نظرية السجن الإصلاحي في فكر الإمام علي بن أبي طالب - ع

شارك الموضوع :

إن فكرة السجن كمؤسسة إصلاحية علاجية تاهيلية لم تتبلور في الفكر القانوني الإنساني المعاصر إلا بعد مخاضٍ طويل، غير أنها وجدت تطبيقاً لها في بدايات الدولة الإسلامية، ولاسيما في فكر الفقيه الكبير والمفكر العظيم علي بن أبي طالب () على نحوٍ سبق فيه الأفكار الحديثة بمئات السنين، وعلى ذلك سنتولى عرض فكرة السجن الإصلاحي في الفكر القانوني الإنساني أولاً، وفي الفكر الإسلامي الذي يمثله الإمام () ثانياً. أولاً: نظرية السجن الإصلاحي في الفكر الإنساني الغربي حتى القرن العشرين: كما أشرنا سلفاً فأن نظرية السجن الإصلاحي لم تتضح معالمها إلا بعد مراحل تطور عديدة، هذا التطور الذي حدث بعد أن تطورت الأهداف المتوخاة من استحداث السجن بحد ذاته ابتداءً من العصور القديمة وانتهاءً بالعصور الحديثة وكالآتي: 1- هدف السجن في العصور القديمة: ويتمثل بالهدف من العقوبة ذاتها وهو الانتقام من الجاني وتعذيبه. 2- هدف السجن في العصور الوسطى: وكان الهدف من السجن في هذه الفترة يوافق الأفكار الكنسية حول العقوبة والذي تمثل بتطهير المجرم من الذنوب والخطايا من خلال الاقتصاص التطهيري،( ) فعقوبة السجن لم تكن تستهدف سوى الانتقام والإرهاب بداعي تطهير المجرم لان هدف العقوبة كان آنذاك هو الردع فقط دون الإصلاح، لذا نجد أن السجون كانت عبارة عن قلاع أو حصون قديمة يودع المجرمون فيها بسراديب مظلمة مكبلين بالسلاسل مع التعذيب وإجبارهم على القيام بأعمال السخرة( ) . إذن فالسجون في أوربا كانت مكاناً لتنفيذ العقوبات البدنية فقط فالسجين كان ينتظر وصول "المحاكم المتنقلة" لفرض عقوبة عليه والتي قد تكون بدنية فتنفذ داخل السجن وقد تكون مالية متمثلة بالغرامة، لذا قيل بان السجن عبارة عن (محطات انتظار) لترقب وصول (عربة المحاكمة)( ). 3- هدف السجن في العصر الحديث والمعاصر: بعد تطور هدف عقوبة السجن من الانتقام والاقتصاص إلى الإصلاح والتأهيل من خلال تغير النظرة إلى شخص الجاني نفسه بوصفه غير منضبط أخلاقياً واجتماعياً وانه بحاجة إلى علاج بدأ التحسن يطرأ على السجن والسجين عموماً وذلك نتيجة لجهود المفكرين ورجال الدين الغربيين منذ نهاية القرن الثامن عشر ومروراً بالقرن التاسع عشر والقرن العشرين( )، فاتجهت القوانين العقابية الحديثة إلى تصنيف السجن وتخصيص السجون والرعاية بالمسجونين من النواحي الطبية والنفسية والفكرية والجسدية مع إيجاد الاخصائين في مختلف هذه النواحي، وقد صاحب هذا التطور اهتمام دولي بالسجون ووضع التوصيات والقرارات اللازمة في سبيل إصلاحها وتطويرها، حيث انعقد المؤتمر الدولي الأول للسجون في لندن سنة 1872 والمؤتمر الدولي الثاني في استكهولم سنة 1878 وغيرها من المؤتمرات( ) وفي 26/9/1934 اعتمدت عصبة الأمم المتحدة قواعد الحد الأدنى لمعاملة المسجونين والتي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في مؤتمر مكافحة الجريمة ومعاملة المذنبين في جنيف وذلك عام 1955 والتي اعتمدها المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة بقراره المرقم 663 في 31/7/ 1957( ). وتعرف قواعد الحد الأدنى لمعاملة المسجونين بأنها " مجموعة المبادئ والأسس التي تحدد اقل الأوضاع والمعايير المقبولة لمعاملة مختلف طوائف المسجونين