عندما طرح دارون نظريته المشهورة حول التطور والارتقاء مستندا فيها الى قانون البقاء للأصلح أو الأقوى، ظن الكثيرون انه كان يقصد بالأقوى هو الاقوى عضليا او عسكريا او ما شابه ذلك من مظاهر القوى الخارجية، ولكن قلة من الباحثين فهموا تماما ما كان يقصده، فالرجل ركز مفهومه للقوة على قاعدتين: القاعدة الأولى، هي قاعدة التكيف، فيكون الأقوى بموجبها هو الأقدر على التكيف مع الظروف المتغيرة، أي كانت هذه الظروف، وهذه القاعدة تقترب تماما من نظرية التحدي والاستجابة الحضارية التي طرحها ارنولد توينبي، فالتغيير هنا يمثل التحدي الذي يعترض سبيل الانسان وبقية المخلوقات على وجه الأرض، والتكيف يمثل طريقة استجابتها وتعاملها معه، والتي ستحكم على قدرتها في البقاء والتطور والارتقاء او الزوال والفناء. وبموجب قاعدة التكيف تكون النملة التي دعت سكان قريتها الى الاختفاء بدخول مساكنهم عند اقتراب جيش سليمان أكثر قوة من الأسد الذي يدعو فصيله الى اعتراض هذا الجيش ومواجهته، فتكيف النملة مع أمر حتمي الحدوث كان كفيلا بحفظ بقائها واستمرار تطورها وحماية قريتها (مستعمرتها) لذلك هي الأقوى في معركة التطور والبقاء، أما الأسد الذي يتعامل مع الموضوع من منطلق مكابرة خادعة وقوة ظاهرية مستندة الى تقاليد متوارثة لدي بني الأسود فأنه بدون ادراك سيكون هو الأضعف في هذه المعركة، وللأسف سيحكم برد فعله هذا على نفسه وفصيله بالاضمحلال والهلاك، فالأقوى في معركة الحياة ليس اكثر الكائنات قوة، بل اكثرها قدرة على التكيف، فقديما هلكت على وجه الأرض اكبر الكائنات حجما وأكثرها قوة وشراسة وهي الديناصورات، واستمرت اصغرها حجما وأقلها قوة وهي الفايروسات، بل وتطورت الاخيرة لتكون في مطلع القرن الحادي والعشرين اكبر تهديد صحي عالمي يزلزل استقرار البشرية السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فلاحظ عزيزي القارئ أهمية قاعدة التكيف ودورها المحوري في تحديد من هو القوي الحقيقي ومن هو الضعيف الحقيقي بين المخلوقات.
وقاعدة التكيف، كما لاحظ البعض لا تستغني ولا تنفصل عن قاعدة أخرى، لا تقل عنها أهمية، الا وهي قاعدة التعاون المتبادل، فعندما يبدأ أي نوع من الكائنات الحية، ومنها الانسان بالتكيف مع تحدي التغيير، سيكون بحاجة الى التعاون المتبادل بين افراد نوعه لتحقيق التكامل فيما بينهم، وتهيئة كافة متطلبات الانتقال الآمن من مرحلة التكيف للوصول الى المرحلة التالية، فيتحول التكيف من نشاط فردي محدود الى نشاط جماعي واسع، فتقصر مدة التكيف والانتقال، لاسيما ان من يؤمن بضرورة التكيف عليه ان يكون مؤمنا تماما بضرورة التعاون المتبادل للتعامل مع حتمية التغيير. لكن ما يصيب مرحلة التكيف بالتعثر ويخلق بوجهها العقبات، ويضرب قاعدة التعاون المتبادل عرض الحائط، هو الجمود والانطواء على القديم المتوارث لدى البعض، ممن لا يؤمن بحتمية التغيير، معتقدا أن الدفاع عن الحصون القديمة بواسطة أقسى درجات الخطاب المتصلب وآليات القوة المجردة سيكفل له الفوز والنجاح، الا ان هذا الشكل من الاستجابة للتغيير، لم يثبت عدم جدواه فقط، بل اثبت ضرره أيضا على أصحابه أنفسهم، وعلى عملية التكيف المقتدر في التعامل مع التغيير، فغالبا ما ارتكزت هذه الاستجابة الى قاعدة القطيعة والصدام بين الافراد، والمواجهة بين مصالح قديمة لا تريد ان تتطور فتنفتح آفاقها، ومصالح جديدة أصبحت اكثر قوة واستعدادا للمواجهة لإثبات قدرتها ووجودها، فيخسر البشر، وكل مخلوق غيرهم نتيجة هذه المواجهة الكثير من الأمور التي كان تجنبها ممكنا لو تم احترام قاعدتي التكيف والتعاون المتبادل.
