الشعوب المقهورة لا تستكين ولا تستسلم، إنها لا تكف عن الكفاح من أجل الخلاص، وغالبا ما تصل تلك الشعوب الى ضالتها، بعد كفاح طويل ومرير، تخوضه ضد الحكام المستبدين وحكوماتهم الفاسدة، وضد العوامل والعناصر التي تساعد على القهر والجهل والحرمان.
التاريخ خير شاهد على هذا الكلام، فهو يخبرنا بما فعلت الامم والشعوب من اجل الانتقال في سجون الفقر، الى واحات الغني والتحرر، ومعظم الشعوب التي نجحت في دحر الانظمة القهرية، تمسّكت بفرصة التغيير بقوة، وتمكنت من توظيف مواهبها وطاقاتها وقدرتها، لكي تتحول من الموت الى الحياة، قلة تلك الشعوب التي لم تتعلم من الدرس جيدا، وكثيرة هي الامم التي جعلت من آلامها وقهرها جسورا نحو الازدهار والتقدم.
العراقيون حصلوا على الحرية منذ عشر سنوات، هي ذي فرصتهم التاريخية، وهذه مرحلة الانتقال من عصر الاستبداد والظلم الى عصر الحرية والارتقاء، ولكن هناك عقبات كبرى تواجه العراقيين، أصعبها وأكبرها الفشل الذي قد يهدر فرصة التحرر التام للشعب العراقي، نعم خلال السنوات العشر تحقق شيء من النجاح، ولكن ليس النجاح الذي يتمناه العراقيون، كذلك لم تفشل التجربة بصورة كليّة، هناك مراوحة بين النجاح والفشل.
لذلك لابد للمعنيين، خبراء وعلماء وغيرهم، أن يدرسوا بعمق ودقة التجربة العراقية خلال السنوات العشر التي بدأت في نيسان 2003 وحتى الآن، ولابد أن نعرف مكامن الفشل والاشكاليات، وأين هي مكامن النجاح والانجاز الجيد، التحرك نحو تحقيق هذا الهدف، يمكن أن يصب في تصحيح المسارات، ويعمق التجربة ويجعلها تمضي باتجاه النجاح في مجالات السياسة والاقتصاد والتعليم والصحة وكل المجالات الاخرى.
علما أن مسؤولية التصويب والبناء لا تخص احدا او جهة دون غيرها، بل الجميع عليهم مسؤوليات مهمة ازاء حماية التجربة وبناء الدولة المدنية القادرة على حفظ الحقوق كاملة، ولكن هناك مسؤوليات خاصة ايضا.
يقول سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي في هذا المجال: إن مسؤولية بناء الدولة العراقية (هي مسؤولية عامة الناس، ولكن في الوقت الحالي هي مسؤولية خاصة، وقسمٌ منها مسؤولية عامة بالنسبة لعراق اليوم والمستقبل.. فقد ابتلي العراق اليوم – رجالاً ونسـاءً وشيباً و شباباً – بأزمةٍ مزدوجة؛ فهو منذ خمسين عاماً ينتقل من أزمةٍ إلى أزمة، ومن أمر شديد إلى أمر أشد، ومن صعب إلى أصعب.. وفي الوقت الحاضر تضاعفت هذه الأزمة بالنسبة إلى كل فردٍ عراقي..).
نحن ومسؤولية البناء؟
لاشك أن هناك من لا يرغب أن يرى دولة عراقية مدنية قوية، لاسيما أن مقومات هذه الدولة متوافرة في العراق، أما الاسباب في اتخاذ مواقف العداء فهي كثيرة، وأولها أن أنظمة الحكم الاقليمية لا ترحب بنظام ديمقراطي في المنطقة، لأن معظم هذه الانظمة قائمة على التوريث والملكية والتسلط، لذا فإن النظام الديمقراطي يشكل خطرا على وجود الانظمة الفردية.
ولكن ينبغي أن لا يتراجع العراقيون عن الهدف الاهم المتمثل في استثمار فرصتهم التاريخية الراهنة، للتحول من الجهل والفقر والتخلف والحرمان، الى التقدم والرفاهية والنظام والازدهار، وهذه مسؤولية العراقيين، كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في تساؤله قائلا: (من هم الأولى بإعادة إعمار العراق؟ لا يتصور أحد منّا أننا لسنا قادرين أن نفعل شيئاً حيال مستقبل العراق.. إذن فنحن نتحمل مسؤولية خطيرة، وعلينا أن نعتقد بأنها مسؤوليتنا جميعاً وبلا استثناء)، ويضيف سماحته: (فلنسع لأن تأخذ المسؤولية إزاء العراق موقعها في نفوسنا).
وهكذا لابد أن يتصدى المعنيون، من خبراء ومفكرين وعلماء، الى قضية بناء التجربة العراقية بما يجعلها النموذج في المنطقة، فضلا عن حاجة العراقيين الى التعويض عما فاتهم في العقود المتتابعة، من فرص للتقدم ومواكبة ما يستجد في العالم الراهن، من تطورات هائلة في جميع مجالات الحياة، وهذا يتطلب بطبيعة الحال خططاً موضوعة بدقة من لدن لجان متخصصة، ثم تتبنى الجهات الحكومية مسؤوليات التنفيذ الدقيق، على ان يكون للثقافة وللشباب حصة مهمة، كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله: (توجد في العراق، حاجة ماسة إلى برامج تثقيفية وتوجيهية، فكما ينقل أن الشباب العراقي لديهم تعطش للدين ولكنهم يفتقرون لمن يقوم بتعليمهم وتربيتهم).
