تعد الرياض واحدة من أبرز حلفاء واشنطن التقليديين في المنطقة، بالرغم من الغموض والتناقض الكبير الذي يكتنف العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية وطبيعة النظامين، فالنظام السياسي في المملكة العربية الذي تحتكره عائلة آلـ سعود، ذات الطبيعة القبلية المدعوم بسلطة رجال الدين السلفيين، مناهض للديمقراطية وأبجديات القيم الأمريكية، إلا أن العائلة المالكة حافظت على طبيعة علاقاتها الخارجية، وشراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية طيلة العقود الماضية، بعيداً عن تلك مفاهيم، أو بعيداً عن مفردات الأطروحة الأمريكية، كما يسميها (اناتول ليفن) في كتابه (امريكا بين الحق والباطل: تشريح القومية الامريكية) وهي الاطروحة القائمة على مفاهيم الفلسفة البراغماتية والليبيرالية الأمريكية بكل تفصيلاتها السياسية والاقتصادية. صحيح أن العلاقة والشراكة بين البلدين تعرضت لاهتزازات كبيرة في تاريخ مسار العلاقات الدولية والدبلوماسية، ولاسيما بعد أحداث 11/سبتمبر 2001، لكنها سرعان ما تعود لطبيعتها ومسارها السياسي والدبلوماسي، وهذا قد يضع الكثير من علامات الاستفهام حول طبيعة تلك العلاقة، والمقاربات السياسية التي تقف خلفها.
لم نذهب بعيداً في تاريخ العلاقة بين البلدين من أجل استعراض تاريخ المعاكسات والمناكفات بينهما، إلا أننا سنرّكز على طبيعة التوترات والتعقيدات التي رافقت العلاقة بين واشنطن والرياض، وانعكست سلباً على شراكتهما الاستراتيجية في الفترة الاخيرة أو العقد الاخير وبالتحديد بعد منتصف الولاية الثانية للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما... مروراً بولاية ترامب ومن ثم الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة بايدن. وفيما يلي إشارة إلى أبرز المحطات السياسية التي استغلت فيها الإدارات الأمريكية المتعاقبة طبيعة العلاقة مع المملكة العربية السعودية واخطائها السياسية:
المحطة الأولى: اقرار الولايات المتحدة الأمريكية قانون "جاستا" أو ما يسمى بقانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب. ولا نريد الخوض في تفاصيل هذا القانون، لكن يمكننا اختصاره بأنه يخوِّل بالدرجة الأولى ذوي ضحايا هجمات 2001 رفع دعاوى بحق السعودية كبلد دعم بشكل مباشر أو غير مباشر المجموعات المصنفة دولياً إرهابية، في الإشارة إلى الجماعات التي نفّذت هجوم الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. وعلى الرغم من أنّ القانون لا يُشير بشكل مباشر إلى السعودية، إلا أنه أصبح أداة ابتزاز تستغله الإدارة الأمريكية والشركات وجماعات الضغط في الولايات المتحدة تجاه السعودية، فضلاً عن ذلك، فان هذا القانون أصبح ذريعة وأداة ابتزاز كبيرة في الحملة الانتخابية التي استخدمها ترامب في دعايته الانتخابية عام 2016. إذ أسقطت الإدارة الأميركية من لوائحها المملكة العربية السعودية كدولة تتمتع بالحصانة السيادية ووضعتها في خانة "الدول الإرهابية"... لكن في نهاية الأمر تم التغافل عن هذا القانون بمكاسب سياسية أمريكية.
المحطة الثانية: إدارة ترامب ودعايته الانتخابية، لم تشهد أي دعاية انتخابية في تاريخ الانتخابات الأمريكية ابتزاز بلد ما، كما أُبتّزت السعودية في الدعاية الانتخابية للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. إذ استطاع (المرشح والرئيس) من ابتزاز المملكة بشكل علني دون أي حياء، لكنه تراجع عنه مع زيارته الأولى للمنطقة وللمملكة، وابرامه لصفقة الأسلحة الكبيرة، التي تفاخر بها الرئيس وبحجم الاموال التي جلبها لبلده بشكل صريح أمام الإعلام.
