لو استعرضنا تاريخ التطور البشري بشكل عام وتطور الفكر السياسي بشكل خاص، لرأينا بأن الفكر السياسي هو انعكاس طبيعي لظروف الحياة وواقع الدول والامبراطوريات. فالفلسفة والفكر السياسيين كانا يمثلان مرآة الحقيقة للواقع بتجلياته (السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية) الذي كان يعيشه المجتمع بشكل عام والفلاسفة والمفكرين بشكل خاص. فحالة الطبيعة المأساوية وحكم الغاب وحرب الكل ضد الكل، كانت الميزة الاساسية التي انعكست في الفكر السياسي الأوروبي لدى منظري العقد الاجتماعي (توما هوبز 1588-1679 وجون لوك 1632-1704 وجان جاك روسو 1712-1778)، على الرغم من أن تصورهم لواقع الطبيعة آنذاك مختلف من مفكر إلى آخر، وكذلك مّثل واقع الدولة الايطالية وما تعيشه من تفكك اجتماعي وعدم استقرار سياسي وتهديد إقليمي وضعف عسكري، انعكاس حقيقي على نتاجات المفكر الايطالي نيقولا ميكيافيللي وغايته من مبدأ "الغابة تبرر الوسيلة" الذي طرحه في نتاجاته الفكرية سواء في كتابه الأمير أو غيرها من الكتب التي أثرى بها الساحة السياسية والفكرية للمجتمع الأوروبي والإنساني بشكل عام، وربما هذا كان دافعا له حتى في اختيار نوع النظام السياسي الذي كان يحبذه على غيره من الأنظمة السياسية، إذ كانت نواياه السياسية واضحة في اختياره وتأييده للنظام الجمهوري على غيره من الأنظمة السياسية التي تناسب الدولة الايطالية في تلك المرحلة.
على الرغم من أن النتاجات الفلسفية والفكرية المتعلقة بفلسفة الدولة، كانت مختلفة ومتباينة بين المنظرين لها، إلا أن الهدف واحد. هذه التصورات التي انتجها الفلاسفة الأوروبيون كان لها دور كبير في صياغة الدولة القومية، فمنذ معاهدة ويستفاليا عام 1648 بدأ العقل السياسي الأوروبي يوظف تلك الطروحات من أجل بلورة مفهوم الدولة بشكل معاصر حتى وصلوا إلى ما وصلوا له اليوم. فالفكر السياسي لم يعد مقتصراً على الفلاسفة والمفكرين الأوائل (نعم)، هم ارسوا الأسس النظرية الأولى لطبيعة التفكير السياسي، واصبحوا مراجع مهمة في القاموس السياسي، إلا أن طبيعة التفكير السياسي لابد أن تواكب التطورات السياسية الحاصلة في العالم، وأن تكون قادرة على مواجهة التحديات المعاصرة؛ ولهذا ربما يكون التفكير السياسي مختلف نوعاً ما عن الفكر السياسي، وربما القصد من هذا الاختلاف أو التفرقة النظرية بين الأثنين من أجل أن نكون قادرين على عصر عقولنا لإنتاج افكار سياسية مواكبة للتحديات التي تواجه عملية بناء الدولة والمجتمع. وعلى الرغم من أن عصرنا الذي نعيشه اليوم ربما لا يرتقي في نتاجه الفلسفي والسياسي بالعصور السابقة أو لا يوجد فلاسفة ومفكرين يملؤون الساحة الفكرية كما كان في السابق، إلا أن هناك مساحة واسعة من التفكير وعدد كبير من المثقفين والأكاديميين واصحاب الاختصاص الذين يتوجب عليهم رفد الساحة العالمية بأفكار سياسية وفلسفية واقتصادية قادرة على معالجة الواقع المتردي. من خلال هذه الفرضية ربما نطرح تساؤلاً يتعلق بالساحة الفكرية العراقية المعاصر (الساحة السياسية والاجتماعية والاقتصادية). فالعراق بعد عام 2003 يعيش أسوء مراحله على صعيد عملية بناء الدولة وعدم الاستقرار الأمني والسياسي والتفكك الاجتماعي، وهذا ربما يكون منطلق سؤالنا حول الفقر الفكري في الساحة العربية بشكل عام والعراقية بشكل خاص. فلماذا ما يزال المثقف والاكاديمي العربي بعيد كل البعد عن انتاج فكر قادر على معالجة الوضع العام بكل تجلياته؟ ولماذا بقي المثقف العربي، حبيس المنهج العلمي الذي درسه، هذا من جهة ومن جهة أخرى لماذا لا يسعى الاكاديمي العراقي الخروج من دائرته العلمية ومزاحمة الفشل السياسي الذي رافق عملية بناء الدولة واخذ دوره في الساحة الفكرية والسياسية؟.
مرت الدولة العراقية خلال المرحلة الماضية بدوامة عنف وعدم استقرار وفشل كبير على كافة المستويات؛ نتيجة التخبط السياسي والفراغ الفكري الذي استغلته الاحزاب السياسية في الساحة العراقية؛ بسبب غياب التنافس الفكري وانكماش المثقف العراقي حول نفسه وعدم قدرته على مزاحمة الاحزاب السياسية والظواهر السلبية التي رافقت عملية بناء الدولة. وربما البعض يعزوا السبب إلى الخوف السياسي والأمني، إلا أن ذلك لا يمكن أن يكون مبرراً فالفلاسفة والمفكرين الأوائل زاحموا الكنيسة وسطوتها السياسية والدينية من أجل انقاذ دولهم وشعوبهم التي كانت تترنح تحت دمار الحروب الأهلية والدينية. إن التبجح والاختفاء خلف تلك المسببات، لا يمكن أن يعطينا تفسير واقعي لما يحصل بل يقذفنا إلى عالم الفشل والعقم الفكري؛ لأن مزاحمة الافكار السياسية السائدة والانتقال من مرحلة الفكر إلى مرحلة التفكير ليس بالضرورة أن تأتي بأفكار محظورة اجتماعيا أو دينيا بل يمكن أن تكون افكار مستندة إلى الخلفية الثقافية والسياسية للمجتمع وملائمة للبيئة والمزاج الشعبي. ونتيجة لهذا ربما لا يمكن لنا أن نتكلم اليوم عن فكر سياسي او نتاج سياسي عراقي معاصر، وحتى الايديولوجيات التي حكمت بها الاحزاب السياسية أو التي تحكمها هي أيدولوجيات لا يمكن أن ترتقي إلى هذه التسمية أو لا ترتقي إلى مستوى الفكر. ولهذا أيضاً، ربما يكون الخطأ السياسي الذي رافق عملية بناء الدولة العراقية لا تتحمله الاحزاب السياسية أو أحزاب السلطة فقط، بل يتحملها المثقف والاكاديمي واصحاب الشأن بشكل عام؛ لأن سياسة النأي بالنفس ستقذفنا إلى عصور الظلام، ومرحلة سيطرة "داعش" خير مثال على ذلك. إذاً فالجميع مسؤول عما حصل ويحصل، وعلى اصحاب الشأن أن يعيدوا النظر في مبادئهم وأيدولوجياتهم الفكرية سواء فيما يتعلق بالسلطة أو في أثراء الفكر السياسي العراقي والساحة العربية، لاسيما مع التدهور الحاصل في بنية الدولة القومية وما تعانيه من تحديات وعدم الاستقرار في البلدان العربية، وعلينا أن نحرك عقولنا في التفكير السياسي والاجتماعي سواء نفع السلطة وعملية بناء الدول أم لم ينفعها.