يمر العراق في المرحلة الراهنة بأوضاع اقتصادية خطيرة مع تراجع اسعار النفط ، ذلك المورد الريعي الذي شكل اكثر من 90% من ايرادات الموازنة الاتحادية، واكثر من 70 % من الناتج المحلي الاجمالي للبلاد خلال السنوات السابقة، وحتى الاشهر الاولى من العام 2020 الجاري. هذا التراجع في الايرادات يقابله التزامات انفاق رئيسة للحكومة لابد من توفيرها وهي: (الرواتب والاعانات، البطاقة التموينية، مستحقات الشركات النفطية، استيراد الطاقة، خدمة الدين العام، مستحقات الفلاحين). وهي اسوأ ازمة مالية تمر بها البلاد بعد عام 2003.
لازال الخلل الهيكلي (البنيوي) كامن في الاقتصاد العراقي، ويقود بين الفينة والاخرى الى ازمات مالية وتصاعد معدلات الفقر والبطالة وغيرها. ولم تتوافر الحكومات بعد عام 2003 على رؤى واضحة شأن السياسات الاقتصادية المناسبة للفلسفة السياسية الجديدة التي تقررت في دستور عام 2005 لتقود الدولة العراقية بعد عقود من الدكتاتورية والاستبدادية على المستوى السياسي، والمركزية والشمولية على المستوى الاقتصادي. كما انها (أي الحكومات) اخفقت في استثمار الفرصة التأريخية اتي توافرت للدولة العراقية لاصلاح الاقتصاد العراقي كما في الرؤية التي تضمنها الدستور.
إن الإبطاء في تنفيذ الإصلاح الاقتصادي له تكلفة باهظة وأعباء هائلة، ولن يزيدها مرور الوقت إلا سوءا. فبعد عام 2003 كان الموظفين محدود جدا مقارنة بعدد السكان آنذاك، اذ لم يتجاوز عدد العاملين في القطاع العام والذين يتقاضون مرتبات من الدولة 900 ألف موظف، في وقت كان سكان العراق لا يتجاوز 26 مليون نسمة. اما في الوقت الحاضر نحن امام جهاز اداري بيروقراطي مترهل بلغ عدد العاملين فيه قرابة 3 مليون موظف مقابل 38 مليون نسمة. فضلا عن رواتب المتقاعدين والاعانات والرعاية الاجتماعية.
كما كان للقطاع الخاص مساهمته الكبيرة في الناتج المحلي الاجمالي والتي بلغ المعدل الاجمالي لها للمدة 1974 – 2002 هو (35%). وكان القطاع الزراعي له مساهمته في الناتج المحلي الاجمالي والتي بلغت عام 2004 (6.78 %)، ويساهم باستيعاب قرابة 20 % من الايدي العاملة في البلد.
ان جدولة الديون الخارجية من قبل نادي باريس ما نسبته 80%، وفرت للدولة مرونة اكبر تجاه مسألة الدين العام وسداده وتم رفع الحصار الاقتصادي والمفروض منذ عام 1991، واصبحت البلاد على انفتاح اقتصادي ويُنظر لها كسوق واعدة للاستثمار من قبل الخارج. فضلا عن ذلك توافرت للدولة العراقية ايرادات كبيرة بفعل اسعار النفط المرتفعة.
وعلى مستوى الحماية الاجتماعية، توافرت آليات جيدة لتفير مرتبات للعاطلين عن العمل والفئات الاجتماعية الهشة وبمساعدة من المؤسسات والمنظمات الدولية. وعلى الرغم من انها شبكة الحماية الاجتماعية شابها الكثير من الفساد واشتمالها على فئات غير مشمولة، الا انه كان يمكن ان تهذيبها أكثر بما يخدم عملية الاصلاح الاقتصادي وتجاوز كلفها الاجتماعية.
فالحماية الاجتماعية طريقة مناسبة جدا لحماية الفئات الضعيفة والمهمشة وتجنيبها تحمل كلفة التحول بالاقتصاد نحو السوق والتي تتضمن بشكل اساسي الغاء الدعم عن الغذاء والوقود وتخفيض الانفاق العام وغيرها. وهذه الكلفة عانت منها الدول والحكومات التي سارت بالتحول نحو السوق لسنوات تمتد من 5 الى 7 سنوات، وكثيرا ما تشغل صانعي القرار السياسي والاقتصادي في البلدان التي تسير باتجاه التحول للسوق.
كل هذه المقومات وغيرها كان ممكن ان تذلل كثيرا من التكاليف الاجتماعية للتحول الاقتصادي نحو اقتصاد السوق لو توافرت ارادة سياسية وطنية على مستوى عالي من النزاهة والكفاءة، ويمكن ترجمة تلك الارادة الى تشريعات وانظمة عمل. ولأصبح حال العراق اليوم يختلف كثيرا عما يعيشه. ومع كل تلك المقومات، وبدلا من تحقيق الاصلاح، اعتمدت "التيارات والاحزاب" الغير الوطنية والتي تسلمت زمام السلطة بعد عام 2003، الزيادة في الانفاق العام لكسب الاصوات والاستحواذ على المال العام ومن ثم تعزيز مكوثها في السلطة، واستدامة ولائها للخارج عبر خدمة مصالحه.