المحطة الثالثة: قضية مقتل الصحفي السعودي المقيم في الولايات المتحدة جمال خاشقجي، الذي اغتيل في العام 2018 في قنصلية بلاده في تركيا، وهي القضية التي تغافلت عنها الإدارة الأمريكية السابقة في حينها، لتكون أداة ابتزاز جديدة على المملكة العربية السعودية مع بداية تسنم الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جون بادين. إذ أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أن الولايات المتحدة ستفرض عقوبات لتقييد وإلغاء تأشيرات سفر وفق سياسة جديدة سميت "حظر خاشقجي"، تشمل 76 سعودياً يعتقد أنهم شاركوا في تهديد معارضين في الخارج بمن فيهم خاشقجي. وتأتي هذه الوثيقة في ضوء التقارير التي قدمتها الاجهزة الأمريكية المختصة في التحقيق بقضية مقتل خاشقجي، وعلى ضوء ذلك أرسلت الخارجية الأمريكية وثيقة حقائق إلى المشرعين الأميركيين تعلن فيها سياسة جديدة لفرض قيود التأشيرات على الأفراد الذين يتصرفون نيابة عن حكومة أجنبية، ويُعتقد أنهم متورطون مباشرة في أنشطة تستهدف المعارضين خارج الحدود الإقليمية. وتأتي هذه السياسة في ظل تولي إدارة بايدن للبيت الأبيض وتطلعاته الخارجية الجديدة، وقد تستهدف هذه السياسة بعض دول المنطقة أيضاً، ولاسيما الدول التي تتزايد فيها عمليات اغتيال بحق الصحفيين والناشطين والإعلاميين نيابة عن حكومات أجنبية أو بتعليمات من خارج الحدود الإقليمية، ولاسيما الصحفيين او الناشطين العاملين في المؤسسات الأمريكية المنتشرة حول العالم.
في 4 تشرين الثاني من العام 2018 نشر كاتب هذه السطور مقالاً بعنوان (انعكاسات قضية مقتل خاشقجي على العلاقة بين واشنطن والرياض()) استعرض فيه بعض السيناريوهات التي من الممكن أن تنعكس على طبيعة العلاقة والشراكة بين واشنطن والرياض، اي بمعنى أن العلاقة بين الجانبين قد لا تتأثر بحادثة مقتل خاشقجي في الوقت الراهن "في حينها"، وأن الإدارة الأمريكية برئاسة ترامب ربما تحاول تسويف القضية بطريقة أو بأخرى (وهذا ما حدث بالفعل)، أو ربما تؤثر قضية خاشقجي على العلاقة بين البلدين، ويتم فرض عقوبات أمريكية سياسية – اقتصادية منفردة (تشمل المتورطين بحادثة الاغتيال فقط) أو مجتمعة تشمل عقوبات على النظام السياسي السعودي، دون أن تمس تلك العقوبات مصالح الولايات المتحدة، او أن يتدخل الكونغرس في القضية، ويفرض عقوبات سياسية واقتصادية ضد المملكة العربية السعودية بعيداً عن الإدارة الأمريكية. وبغض النظر عن دقة هذه السيناريوهات وصوابها، إلا أنها تُرجمت مرة أخرى سياسة الابتزاز التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية اتجاه المملكة العربية السعودية في العقود الأخيرة، بعد التقرير الذي اصدرته وكالة الاستخبارات الأمريكية ونشرته الخارجية الأمريكية بشأن قضية مقتل جمال خاشقجي. وبطبيعة الحال لا يخفى على الجميع بأن السعودية ارتكبت الكثير من الاخطاء الكبيرة على مدار العقدين الماضيين على مستوى منطقة الشرق الأوسط والعالم بشكل عام، تستحق أن تتعاقب عليها دولياً، لكنها لم تُحاسب بشكل فعلي وإنما دائماً ما يتم التغاضي عن افعالها بشكل متكرر، وعادةً ما تستغل تلك الأخطاء مع كل إدارة أمريكية جديدة ويتم التلويح بها في ابتزاز المملكة، أو العائلة المالكة؛ وهذا ما يجعلنا نشّبه المقاربة التي تحكم العلاقة بين واشنطن والرياض، بالمقاربة التي تحكم العلاقة بين واشنطن وطهران في المنطقة، مع الاخذ بنظر الاعتبار موقف كل علاقة وطبيعتها ودقتها على المستوى الرسمي. بمعنى آخر، بأن العلاقة الأولى (علاقة واشنطن والرياض) علاقة وشراكة براغماتية قائمة في الكثير من الاحيان على استضعاف المملكة وابتزازها سياسياً واقتصادياً بدوافع أمنية من قبل الجانب الأمريكي، ولاسيما تلك الدوافع التي تتعلق بالدور الإيراني في المنطقة ومطامعه الاستراتيجية، هي نفس المقاربة التي تحكم طبيعة الصراع الأمريكي – الإيراني في المنطقة، لكن قد تكون الأولى رسمية بطابع سياسي ودبلوماسي والثانية غير رسمية بطابع الصراع والتهديد والوعيد الذي يزيد من ظاهرة عدم الاستقرار السياسي في المنطقة ويُقلق حلفاء واشنطن التقليديين، ويحّفز من طبيعة الصراع الطائفي في منطقة الشرق الأوسط، الذي يزيد بدروه من طبيعة اصطفافات الدول والجماعات اللادُولتية في المنطقة، ويمكننا أن نصف المقاربتين بأنها مقاربات متناقضة أو مزدوجة، تجمعان بين التعاون والابتزاز وبين المكاسب والصراع، فالثانية تغذي الأولى، أو العكس، لكن كلاهما يحافظان على وجودهما ونفوذهما ومكاسبهما ويزيدان من حالة عدم الاستقرار في المنطقة، إلا أن شعوب المنطقة هيَّ من تدفع ثمنها.