سياسية وحكومية ومناصب أمنية ودعم مالي... وغيرها من الادوات بمختلف مستوياتها، أي بنسبة 5% من اصوات سكان محافظة بغداد؟ والأكثر خطورة من ذلك "ولعل قوى الإطار مدركة لها" هل أن هذه النسبة المتدنية التي حصلت عليها قوى الإطار هي في الإساس تعبير عن دعم شعبي حقيقي، أم هي نتائج شكلية جاءت تحصيل حاصل لقانون انتخابي مفصل بشكل دقيق على مقاسات وامكانات قوى السلطة في عدم وجود منافسة حقيقية؟
فاذا ما رجعنا إلى اصل المنافسة الانتخابية في البيئة الشيعية، نرى بأن قوى الإطار التنسيقي تنافست فيما بينها انتخابيًا، فدولة القانون على سبيل المثال تنافست مع تحالفي نبني وقوى الدولة الوطنية، او بالعكس، وهكذا في اغلب المحافظات الشيعية، حتى في تلك المحافظات التي انشق محافظيها عن قوى الإطار كمحافظات كربلاء والبصرة وواسط. فضلًا عن ذلك، فان تلك النسب والاعداد المتدنية التي تحصلت عليها قوى الإطار التنسيقي، نصفها او اكثر من ذلك، تعود للتحشيد غير الحزبي وغير الولائي من مرشحين مستقلين من الوسط الاجتماعي والقبلي، اغلبها لها ثقل مجتمعي غير حزبي، استطاعت قوى الإطار أن تستثمر اصواتهم الجماهيرية لصالحها في ظل قانون يحتكم إلى مجمل أصوات الكيان قبل المرشحين كقانون (سانت ليغو المعدل)، بعيدًا عن الوعي السياسي والانتماء الحزبي والشعور بالمسؤولية الوطنية؛ لهذا فأن كثير من الاصوات التي حصلت عليها قوى الإطار التنسيقي، هي في الأصل أصوات دخيلة لا تمثل القاعدة الجماهيرية للإطار، بقدر ما تمثل الشخصيات غير الحزبية التي رشحت مع قوى الإطار، أو غيرها من الاسماء التي لها ثقل اجتماعي وعشائري، استطاعت تلك القوى استثمارها في إطار حملتها الانتخابية، فضلًا عن المال الانتخابي والمنافسة غير العادلة مع بعض القوى التي تنافست مع قوى الإطار في البيئة الشيعية. بموازاة ذلك، فأن الكثيرون يعتقدون بأن النصف الاخر من الأصوات التي تحصلت عليها قوى الإطار التنسيقي، هي في الأصل، لا تعكس اي دعم أو قبول شعبي جماهيري حقيقي، بقدر ما هي نتيجة طبيعة لرشوة المجتمع والتعينات الحكومية والمرتبطين والمستفيدين بشكل مباشر من السلطة وعوائلهم سواء في الاجهزة الامنية، ولاسيما في الحشد الشعبي والجهات المستفيدة من الرعاية الاجتماعية وموظفين حكوميين.
فضلًا عن ذلك، لعل قوى الإطار التنسيقي ينتابها القلق كذلك بثلاث قضايا مهمة، الاولى تتعلق بطبيعة ازاحة المحافظين الذين حققوا النصف أو النصف زائد واحد في محافظاتهم من مجموع القواعد المخصصة، واستبدالهم بمحافظين آخرين من داخل قوى الإطار التنسيقي، وهو امر قد يعود للأذهان الطريقة أو المنهج الذي اتبعته قوى الإطار التنسيقي في عملية تشكيل الحكومة الحالية والانقلاب السياسي الذي سلكته تلك القوى في صراعها ضد التيار الصدري الذي فاز بأكثر من 73 مقعد في انتخابات تشرين الاول عام 2021، وما يمكن أن يتسبب به من احتجاجات شعبية مؤيدة للمحافظين الفائزين، ومدى انعكاس ذلك على الاستقرار النسبي الذي تتمتع به حكومة السيد السوداني. أما الثانية، فتتعلق بمخاوف الإطار من ابقاء المحافظين الفائزين، ولعل طبيعة المخاوف هنا تتضاعف بشكل أكبر؛ لأن الإطار يخشى من تمدد المحافظين الفائزين بشكل أكبر؛ مما يخلق لهم منافسين شرسين بشكل كبير على المستوى السياسي