البالغين وتنظيم وإدارة مؤسساتهم طبقاً للآراء والممارسات المعاصرة لعلم العقاب الحديث". وتعد هذه القواعد خلاصة النظرة الإنسانية العلمية المتطورة في مجال المعاملة العقابية، لذا فهي أهم وثيقة دولية لتنظيم السجون يعمل بموجبها في الوقت الحاضر( ). ومن هنا نجد أن المؤتمرات الدولية جميعها التي عقدت بعد ذلك أكدت على هذه القواعد وضرورة تطبيقها وإعمالها في مجال المعاملة العقابية من قبل الدول جميعها( ) . ثانياً: نظرية السجن الإصلاحي في الفكر الإسلامي ورائده الإمام علي بن أبي طالب() : هناك حقيقة واضحة لا غبار عليها وهي أن الإسلام يعد المنبع الرئيس لكل النظريات التي تهدف إلى حفظ حقوق وحريات الإنسان وصيانة كرامته بما هو إنسان وان كان مجرماً، لذلك اهتم الفقه الإسلامي بالسجن والسجين ، غير أن هذا الاهتمام لم يأت دفعة واحدة . ابتداء نلاحظ أن لفظة السجن كمؤسسة عقابية وكعقوبة قد وردت في القرآن الكريم في سورة يوسف في ثمانية مواضع، والسجن كعقوبة وان عرف في زمان الرسول الأكرم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غير انه لم يكن هناك مكان يحبس فيه الشخص المجرم، فكان الحبس يتم أما بساحة المسجد النبوي أو في الدهاليز أو في البيوت( )، ومنها بيت المضرور( )، وجدير بالذكر أن السجن لم يكن سوى عقوبة من نوع التعازير وليست من نوع الحدود أو القصاص أو الديات( ) . وظل عدم وجود مكان معين يحبس فيه الأشخاص – على حد قول البعض – حتى عهد الخليفة الثاني الذي يروى انه اشترى من صفوان بن أمية داراً بأربعة آلاف درهم وجعلها حبساً أي سجناً لتنفيذ العقوبات التعزيرية( ). وحينما تولى الإمام علي () الخلافة اهتم بالسجن أيَّما اهتمام فبنى سجناً في الكوفة من قصب وسماه (نافعاً) فنقبه اللصوص وهربوا منه، ثم بنى سجناً آخر من مدر وسماه (مخيساً)( ). وتلاحظ النزعة الإصلاحية لهذين السجنين من اسميهما – كما يذكر الأستاذ توفيق الفكيكي -، فالسجن الأول اسمه (نافع) والنفع ضد الضرر، أما الثاني فقد سماه () مخيس والتخييس يعني التذليل والتليين والمرونة، هذا من حيث الاسم، أما من حيث المعاملة العقابية فقد عمد الإمام () إلى وضع قواعد خاصة في معاملة المسجونين ترمي إلى الحفاظ على كرامة الإنسان بما هو إنسان أولاً وكونه مسلماً ثانياً. فنجد أن هناك عناية بالسجين من نواحي الجسد والروح والفكر ، فكان الإمام علي () يتابع طعامهم وشرابهم وكان يصرف لهم كسوة صيفية وأخرى شتوية وفي حال مرض احد السجناء فكان يعالج داخل المؤسسة العقابية وان لم يكن له خادم يقوم بخدمته قوَّم له واحداً، وان كان مرضه لا يرجى شفائه أو خطراً على حياته فينقل إلى بيته لعلاجه ومن ثم يصدر قراراً بإعفائه من مدة محكوميته، وكان يسمح للمسجونين بالخروج والمشي داخل المؤسسة العقابية، بل نجد أن الإمام () قد أقر للسجناء بحق الخروج لأداء صلاة الجمعة والعيدين، مع حق ذويهم وأهلهم في زيارتهم ، ثم نجد أن الإمام () قد أقر تعليم السجناء القراءة والكتابة والأحكام الدينية والعقائدية والمواظبة على ممارستها، ثم أكد على ضرورة معاملة السجناء (النزلاء) بالحسنى من قبل القائمين على إدارة المؤسسة العقابية وذلك كله يتم تحت إشرافه ورقابته المباشرين ، بل كان يوصي عماله في الأمصار الأخرى بذلك كله، هذا الفكر الإصلاحي أصبح نقطة الانطلاق فيما بعد للفكر