تضمن المنهاج الحكومي لرئيس الوزراء الحالي السيد مصطفى الكاظمي والذي نال على أساسه ثقة البرلمان العراقي فقرات مهمة هدفها استعادة دور الدولة وتأثيرها وقوتها، مثل: الإشارة الى "فرض هيبة الدولة"، و" حماية سيادة العراق وأمنه"، وتحقيق "السيادة الوطنية الكاملة"، وغيرها. بل ان المنهاج بمجمله قائم على تطلعات الحكومة لتكون قوية وتتمتع بسيادة حقيقية لا تنازعها فيها كيانات او قوى موازية، وقد صرح الكاظمي بهذا الهدف في أكثر من مرة.
ان استعادة دور الدولة هدف تصبو اليه كل الحكومات السابقة، ووضعته ضمن اجنداتها المعلنة الا أن الاقوال والمناهج المكتوبة غالبا ما تكون أيسر من الأفعال على الأرض؛ فالعراقيل التي تعترض طريق هذا الهدف كثيرة للغاية، وحكومة الكاظمي ليست غافلة عنها، اذ اشارت اليها في منهاجها، سواء كانت عراقيل وعقبات داخلية: الانتخابات المبكرة، جائحة كوفيد 19، السلاح المنفلت، المليشيات المسلحة غير النظامية، تعدد مراكز صنع القرار الأمني والعسكري، الفساد، الوضع الاقتصادي، الاحتجاجات الشعبية، استقلالية القضاء .... او خارجية: التدخل الأجنبي بالشأن الداخلي العراقي، تقاطع المصالح الإقليمية والدولية، الوجود العسكري الأجنبي على الأرض العراقية وما شابه. وهذه العقبات والعراقيل لا يمكن تجاوزها بمدة قصيرة كعمر حكومة الكاظمي التي من المتوقع ان لا تستمر أكثر من سنة الى سنة ونصف في ابعد الحدود. لذا يمكن عد ما ورد في المنهاج الحكومي على انه مرتكزات نظرية مهمة لتحديد سبل استعادة دور الدولة، ولكنها غير كافية، فالكاظمي الى الآن لا يبدو أكثر من مجرد سائق لحافلة متداعية ومهددة بالانزلاق الى المجهول في أي لحظة، يسعى الى تسليم قيادتها الى سائق جديد بأقل التكاليف؛ لأنه لا يطرح نفسه كمنقذ لدولته وشعبه، بل يكرر دائما القول انه "ليس طالب منصب" وانه "لا يطمح الى السلطة"، وانه قد يكون "شهيد حي" في مواجهته مع عصابات الفساد وقوى التمرد على سلطة الدولة، في حين هو يمثل اعلى سلطة إدارية في البلد، والقائد العام للقوات المسلحة، مما يعطي الانطباع للناس بشعوره بالخوف والخطر من المهمة، وهو خوف وخطر سيتضاعف اضعاف مضاعفة في عقل المواطن البسيط، فيجعله اكثر بحثا عن الأمان والسلامة وتجنب مواجهة الفاسدين والمتمردين.
ان خطاب الكاظمي بهذا الشكل، وخطاب غيره من الراغبين بإصلاح حقيقي لحال البلد، يعد خطابا غير مناسب اطلاقا، وغير مؤثر في بيئة عراقية تعشق الزعامة، وتعانق القوة، وتحترم كاريزما الرجل القوي. وما يعزز هذا الامر، ويزيد الطين بلة في ذهنية المواطن، عدم وضوح المشروع السياسي للرجل، وعدم مبادرته الى الإعلان عن تشكيل كيان سياسي يحتوي هذا المشروع ويعبر عنه، مما يعني في حال اجراء الانتخابات المبكرة القادمة، ان القوى السياسية الحاضرة المسؤولة عن تهميش دور الدولة، وإنتاج الكيانات الموازية لها، ستكون صاحبة المبادرة الفعلية، فتعيد طرح نفسها بالانتخابات، ولو من خلال وجوه جديدة وكتل انتخابية جديدة، كما ستستعيد مواقعها في السلطة، وتكرار اخطائها السابقة؛ لغياب البديل الانتخابي لدى المواطن، وضعف إمكانات القوى المستقلة وانعدام فرصها في الحصول على منافسة انتخابية عادلة.
وإذا كان الكاظمي جادا فعلا في استعادة دور الدولة، فعليه امتلاك مشروعه السياسي المتكامل الهادف الى تحقيق هذا الغرض أولا، كما عليه المبادرة المبكرة الى تشكيل كيانه السياسي المستقل عن كل القوى والكيانات السياسية الموجودة في الساحة العراقية؛ ليكون بديلا تنافسيا قويا يمكن ان تتحالف معه كل القوى المستقلة او تنضوي بالعمل تحت مظلته للحصول على الحماية، فضلا على الحصول على منافسة انتخابية أكثر عدالة، واقناعا للشعب وتشجيعا له على المشاركة الواسعة لقلب طاولة التوازنات والمعادلات السياسية التي حكمت العراق بعد عام 2003.