الثورة الفكرية الحديثة واختراع المطبعة والآلة البخارية
على الرغم من أن التغيير الفكري في أوروبا الحديثة بدأت ملامحه مع حصول حركة الإصلاح الديني فيها في القرن السادس عشر كرد فعل على هرطقة الكنيسة الكاثوليكية وبيعها لصكوك الغفران ومعاداتها للعقل والعلم واحتكارها المعرفة وابتداعها محاكم التفتيش وغيرها من الأمور، الا أن هذه التطور بصورته المؤثرة ما كان له ان يحصل لولا التطور التكنلوجي الذي احدثه اختراع آلة الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر، والمحرك البخاري في مطلع القرن الثامن عشر، فاختراع آلة الطباعة قلل تكاليف النشر والتوزيع، وكسر احتكار الكنيسة للمعرفة واتاح للمفكرين وقوى المعارضة الاجتماعية فرصة ثمينة للوصول الى جمهور عريض من القراء والتأثير في الرأي العام الأوروبي، وكشف مشاكل واقعه وتطلعات مجتمعه نحو واقع جديد أفضل منه وأكثر عدالة. اما اختراع المحرك البخاري فأنه أحدث ثورة في وسائل وعلاقات الإنتاج، وفتح الطريق لظهور المصانع الكبيرة التي ستحل شيئا فشيئا محل الاقطاعيات الزراعية في استقطاب العمال وقيادة حركة الاقتصاد في البلدان الأوروبية. ان تطور التعليم والاقتصاد كان عاملا مؤثرا وحاسما في تطور المجتمع ومطالبته بتغيير وتطوير سلطاته التقليدية الحاكمة (الدينية، والسياسية، والارستقراطية).
لقد كانت طبول التغيير تدق في معظم الساحات الأوروبية منذرة بتبدل المصالح والطبقات والتنظيمات والعلاقات، وكانت مفردات: الحرية، والعدالة الاجتماعية، والفردية، والعقل، والقانون الطبيعي، والعقد الاجتماعي، والديمقراطية، ومصدر الشرعية السلطة والسيادة، والفصل بين السلطات، والتمثيل الشعبي، والاشتراكية، والقومية وغيرها، ليست مجرد أفكار يطرحها مفكرون حالمون، بل هي حركة احتجاج وتمرد واسعة على واقع وصل الى نهاياته الحتمية بضرورة التغيير، لكن ما لم تدركه السلطات التقليدية هو ان بيع صكوك الغفران ومحاكم التفتيش واحتقار العلم واحتكار المعرفة لدى السلطة الدينية لم يكن يقل قبحا عن مقولة الدولة أنا لدى السلطات السياسية، وقاعدة الليلة الأولى لدى الاقطاعيات الارستقراطية، الا ان هذا الواقع المتردي والمتسافل لم يكن يثير هذه السلطات، ولم تدرك حقيقة ان التغييرات السياسية الكبرى ما هي الا محصلة نهائية لتغييرات اقتصادية واجتماعية وثقافية اكبر، ولكن مع الأسف السلطات التقليدية اختارت تجاهل هذه الحقيقة بالتركيز على مصالحها الضيقة من خلال الاعتراض العنيد على أي تغيير سياسي، معتقدة انها بفعلها هذا ستمنع مسار التطور وتجهض تطلعاته، وبدلا من ان تتكيف مع التغيير وتتبادل التعاون مع قواه المحركة لفهمه وتهذيبه والتكامل معه، فإنها اعترضت طريقه مستعملة كل أدوات القمع المتعارفة من النصوص المقدسة والحقوق الاجتماعية المتوارثة الى قطع الرؤوس وحرق الأجساد وكتب المعرفة، فخلقت بيئة صدامية شديدة بين جديد اصبح حتمي الحدوث، وقديم فشل في الاستجابة الإيجابية له، وهذا ترتب عليه سيل من الدماء خلفتها حروب دينية شرسة وصراعات اجتماعية شديدة وصلت في بعض محطاتها الى قطع رؤوس الملوك والاقطاعيين والقساوسة وتغيير العبادة في بعض الكنائس من عبادة الرب الى عبادة آله مبتدع هو العقل، بل وظهرت مطالبات فكرية بإلغاء كل سلطة متوارثة من سلطة الاسرة الى سلطة الدولة...