الجنائي الإسلامي (والإنساني) عموماً في الاهتمام بالسجن والسجين( ). وعلى ذلك يمكن القول أن الإمام علي بن أبي طالب () هو أول من وضع قواعد الحد الأعلى وليس الأدنى لمعاملة المسجونين وتنظيم السجون باعتبارها مؤسسة إصلاحية تأهيلية علاجية ، ثم انتشرت بعد ذلك فكرة السجون في الدولة الإسلامية وخاصة في العهدين الأموي والعباسي غير أن الغاية منها قد ابتعدت عن الإصلاح والتأهيل والتهذيب لتتحول إلى التنكيل والانتقام من السجناء، ولم يطبق الفكر الإصلاحي للسجن إلا في عهد الخلفية عمر بن عبد العزيز، الذي أكد في كتبه إلى عماله ما جاء به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ()( ). وعليه فان الفكر الإنساني قد استفاد من تلك النظريات والممارسات التي كان رائدها صاحب الفكر الإنساني والقانوني العظيم الإمام علي بن أبي طالب () ولكن بعد مرور مئات السنين، حيث لم يتم الاهتمام بالسجون من ناحية البناء من ناحية المعاملة أي كمؤسسة إصلاحية علاجية تأهيلية بصورة فعلية إلا بعد القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين . الهوامش ( ) ينظر د. أحسن طالب : الجريمة والعقوبة والمؤسسات الإصلاحية ، بيروت، دار الطليعة للطباعة والنشر، 2002، ص172-173. ( ) د. محمود معروف عبد الله: علم العقاب ، بغداد ، بلا سنة طبع ، ص19 . ( ) د. أ حسن طالب : المصدر السابق ، ص176 . ( ) المصدر نفسه ، ص174 – 176 . ( ) د. محمود معروف عبد الله: المصدر السابق ، ص20- 21 . ( ) د. رؤف عبيد: أصول علمي الإجرام والعقاب ، ط6، القاهرة ، دار الفكر العربي ، 1985 ، ص610 . ( ) د. محمد معروف عبد الله: المصدر السابق ، ص21 . ( ) ينظر في تفاصيل هذه المؤتمرات ومقرراتها د. رمسيس بهنام : علم مكافحة الإجرام ، الإسكندرية ، منشأة المعارف، بلا سنة طبع، ص173 – وما بعدها . وللاطلاع على قواعد الحد الأدنى لمعاملة المجرمين ينظر د. سليمان عبد المنعم سليمان: أصول علم الجزاء الجنائي، الإسكندرية ، دار الجامعة الجديدة ، 2001، ص249 – وما بعدها ، د. رؤف عبيد: المصدر السابق، ص649 – وما بعدها. ( ) د. أحمد الوائلي: أحكام السجون بين الشريعة والقانون ، ط3، بيروت، دار الكتبي للمطبوعات، 1987 ، ص45 . ( ) د. احمد الحصري: السياسة الجزائية في فقه العقوبات الإسلامي المقارن، المجلد الأول، بيروت، دار الجيل، 1993، ص389. ( ) د. أحمد الوائلي: المصدر السابق، ص57- 59. ( ) د. محمد معروف عبد الله: المصدر السابق، ص23 . ( ) د. أحمد الحصري : المصدر السابق، ص390 . وقد قال الإعرابي المفسد من بني طيئ حين اصدر الإمام () أمراً بإلقاء القبض عليه وفر بعد وصول منفذي أمر الإمام () : ولمّّا أن رأيت ابني شميط تجلَّلت العصا وعلمت أني فلو انظرتهم شيئاً قليلاً شديد مجاميع الكتفين صلب بسكة طي والباب دوني رهينُ مخيس ان يثقفوني لساقوني الى شيخ بطين على الحدثان مجتمع الشؤون مخيس سجن بناه علي ، والعصا فرس لهذا الإعرابي ، أورد ذلك د. طه حسين: الفتنة الكبرى ، الجزء الثاني، علي وبنوه ، القاهرة ، دار المعارف، 1966 ، ص152 . ( ) لمزيد من التفاصيل ينظر : د. أحمد الوائلي: المصدر السابق ، ص123-125 . ( ) ينظر في كتب عمر بن عبد العزيز د. احمد الوائلي: المصدر نفسه،ص191 – 193 .
شارك الموضوع :

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية