مواجهة الفساد بين الاعلان وغياب الارادة السياسية

كثر الحديث عن الفساد ومواجهة الفساد في العراق وبات منذ سنوات حديث العامة والخاصة، فضلا عن انه حديث الفعاليات السياسية والحكومية والنيابية، حتى صار الشماعة التي تعلق كثير المؤسسات فشلها عليها. وهذا اسهم في التركيز على الظاهرة في العراق والتي نتلمس مخرجاتها في كل لحظة وفي كل مكان عبر مظاهر الفشل والاخفاق. وطالما تؤكد الجماهير والرأي العام ان من ينجح في التصدي للظاهرة سيدخل التاريخ من اوسع ابوابه، وسيكون هو الزعيم الحقيقي للدولة العراقية بعد 2003.

ما وصلت له الظاهرة من ابعاد خطيرة - لم تستثني قطاعا الا ونخرته - اصبحت تهديدا وجوديا بعد ان اوجدت الظروف المناسبة لظهور اعتى التنظيمات الارهابية في العالم وهو تنظيم داعش الارهابي والذي وصل الى حدود العاصمة بغداد. 

في نهاية العام 2018، اعلن عن تشكيل المجلس الاعلى لمكافحة الفساد في العراق ألحاقا بإجراءات سابقة حول الموضوع ذاته. ويبدوا انه جاء التزاما بالبرنامج الحكومي الذي عرضه رئيس الحكومة السيد عادل عبد المهدي وصوت عليه مجلس النواب العراقي. واشاد بعض الساسة وقادة الرأي العام بتشكيل المجلس والمهام الملقاة على عاتقه، لكن الكثير رأى انها خطوة صورية لاتعدوا كونها تعبير من رئيس الحكومة لإثبات التزامه ببرنامجه الحكومي الذي تضمن مواجهة الفساد. 

التغطية المكانية لظاهرة الفساد لتشمل كل اقليم الدولة العراقية، لا يمكن مجابهتها بدون توفر ارادة سياسية وطنية قوية. وعندما نقول ارادة سياسية نسلم بضرورة وجود ادراك لدى كل القوى والتيارات السياسية المشاركة في ادارة السلطة في الاجهزة والمؤسسات التشريعية والتنفيذية بخطورة الفساد، وهذا الادراك هو من يخلق الارادة السياسية بعد توفر عوامل مساندة كالضغط الجماهيري والرأي العام وادواته.

لكن السؤال هنا، هل بأمكان القوى والتيارات السياسية الحالية في العراق بلورة هكذا ارادة؟

بداية، الإرادة (اسم)  تأتي بمعنى العزم، والعزيمة، المشيئة، وهي تصميم واعٍ على أداء فعل معين قوي، ويستلزم هدفاً ووسائل لتحقيق هذا الهدف، بالإضافة إلى العمل الإرادي. وقوة الارادة تعني المثابرة على القيام بعمل ما برغم العوائق والمصاعب التي تعترض القائم بهذا العمل. اما الارادة السياسية فيمكن ان نقول هي المشيئة او العزيمة التي تتبناها الاجهزة والمؤسسات والهيئات التي تباشر السلطة السياسية في بلد ما. وبالتالي لا يمكن تحقيق التغيير المنشود في جانب ما او قطاع ما، الا اذا تحققت موافقة تلك الاجهزة والمؤسسات والهيئات، على ان اصدار قرار بالموافقة على اجراء او قرار سياسي باتجاه التغيير او تجاوز ازمة ما لا يكفي بحد ذاته لكي يصبح التغيير حقيقة واقعة، بل يجب الاستمرار في اصدار القرارات اللازمة لوضع متطلبات هذا التغيير موضع التنفيذ. 

الارادة السياسية واحدة من مسلمات القوة السياسية المرادفة للدول الراسخة، وتفرض وجودها على اقليمها وعلى المجالين الاقليمي والدولي. 

ان وجود الارادة السياسية يرتبط، كما هو معروف، بشكل النظام السياسي، وطبيعة النخب الحاكمة، ومرجعياتها الفكرية، والتزامها الاجتماعي، ومناهجها في البناء السياسي للدولة. لذا يمكن ان نؤكد مبدئيا انه بدون وجود هذه الارادة ان تصبح اي عملية تطويرية عرضة للأهواء وبالتالي عرضة للتقلبات والانتكاسات.

اهم خطرين سايرا اعادة بناء الدولة العراقية بعد عام 2003 هما الارهاب والفساد. وبرف النظر عن الاسباب التي يعرفها الجميع، لكن اذا ما راجعنا خطر الارهاب نجد ان بدايته تعود الى ظهور تنظيم القاعدة وتوسع نشاطه، ثم ظهور تنظيم داعش وتمدده من سوريا ليسيطر على مساحات واسعة من العراق.

استمرار الارهاب بمختلف انماطه وتعدد حركاته منذ بداية التغيير السياسي لغاية بدء الحرب ضد تنظيم داعش لا تنم عن امكانية لبلورة ارادة سياسية، ولكن بعد ان صار تهديد داعش الارهابي تهديدا وجوديا تبلورت ارادة وطينة جماهيرية شعبية مدفوعة بتوجيه المرجعية الدينية بفتوى الجهاد الكفائي التي ساندت الجماهير، ودعمت تلك الارادة ارادة دولية في مواجهة تنظيم داعش الارهابي، في حين غابت الارادة الوطنية للقوى السياسية.

لذا، وفي اطار مواجهة الفساد، لا يمكن لتلك القوى ان تبلور ارادة سياسية ذات هدف رئيس (مواجهة الفساد)، وهذا سينعكس سلبا في استكمال وتعزيز الاطار التشريعي اللازم للأجهزة التنفيذية والرقابية والقضائية لأداء عملها وانجاح مهمتها، لان تلك الاجهزة خضعت للمحاصصة الحزبية. 

نرى ان نجاح المهمة الكبرى ضد الفساد تحتاج الى جهود الجميع وقيادة هذه الجهود هي مهمة القوى السياسية. ومن دون ان تتخلى تلك القوى عن آفاقها الضيقة وتضع بعين الاهتمام بناء الدولة، لن يُكتب النجاح للمجلس الاعلى لمكافحة الفساد ولا لأي جهة رقابية او قضائية اخرى وبالتالي لن يندحر الفساد، بل سيتعاظم وتتعزز سيطرة الفاسدين ويكون عند ذاك الذهاب الى المجهول حتميا.

التعليقات