فشراسة مقاومة التغيير انتجت تطرفا وشراسة اشد من قبل القوى المطالبة به، وهذا الامر ترك تأثيراته على القيم والأخلاق وقواعد السلوك والعلاقات والتنظيمات الاجتماعية المختلفة، الا ان كل الالام التي حصلت نتيجة الدفاع عن المصالح التقليدية لسلطات لم تستوعب ما يحصل من تغييرات في الواقع لم تمنع الوصول الى النهاية المحتومة بحصول التغيير فتم عزل مركز السلطة الدينية في روما بمساحة تقل عن النصف كيلو متر مربع وانتزعت منها معظم سلطاتها، وتحويل السلطات المطلقة لملوك القرون الوسطى الى سلطات بروتوكولية شكلية لا قيمة لها، حتى ان ما تبقى منها في بعض البلدان توجد حاليا مطالبات بإلغائها لكثرة نفقاتها وعدم الحاجة اليها، ولم يعد لسلطات الامراء الاقطاعيين من وجود بعد ان اضطروا في مراحل انتكاسهم الى بيع القابهم الارستقراطية نفسها، وها هي أوروبا الحديثة، لم تكتف بتغيير واقعها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، بل انها اطلقت موجات التغيير للعالم اجمع من الشرق الى الغرب، ومن الشمال الى الجنوب؛ لأنها وجدت شعوبا ومجتمعات تحمل استعداد مشابه لغرس بذور التغيير والتبشير بها، نتيجة واقعها المتردي أيضا. نعم لم تكن أوروبا موفقة دائما في تعاملها مع بقية شعوب العالم، وكانت مصالحها واحكامها المسبقة في مقدمة أولوياتها، ولكن ليس هذا ما يعنينا هنا، بل ما يعنينا هو ان النتيجة النهائية كانت هي: ان أوروبا القديمة زالت من الوجود ولم تستطع الوقوف بوجه قوى التغيير التي انتجت أوروبا الحديثة والمعاصرة، ولن تتوقف هذه المسيرة، بل سيكون في رحم كل تغيير يحقق انتصاره، تغييرا جديدا يريد الانقلاب عليه والتقدم من خلاله الى الامام.
الثورة الفكرية المعاصرة واختراع الانترنيت
لا يقل ما يفعله اختراع الانترنيت (الشبكة الدولية للمعلومات) في وقتنا الحاضر عما فعله اختراع آلة الطباعة والمحرك البخاري سابقا، فاذا كسر اختراع الطباعة والمحرك البخاري حدود العلم والطبقات، وكشف واقع المآسي التي تعيشها الشعوب تحت ظل سلطاتها السائدة أنذاك، وجعلها تحلم بالخلاص منه بإنتاج واقع جديد أكثر إنسانية حتى لو كان الثمن التورط في ممارسات بربرية عنيفة في بعض الأحيان، فان اختراع الانترنيت كسر بشكل أكبر احتكار السيطرة على الافراد من قبل مؤسساتهم التقليدية: الاسرة، المؤسسة التعليمية، المؤسسة الدينية، النظام الحاكم...بل وكسر احتكار المعلومات بجميع صورها من المعلومات ذات القيمة العالية الى المعلومات المبتذلة والسطحية، ونقل الافراد من فضائهم الوطني المحدود الى فضاء عالمي يتشاركونه مع جميع البشر في الأرض. وعليه، فما يحصل من تطور تكنلوجي بسبب الانترنيت والفضاء الالكتروني وثورة الذكاء الاصطناعي ليس أمرا عابرا أبدا، بل هو حدث انساني كبير لم تشهده البشرية طول تاريخها، وسيخلق ثورة فكرية أكثر عمقا وخطرا وتأثيرا من الثورة الفكرية التي انتجتها آلة الطباعة والمحرك البخاري. فاذا كانت الثورة الأولى نقلت الانسان من تفكيره الضيق بمزرعته ومصنعه وكنيسته ونظام حكمه الى تفكير أوسع يتشاركه مع بقية البشر على مستوى كوكب الأرض، فان الثورة الفكرية المعاصرة اخذت تنقل مستوى تفكير الانسان من كوكب الأرض الى الكواكب والنجوم والمجرات المحيطة به، وسيكون البحث عن الانتصار في الأرض يوما ما مجرد موروث من حقبة الثورة الفكرية الحديثة، اما الثورة الفكرية المعاصرة فستكون ذروتها هي البحث عن الانتصار في السماء، وستغدو معظم القيم والأخلاق وقواعد السلوك والعلاقات والتنظيمات اللصيقة بالأرض بالية بمرور الزمن ما لم يتم رفع التفكير بها الى حدود السماء.