والانتخابي في الاستحقاقات الانتخابية التشريعية القادمة، ولاسيما أذا ما تزامنت تلك الاستحقاقات مع عودة التيار الصدري؛ مما ينعكس سلبًا على نتائجهم الانتخابية، اذا ما قورنت بنتائجهم الحالية. أما على المستوى الثالث، فأن مخاوف الإطار تتعلق كذلك، بالمحافظات التي يديرها محافظين تابعين سياسيًا للتيار الصدري، ولاسيما محافظتي النجف وميسان وطبيعة تغييرهم؛ الامر الذي يضع الحكومات المحلية مستقبلًا تحت طائلة الاحتجاج الصدري، ولاسيما مع التحفظات الشعبية الكبيرة على عودة تلك المجالس للواجهة مرة أخرى، وتجاربها السيئة في إدارة المحافظات في السنوات السابقة التي سبقت انتفاضة تشرين. بالإضافة إلى تلك المخاوف، فالإطار نفسه قلق من طبيعة استئناف عمل تلك المجالس وكيفية إدارته للمحافظات التي يسيطر على مجالسها، ومدى الانسجام او الاختلاف بين قواه وطبيعة تقاسم إدارة المحافظات، إذ كانت تجربة الإطار السابقة في إدارة هذه المحافظات "قبل تعليق مجالسها"، فاشلة تمامًا؛ لتصبح أحد مغذيات الغضب الشعبي الذي أعلن عن نفسه واضحًا وقويًا في احتجاجات تشرين.
بموازاة ذلك، قد تعتقد قوى الإطار التنسيقي، بأن طريقتها في الالتفاف على القوى الفائزة، ذكاء وحيلة سياسية، قد تسعفها في كل مرة، وتمكنها من تشكل الحكومات على المستويين الوطني والمحلي بنجاح، كما حصل في تشكيل الحكومة الحالية ومنع الصدريين من تشكليها، إلا أن هذا الاعتقاد بالتأكيد واهم ولا يمتلك اي اسس ومقومات منطقة وواقعية يمكن أن تبني دولة قوية أو أن تقود إلى استقرار سياسي مستدام؛ لأن القوة مفهوم مركب من عدة عناصر، فلا يمكن الاعتماد على القوة الميدانية في ظل غياب الدعم الشعبي، او في ظل الاعتماد على ادوات غير ديمقراطية وغير قانونية، فالانتخابات، آلية من آليات الديمقراطية، والديمقراطية في الأصل مبادئ ومؤسسات وآليات وقانون انتخابي، فلا يمكن اختزال الديمقراطية في عملية انتخابية عرجاء، فالكثير من الدول توجد فيها انتخابات، لكنها تفتقد فيها روح الديمقراطية. لهذا فأن هذا الاعتقاد والالتفاف على الديمقراطية ونتائج الانتخابات، ربما تكون السبب الأكبر في تفسير العزوف الانتخابي، منذ انتخابات 2010 ومنع القائمة العراقية برئاسة السيد اياد علاوي من تشكيل الحكومة أنذاك، وحتى الانتخابات الاخيرة. ولعل تدني نسب المشاركة الانتخابية تكشف مدى الانفصال الغاضب والمشروع للمجتمع عن السياسة بصورتها العراقية القائمة على الإقطاعية الحزبية والطائفية السياسية والمحاصصة والنهب لموارد الدولة، وهي أشياء كثيرة وخطيرة، ينبغي أن تقلق زعماء النظام السياسي الذين تصدروا مشهد السياسة والحكم منذ إطاحة نظام صدام في 2003. لكن حتى لآن لم تظهر علامات القلق على قوى الإطار التنسيقي الحاكم، الذي خاض الانتخابات بعدة قوائم متنافسة حازت، مجتمعةً، على أغلبية المقاعد في محافظات الوسط والجنوب، إذ سارع زعماؤه إلى التصرف كمنتصر مبتهج يهمه تأكيد انتصاره وحصد نتائجه، عبر اجتماعهم وتشكيلهم الجامع في طبيعة إدارة المحافظات وتقاسمها، والالتفاف على القوى الفائزة الاخرى، دون النظر في حجم المقاطعة الشعبية للانتخابات وحالة الاغتراب التي يعانيها النظام السياسي القائم، وما يمكن أن تتسبب به تلك المقاطعة على مستقبل النظام السياسي.