من المُرجح أن تصبح الظواهر المناخية الحادة تكرارا في العراق وفي كافة أنحاء منطقة الشرق الأوسط. فدرجات الحرارة في الشرق الأوسط، وهي إحدى المناطق الأكثر تأثراً بتغير المناخ، ترتفع بسرعة تعادل ضعفي ما هي عليه في بقية أنحاء العالم. وتداعيات هذه الأوضاع وخيمة، ومنها النقص الحاد في إمدادات المياه، والانكماش الكبير في رقعة الأراضي الزراعية، والانقطاعات واسعة النطاق في التيار الكهربائي
حذر العلماء في اواسط ثمانينيات القرن الماضي من أن الإحترار العالمي يجري بما يتجاوز الامكانيات الطبيعية وأن هذا يعود في جزء كبير منه للأنشطة البشرية ولزيادة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري ذات المنشأ البشري. وتحقق في وقت قصير توافق آراء دولي يدعو الدول الى القيام بوضع اتفاقية ملزمة قانوناً تعنى بتغير المناخ تتناول انبعاثات غازات الاحتباس الحراري التي لا يغطيها نظام حماية طبقة الأوزون (اتفاقية فيينا لحماية طبقة الاوزون لعام 1985 )، وبروتوكول مونتريال المتعلق بالمواد المستنفدة لطبقة الاوزون لعام 1987 .وتوالت المفاوضات والبرامج والمؤتمرات الاممية والدولية التي اشترك فيها أكثر من 140 دولة واستغرقت أقل من سبعة عشر شهراً، انتهت من وضع اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية المتعلقة بتغير المناخ وفـُتح باب التوقيع عليها في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية في الفترة من 4 الى 14 حزيران/ 1992، ثم في مقر الأمم المتحدة في نيويورك حتى 19 حزيران/ 1993 .وبحلول ذلك التاريخ، وقع على الاتفاقية 165 طرفاً، ودخلت حيز النفاذ في 21 آذار/ 1994 .وتتمتع الاتفاقية الإطارية بعضوية عالمية شاملة تقريباً، فقد بلغ عدد الدول حسب وثائق التصديق المودعة 192 وثيقة (حالة الاتفاقية بتاريخ 26 آب/ 2008.)
يعد العراق اكثر الدول هشاشة لتغير الُمناخ في الشرق الاوسط والذي من المتوقع ان تكون تأثيراته المستقبلية كبيرة على المجتمع العراقي، اذ واجه العراق وسيواجه تحديات حقيقية وفريدة نتيجة الزيادة الملحوظة في المعدلات السنوية لدرجات الحرارة والتناقص المضطرد في المعدلات السنوية لهطول الامطار وظواهر متطرفة نتيجة التغير المناخي، وهو ما يؤكد بأن تكون تأثيرات تغيرات المناخ ملحوظة على قطاعات المياه، الزراعة، الصحة، والتنوع البيولوجي نظرا لهشاشة التركيبة بجانب غياب القدرة المؤسسية والتقنية وغيرها من التدابير اللازمة لمواجهة الاثار وتقليل المخاطر المتعلقة بتغير المناخ.
جاء ذلك في " وثيقة المساهمات المحددة وطنيا تجاه الاتفاق الجديد لتغير المناخ " التي اصدرتها الحكومة العراقية في تشرين الثاني 2015. تركز وثيقة المساهمات المحددة وطنياً على الحد من انبعاثات القطاعات الرئيسة المستهلكة للطاقة (النفط والغاز والكهرباء والنقل). حدد العراق عددا من القطاعات مثل الصناعات غير النفطية والزراعة والنفايات الصلبة والقطاع السكني كنقاط بداية لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العراق. وهو ما ينطبق على قطاع الطاقة ايضا، واتخذ العراق خطوات لتقليل انبعاثات الكربون عبر اصدار قوانين البناء الخضراء والذكية واصدار قانون للطاقة الشمسية، وتشغيل محطات طاقة جديدة تستخدم الغاز الطبيعي بدلا من زيت وقود الزيت الثقيل، ووفقا لوثيقة المساهمات المحددة وطنيا، يستخدم عدد من المشاريع الحالية تطبيقات صناعية لتحويل النفايات الى طاقة، وفق ما اشارت له تقارير دولية. كذلك سيسعى العراق الى خفض إنبعاثاته بنسبة 14 % من حجم الانبعاثات الكلي المتوقع في عام 2035 في حالة الاعتماد الكلي على مصادر الوقود الاحفوري مع تحقيق زيادة بالعمل المعتاد في مجمل الاستثمار في قطاع الطاقة الكهربائية بحلول عام 2020 لضمان الحصة الكافية للفرد العراقي من الكهرباء. وفيما بعد تم رفع سقف خط الاساس للعمل لمقدار النصف ابتداءً من عام 2020 وذلك للسماح بتنمية قطاع الكهرباء لتجهيز الكهرباء للمواطنين بشكل مستمر خلال اليوم. كما اكدت الوثيقة ان العراق ينوي ان يطرح 14% من العمل الكلي للاستثمار في قطاع الطاقة النظيفة والمتجددة وادارة الكاربون ابتداءً من عام2020 ولغاية 2035.