ولكن للأسف مع هذا الواقع الجديد تتكرر القصة القديمة نفسها، لاسيما في عالمنا العربي والإسلامي، فهناك قوى تقليدية تعتقد ان مصالحها الضيقة يمكن الحفاظ عليها من خلال منع التغيير السياسي، فتتجاهل عن عمد او غباء حجم التغيير الاجتماعي والاقتصادي والثقافي الجاري في مجتمعاتها، كما تتجاهل صرخات المطالبة بالعدالة الاجتماعية والحرية الشاملة وحالات الحراك الاجتماعي المتمرد على واقع ظالم وغير عادل اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا، ولا تدرك ان ما يجري هو بداية تغيير كبير وانقلاب على الأطر والاخلاق والسلطات والعلاقات القديمة بحاجة الى التكيف معه والتعاون مع افراده بغية خلق التناغم والانسجام بين القديم السائر في طريق التطور او الزوال والجديد القادم لا محالة بشكل من الاشكال، والخشية ان ما نراه من موجات تطرف في اركان عديدة من العالم، ومنها عالمنا العربي والإسلامي ما هي الا ردود سلبية تقوم بها سلطات تقليدية لحماية مصالحها وعاداتها وتقاليدها الموروثة، فتكون النتيجة التضحية بالفوائد الجمة الناجمة عن تقبل التغيير والانفتاح عليه وتهذيب مساره لصالح الاصطدام معه والصراع مع قواه وتكبد خسائر كبيرة لا تغير النتيجة المحسومة سلفا، فانتصار السلطات التقليدية الأوروبية في وقتها تكتيكيا أحيانا اثناء الصراع مع قوى التغيير، لم يمنع خسارتها الاستراتيجية في النهاية، فان السلطات التقليدية في عالمنا المعاصر قد تنتصر تكتيكيا هنا او هناك، ولكنها ستهزم استراتيجيا في المستقبل، وقد لا تقل بشاعة نهايتها عن نهاية نظائرها الأوروبية.
ان المطلوب من السلطات التقليدية في عالمنا المعاصر عموما، وعالمنا العربي والإسلامي بشكل خاص ليس التخندق والاحتماء بقوة الأسد وقصر نظره، وانما عليها الاستفادة من حكمة النملة ودقة ملاحظتها، فهي مطالبة باكتشاف عيوبها والتحرر من تخندقاتها المسبقة المعرقلة لتطورها، لخلق الحاجة اليها كقوى مساهمة في التغيير نحو الأفضل، لا كقوى سطحية بائسة تريد عرقلة مساره او مواجهته بالقوة، فما يحصل من تغيير بحاجة الى تفهم أسبابه ومنطلقاته وتطلعاته، وعند ذاك يمكن فقط تطوير العادات والتقاليد القديمة من أنماط التفكير والسلوك واللباس والعلاقات والتنظيمات الاجتماعية المختلفة بجعلها تلبس لباسا جديدا لا يلغي اصالتها ولا يجعلها جامدة متحجرة لا تعرف التطور ضمن بيئتها المحيطة، وفي الوقت نفسه من الضروري التعايش مع القيم والأخلاق والعادات والتقاليد التي سينتجها الجديد الوافد، فهذا الامر مما لا يمكن كبحه ومنعه اطلاقا، ولكن التعايش معه والتنافس من منطلق خدمة الانسان وتحقيق طموحاته وتحرير طاقاته الخيرة سيكون مناسبا بفسح الخيارات امام الانسان لاختيار ما ينفعه وتجنب ما يضره، ففي المحصلة النهائية كل البشر يعودون الى جادة الصواب واختيار ما ينفعهم عندما يجدون بعض خياراتهم مضرة ولا تجلب لهم الا البؤس والشقاء، وعندما يكون البؤس والشقاء سببه القوى التقليدية فسيتم رفضها ونسفها بكل تأكيد، اما عندما يكون قوى التغيير فسيحصل الامر نفسه، ولكن اذا وجُدت المنفعة في الانسجام بين الاثنين فسيتم تقبل هذا الخيار المناسب للجميع، وسيكون الجميع رابحا دون حاجة الى تكبد المشقة والعناء والالم، ولكني أتمنى ان يتحلى البشر بمثل هذا المستوى العقلاني من التفكير للوصول الى هذه النتيجة، فالتجربة التاريخية اثبتت ان البشر غالبا ما يكونون اقل عقلانية ويسمحون لغرائزهم البدائية وعواطفهم الجياشة المبتذلة بالتحكم في تفكيرهم وسلوكهم فيختارون خيارات غير حكيمة تنتهي بنهايات غير سعيدة محسومة النتائج.