يتأكد لدينا في هذه المرحلة، مع انخفاض الايرادات النفطية، وعدم وجود قانون للموازنة، ان البلاد ستواجه اوضاع اقتصادية صعبة جدا. وبالتالي لا مناص ولا خيار سوى ترشيد السياسات الاقتصادية وضغط الانفاق العام والاتجاه نحو الاصلاح الاقتصادي وتفعيل دور القطاع الخاص وحماية المنتج الوطني من جهة، والعمل على تذليل تكاليفه الاجتماعية من جهة اخرى. وهذه مهمة الادارة الحكومية الجديدة. ويمكن ايجاز اهم الاجراءات بـ:
- دعم القطاع الخاص عبر حماية المنتج المحلي، واقرار قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص والذي تم مراجعته من قبل مجلس الدولة والموجود على رفوف الامانة العامة لمجلس الوزراء. كل ذلك سيقود لتوفير فرص العمل ودعم الانتاج الوطني.
- توجيه الانفاق الجاري من غير التشغيلي (أي الرواتب والاعانات)، نحو دعم شبكة الحماية الاجتماعية لتذليل الكلفة الاجتماعية لخفض الانفاق العام.
- يتوجب على اقليم كردستان وضع تصدير النفط المستخرج من حقوله تحت تصرف الحكومة الاتحادية، كما على حكومة الاقليم تسليم كافة ايراداته من الرسوم والضرائب وايرادات المنافذ الحدودية من مطارات ومنافذ حدودية، كإيرادات للموازنة الاتحادية مقابل حصول حكومة الاقليم على الحقوق المالية وفق مبدأ العدالة في التوزيع، وبعكسه لن يتسلم الاقليم أي اموال من الحكومة الاتحادية.
- اجراءات مالية ومنها: -
1. مراجعة سلم الرواتب والعمل عل تقليل الفارق بين الدرجات الخاصة وباقي درجات السلم الوظيفي.
2. ضبط النفقات العامة في الميزانية الجارية وتصويبها نحو الميزانية التشغيلية (الرواتب والاعانات).
3. مراجعة القوانين والغاء ما يسمح بمنح أكثر من راتب او راتبين ومنها قوانين الشهداء والسجناء السياسيين، وانظمة المكافأة في التعاقد مع الموظفين والمتعاقدين. وتدقيق سجل موظفي الدولة والتي تستولي على ما يقارب من 20 ترليون دينار عراقي سنويا.
4. تعزيز الاجراءات الجمركية وضبط المنافذ الحدودية ابعادها عن سيطرة الاحزاب والمجموعات المسلحة. وفقا لخبراء، تقدر الايرادات الجمركية بأكثر من 6 ترليون دينار عراقي، في حين ما يصل منها الى الخزينة الاتحادية لا يزيد عن 600 مليار دينار عراقي. واعتماد نقاط جمركية على حدود اقليم كردستان مع كركوك وديالى ونينوى.
5. قطع اوصال شراكات الاتصالات والانترنت مع الاحزاب والتيارات المتحكمة في السلطة. واستيفاء الضرائب والرسوم التي بذمتها للسنوات السابقة.
وفي هذه المرحلة، ومع الاوضاع الاقتصادية الصعبة، وبالتزامن مع كلفة مواجهة وباء كوفيد-19التاجي، والهشاشة الامنية المتمثلة بتكرار هجمات خلايا داعش وسيطرة المليشيات وانتشار السلاح، والسلوكيات المنحرفة لـ " القوى السياسية" المسيطرة على الحكم وعدم تمكنها من تشكيل حكومة بعد (5 اشهر) من حكومة تسيير الامور اليومية، فأن هذه " القوى السياسية" ملزمة بخيار تمرير حكومة السيد مصطفى الكاظمي المؤقتة من دون الاكتراث للمغانم والمكاسب السياسية والمالية ، ومن دون الاذعان للقوى الاقليمية والدولية، وجعلها حكومة مقتضبة باقل عدد من الوزارات لضغط النفقات ومواجهة التحديات الامنية والاقتصادية، وان يكون مجلس النواب رقيب عليها وتوفير الاطر التشريعية والانظمة اللازمة لتجاوز المرحلة العصيبة الحالية.
وفي حال فشل تمرير الحكومة المؤقتة والفشل في مواجهة التحديات الامنية والاقتصادية، واستمرار تصاعد تداعيات الانهيار الاقتصادي، عندها تكون البلاد قريبة من حافة الهاوية، وعندها يكون الخيال خصبا عند التفكير بسيناريوهات الفوضى والتقسيم.