لغاية الان الحكومات لم تبذل الجهود الكافية وفقا للالتزامات اعلاه، الواردة في وثيقة المساهمات الوطنية الا الشي القليل. اذ تبنى العراق مبادرة " الوقف التام للحرق التلقائي للغاز بحلول عام 2030 " التي أطلقها البنك الدولي، والتزم بعدم حرق الغاز المصاحب لعملية استخراجه في أي من حقول النفط الجديدة والقضاء على هذه الممارسة في الحقول الحالية بحلول عام 2030، ايضا وافقت الحكومة العراقية في عام 2018 على إطار عمل جديد لسوق الغاز الطبيعي يتضمن اجراءات تعاقدية وتنظيمية لجذب القطاع الخاص نحو الاستثمار في تحويل الغاز الى طاقة. الا ان هذا الإطار لم ينفذ على الرغم من الموافقة عليه، وبدلا من ذلك، لجأ العراق الى مفاوضات غير فعالة بشأن المقترحات غير المرغوبة غالبا للمستثمرين، والتي لم تترجم بأكثر من خطابات ومذكرات تفاهم.
على مستوى ندرة المياه، وضعت استراتيجية موارد المياه والاراضي في العراق تصورا لأنفاق 175 مليار دولار امريكي في هذا القطاع على مدى 20 عام، لكن لم يتم توفير التمويل اللازم، بسبب انخفاض اسعار النفط عام 2015 بالتوازي مع الكلفة المرتفعة للحرب ضد تنظيم داعش الارهابي.
لا تتوافق خطط العراق للتنمية مع معالجة التغير المناخي، وعلى الرغم من مخاطر تغير المناخ المحدقة بالعراق، يبدوا واضحا ان التكامل والتنسيق بين اولويات التنمية والاجراءات المناخية مفقودة في ظل غياب أي اشارة مباشرة وجوهرية لتغير المناخ واثاره او فرصه في اطر العمل الرئيسة التي تركز على التنمية في العراق، على غرار رؤية 2030 الصادرة عام 2019، وخطة التنمية الوطنية 2018، والورقة البيضاء التي اصدرتها الحكومة السابقة. كذلك يؤشر عدم الوضوح في الادوار والرسائل بآثار تغير المناخ واجراءات التصدي لها.
تحديات تغير المناخ تختبر الاداء الفعال للحكومة ككلّ، ومن ضمنها القدرات على مستوى المحافظات التي تعاني بالفعل من عدم الاستقرار والهشاشة.
العراق لديه أعلى معدل نمو سكاني سنوي في المنطقة بنسبة 2.8٪، وتبلغ نسبة عدد السكان الذين هم في سن العمل نحو 57٪. ويبين تقرير تحليل السكان الصادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان أن الهجرة المستمرة في العراق أدت الى توزيع غير متوازن للسكان حيث يعيش ما يقرب من 70٪ من السكان في المناطق الحضرية، مما يؤثر سلبًا على التنمية الزراعية.
من المُرجح أن تصبح الظواهر المناخية الحادة تكرارا في العراق وفي كافة أنحاء منطقة الشرق الأوسط. فدرجات الحرارة في الشرق الأوسط، وهي إحدى المناطق الأكثر تأثراً بتغير المناخ، ترتفع بسرعة تعادل ضعفي ما هي عليه في بقية أنحاء العالم. وتداعيات هذه الأوضاع وخيمة، ومنها النقص الحاد في إمدادات المياه، والانكماش الكبير في رقعة الأراضي الزراعية، والانقطاعات واسعة النطاق في التيار الكهربائي.
وتنطوي جسامة هذه الآثار على تحديات متعددة الأوجه للهشاشة، بل إنها قد تخلق الظروف التي تؤدي الى الصراع والعنف. ووفقاً لتقرير التهديد الإيكولوجي لعام 2021 الذي نشره معهد الاقتصاديات والسلام، فانه غالباً ما يوجد ترابط بين الضعف البيئي والهشاشة، إذ أن 16 من البلدان العشرين الأشد تأثراً بتغير المناخ، هي أيضاً الأكثر تأثراً بمخاطر الهشاشة. وبالتالي، فإن المناخ تعاني في الوقت الحالي من اعمال عنف. وفي أوضاع الهشاشة هذه، قد يصبح التدهور البيئي عاملاً مُضاعِفاً للمخاطر، ويؤدي الى اشتداد النزاعات الحالية، بل قد يصبح بمثابة السبب المباشر لنشوب نزاعات جديدة. وفي منطقة الشرق الأوسط الكبير، أصبحت المياه ثاني أبرز أسباب الصراع، بعد الوقود الأحفوري والطاقة.
تغير المناخ نادراً ما يُسبِّب الهشاشة أو الصراع بشكل مباشر. بل ان العديد من آثاره غير مباشرة، إذ تؤدي الى تفاقم المخاطر القائمة أو تفتح سبلاً جديدة تفضي الى الهشاشة. ويُقدم تقرير المناخ والتنمية الخاص بالعراق رؤى وأدلة وشواهد جديدة حول السبل التي يُؤثر بها تغير المناخ على مخاطر الهشاشة والصراع.