ولكن عندما يسير الكاظمي في هذا الطريق، فلا أحد يتوقع أن يكون الدرب امامه مفروشا بالورود، انما سيواجه ردود أفعال خطيرة تحاول اعاقته، وافشال مشروعه، ومنعه من تهديد مصالح مافيات الفساد والسلطة والسلاح، فضلا على منعه من تهديد مصالح بعض القوى الخارجية في العراق، وهذا سيتطلب منه إيجاد فريق حكومي غاية في الكفاءة والانسجام والتماسك، فالمعلومات التي ترد من مصادر عديدة هي ان الرجل الى هذه اللحظة لم يمتلك فريقه الخاص عالي المستوى، وان ما يمكن تسميته بفريقه الحالي لا زال دون المستوى، إضافة الى كونه غير منسجم بالشكل المطلوب.
وبعد الحصول على هذا الفريق تأتي المرحلة التالية، أي امتلاك الاستراتيجية الفاعلة لتحقيق الهدف (استعادة دور الدولة)، وهذه الاستراتيجية، وبصرف النظر عن مرتكزاتها ومقوماتها، يجب ان تنفذ على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى-مرحلة الاحتواء ووقف الانحدار، ونقصد بذلك احتواء الخصوم الذين يهددون كيان الدولة من الافراد والقوى والمؤسسات والدول؛ لتحجيم تأثيراتهم وردود افعالهم وعدم استفزازهم في وقت غير مناسب. أما وقف الانحدار، فنقصد به انحدار مؤسسات الدولة، التي أصابها الضعف والتراخي، وأرهقها سوء القيادة والفساد، ولا فرق في ذلك بين المؤسسات العسكرية والمدنية، فجميعها بحاجة الى إعادة النظر في قياداتها واليات عملها. ويظهر من خلال المدة القصيرة الماضية من عمر الحكومة، انها مدركة لهذه المرحلة، ولكنها لا زالت دون المستوى، فالوقت لا يسير بصالح الكاظمي انما بصالح خصومه والراغبين بالتخلص منه.
المرحلة الثانية-مرحلة امتلاك زمام المبادرة، وهي المرحلة التي تبدأ الحكومة فيها باتخاذ قرارات مؤثرة في إدارة مفاصل السلطة داخل مؤسساتها، وعلى كامل المساحة الجغرافية التي لها حق السيادة عليها، ولن تبدأ هذه المرحلة الا بتغيير القيادات غير المؤمنة بهدف الحكومة او تشكل تهديد جدي عليها من اعلى هرم السلطة (حتى الوزراء منهم) الى قاعدتها، المدنية والعسكرية، والبدء بخطوات عملية باتجاه تصفية الكيانات الموازية الواحد بعد الاخر، بالاستعانة بالخبرات الدولية في هذا المجال، وهي كثيرة، وجربتها بلدان عديدة عاشت وعانت من نفس ظروف العراق الحاضرة، فضلا على توظيف قدرات الدولة الهائلة، الظاهرة والكامنة، بشكل احترافي ومركز ومستمر أي بلا هوادة؛ لمنع أعداء الدولة من التقاط الانفاس وإعادة ترتيب الأوراق، وسيكون شعار هذه المرحلة انفاذ سلطة القانون على الجميع بدون استثناء: افراد، وكيانات، ومؤسسات، ومافيات، ومصالح، ومناطق جغرافية.
المرحلة الثالثة-مرحلة الانطلاق، وهي المرحلة التي لا يمكن بلوغها دون إتمام المرحلتين: الأولى والثانية، وفيها تستعيد الدولة حضورها الفعلي، وتصبح منافستها من قبل كيانات موازية مغامرة مجنونة عالية المخاطر، وعندها يمكن الانطلاق نحو برامج التنمية والتأهيل عالية المستوى، ذات المردودات الكبيرة في المدى: القصير والمتوسط والبعيد على رفاهية العيش للمواطنين، وسمعة وسيادة ومكانة الدولة العراقية في محيطها الإقليمي والدولي. وإذا ما وصلت استراتيجية استعادة دور الدولة الى هذه المرحلة، يمكن القول –آنذاك-ان العراق بدأ يسير في الطريق الصحيح نحو المستقبل، اما قبل ذلك فكل الخيارات مفتوحة، والسيئة منها أقرب الى التحقق من الجيدة.
ان استعادة دور الدولة العراقية ليست نزهة سياسية، كما انها ليست لعبة هواة، بل هي مهمة خطيرة للغاية، وستكون الحكومة في وضع لا تحسد عليه فيما لو توفرت لديها الارادة الحقيقية لبلوغ هذا الهدف، الا ان الامر الثاني الملح للغاية بعد توفر النية هو الحصول على ثقة المواطن العراقي، فالثقة هي السلاح الامضى للنجاح في المهمة، وهي تتطلب خطاب سياسي جديد معزز باستثمارات اجتماعية عاجلة، وقرارات حكومية جريئة وقوية مقنعة للشارع الشعبي الذي فقد ثقته بجميع القوى والشخصيات المتصدية للمشهد السياسي، ولم يبقى له الا بصيص أمل ضعيف في ان تُحدث حكومته الحالية فرقا عما كانت تسير عليه الحكومات السالفة. وبدون توفر الإرادة السياسية الصلبة، وكسب ثقة الناس، وامتلاك الاستراتيجية الفاعلة والمطبقة بحرفية ودقة وصرامة، فان الكاظمي وغيره سيفشلون فشلا ذريعا في استعادة دور الدولة، وسيبقى العراق مجرد ساحة تعيث فيها خرابا القوى الموازية: المحلية والاقليمية والدولية.