علما أن العوامل التي تساعد على نهوض العراق حاضرة، لكنها تحتاج الى ادارة متخصصة علمية نزيهة تستثمرها بالصورة الأمثل، وهذا ما لم يتحقق طوال السنوات العشر الماضية، على الرغم من اجواء التحرر والانفتاح التي رافقت هذه المرحلة، فلم تساعد ثروات العراق على بناء التجربة السياسة ولا الاقتصادية وتطويرها كما يجب.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، حول هذا الموضوع: إن (العراق يسبح فوق ثروات هائلة من المعادن والنفط والمحاصيل الزراعية والحيوانية، ومن الناحية الجغرافية فإن العراق يحتل موقعا هاما في وسط العالم وهو المركز الذي يربط بين الشرق والغرب.. وخط الاتصال وملتقى الحضارات).
مشكلات اقتصادية خطيرة
إن تمحيص مجريات السنوات العشر الماضية من عمر التجربة العراقية في المرحلة الجديدة، تؤكد عدم قدرة الكادر المعني بإدارة الاقتصاد وفق رؤية متطورة، فقد انتشرت الفوضى في المشاريع، وظهرت عيوب ادارية خطيرة، تمثلت بظهور حالات الاختلاس والرشا والصفقات الوهمية وغسيل الاموال والتهريب وما شابه، وهي عوامل نخرت في جسد الاقتصاد العراقي وجعلته يراوح في مكانه أو ينمو ببطء شديد، وهي نتائج لا تتوافق مع الثروات الهائلة التي يحتويها البلد، لا سيما أنه يأتي كثاني دولة مصدرة للنفط بعد السعودية، حيث تجاوز سقف الانتاج والتصدير 3 مليون برميل من النفط يوميا.
لذا من المؤسف أن المعنيين الحكوميين والمستشارين وغيرهم، لم يستفيدوا من مقومات الثراء العراقي، كما أنهم لم يدرسوا بجدية فرص التقدم في هذا المجال، ولم يكلفوا أنفسهم الاستفادة من النظريات والطروحات التي تلائم الوضع الاقتصادي في العراق، كما نلاحظ ذلك في يطرحه الامام الشيرازي بنظريته الاقتصادية التي تستند بشكل أساسي على قضية (الاكتفاء الذاتي)، إذ يقول سماحة الامام الراحل:
(ما دام الشعب يعتمد اقتصاديا على دول أخرى فإنه يصبح تابعا لها وأسيرا لأوامرها كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: «احتج إلى من شئت تكن أسيره». لذلك لابد من تحقيق الاكتفاء الذاتي من خلال الاعتماد على الصناعة الوطنية وتقويتها وتطوير الزراعة والثروة الحيوانية عبر إعطاء حرية العمل والتجارة والصناعة والزراعة).
وتفصح مراجعتنا لتجربة السنوات العشر الماضية عن خلل كبير في ادارة اموال الدولة، ولعل كثرة الوظائف وانهاك كاهل الدولة بملايين الموظفين، يعد من اخطر الامور التي يعاني منها الاقتصاد العراقي، حيث البطالة المقنعة تتجسد الآن بأقوى صورها واشكالها في الدوائر والمؤسسات الحكومية المختلفة، حيث تهد عشرات المليارات كرواتب واجور للموظفين الذي لا يؤدون عملا يذكر، بل على العكس أنعشوا النهج البيروقراطي وعمقوا الاساليب الروتينية المقيتة في ادارة شؤون المواطنين، فضلا عن تحول هذه الدوائر والمؤسسات الى مصدر استهلاكي خطير لميزانية الدولة، وفتح نوافذ عديدة للفساد الاداري، بالاضافة الى ضياع الفرصة الاكيدة لتحقيق التقدم الملموس في الخدمات الاساسية وسواها.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع: (هناك مشكلة اقتصادية مهمة وهو الوجود الكثيف للموظفين الذين يعملون في جهاز الدولة وأغلبهم يعمل في وظائف هامشية لا تنفع الشعب بل يعقدون الأعمال ويعرقلونها ويستهلكون ميزانية الدولة وأموال الشعب مما يحولهم إلى عبء ثقيل على كاهل الشعب، فلابد من تقليلهم وتحويل أعمالهم إلى المؤسسات الخاصة وأما الدولة فهي فقط مشرفة على سير العمل وعدم انحرافه لا أن تتدخل في كل شيء).
وخلاصة القول أن تجربة السنوات العشر الماضية في العراق، تؤكد عدم نجاح السياسيين في ادارة البلد، كما انهم لم يفشلوا تماما، ولكن كان من الممكن أن يتحقق الهدف المنشود في بناء الدولة المدنية، لو ان المعنيين أحسنوا التصرف فكرا وافعالا في ادارة دولة تتوافر فيها جميع مقومات وفرص التحول من الجهل والفقر الى العلم والغنى.
اضافةتعليق