أولاً، يُجبر شح المياه الأسر أو مجتمعات بأسرها على الهجرة، والتخلي عن موارد رزقها، والانتقال إلى مناطق حضرية بحثاً عن فرص العمل والدخل. وتتأثَّر بشدة الأسر التي تعتمد على الزراعة، إذ يؤدي نقص المياه إلى ضعف المحاصيل، ونقص الأمن الغذائي، والتلوث، ومخاطر صحية أخرى.
ثانياً، يؤدي تغير المناخ إلى ترسُّخ أوضاع الفقر، وهو الأمر الذي يسهم في الهشاشة. وفي السيناريو المحتمل لانخفاض نسبته 20% في إمدادات المياه، يتوقع تقرير المناخ والتنمية الخاص بالعراق (2022) أن تزيد أسعار الاستهلاك أكثر من 13%، فتؤدي الى زيادة في معدل الفقر بما يتراوح بين 1.6 و4.4 نقطة مئوية. وقد تبدو هذه الأرقام متواضعة على المستوى الوطني، لكن آثارها على المجتمعات المحلية ستكون كبيرة. وبقدر ما تؤدي الاستجابات الحكومية غير الكافية، نحو الصدمات البيئية، الى تفاقم أوضاع الفقر، والحرمان الناجم عن تغير المناخ، سيكون السخط الاجتماعي والحشد المجتمعي من التداعيات المحتملة.
ثالثاً، قد يعجل تغير المناخ، بما له من آثار عميقة على أسواق العمل، حدوث تحوُّل في العقد الاجتماعي في العراق. وكما ورد في تقرير المناخ والتنمية الخاص بالعراق، مازال القطاع الزراعي ثاني أهم مَصدر لفرص العمل والتوظيف للفقراء بعد قطاع الإنشاءات، وذلك على الرغم من تدني دخوله. ومع ذلك، سيتحمل القطاع الزراعي وطأة آثار تغير المناخ، إذ ان شح الموارد المائية المتوقع سيُقلص الطلب على الأيدي العاملة غير الماهرة بنسبة 11.5% في الأمد المتوسط. وفي غياب التحّمل في سوق العمل، الذي يُتيح فرصاً اقتصادية خارج القطاع العام، فان هذه التطورات قد تجعل الكثير من الأسر بدون أي شكل من أشكال الحماية الاجتماعية، أو فرص الترقي الاجتماعي الى أعلى.
تتزامن هذه التطورات مع تحولات في قطاعات أخرى من سوق العمل. ويُشدِّد تقرير المناخ والتنمية الخاص بالعراق على أن التحول العالمي الأوسع بعيداً عن استخدام الوقود الأحفوري، سيؤدي الى تراجع الطلب على صادرات النفط العراقي في نهاية المطاف. ولأن العائدات النفطية تُمثِل أكثر من 90% من إيرادات العراق، وتُمول القطاع العام واسع النطاق في البلاد، فان الضغوط العالمية للحد من الانبعاثات الكربونية ستؤدي في النهاية الى تقليص الموارد المتاحة للتوظيف في القطاع العام.
يُحدد التقرير برنامج استثمارات بقيمة 233 مليار دولار حتى عام 2040 وكذلك مجموعة من التوصيات على مستوى السياسات لإدارة التحول الى اقتصادٍ منخفض الانبعاثات الكربونية، وقادر على الصمود، واتباع إطار البنك الدولي للتنمية الخضراء القادرة على الصمود والشاملة للجميع.
على الحكومة العراقية الحالية والقادمة تخصيص الدعم بشأن التخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معه، وذلك من خلال تصميم مشاريع مستدامة تركز على خلق سبل لكسب العيش والتنمية على المدى المتوسط والطويل الأجل، والتي من شانها تعزيز الاستثمارات في البنية التحتية في كفاءة المياه والصرف الصحي والري وإدارة استهلاك المياه، وكذلك استخدام الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية. فضلا عن التدريب وتنمية المهارات وتعزيز القدرة على التصدي لتغير المناخ، وزيادة الوعي العام بمواضيع استهلاك المياه والإدارة المستدامة للمياه.
نعم ان وثيقة المساهمات المحددة وطنيا ليست ملزمة التنفيذ من قبل العراق تجاه التزاماته الدولية، الا انها تضمنت مجموعة من الاجراءات والخطوات والتوصيات بشأن التعامل والتكيف مع التغير المناخي، ونرى ان تكون هذه التوصيات محل اهتمام على المستوى التنفيذي. كذلك يحتاج العراق الى اعطاء الاولوية لقدراته البشرية والمؤسسية، ولاسيما من منظور السياسة والتخطيط والرقابة التنظيمية ومرونة المالية العامة، وان يكون التغير المناخي والتحديات التي يفرضها جزء اساس من اية خطة واستراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وحتى الامنية.
اضافةتعليق