كشف مؤتمر " اعادة اعمار العراق" الذي نُظم في الكويت خلال المدة 12-15/شباط/ 2018 عن مجموعة ابعاد سياسية واقتصادية وهي دعوة غير مباشرة للسلطات العراقية للاصلاح السياسي والاقتصادي، فضلا عن التزامات تضع مسؤولية كبيرة على مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية في ضرورة ان تكون بمستوى التعهدات الدولية تجاه العراق خلال المرحلة القادمة.
- اقتصاديا، اطلق على المؤتمر قبل انعقاده " مؤتمر المانحين لاعادة اعمار العراق"، ولكن ما تحقق فعليا لم يكن مصداق لتلك التسمية مع ان المؤتمر عقد بدعم اممي (الامم المتحدة) ومؤسسات اقتصادية دولية كالبنك الدولي ودول عدة ساهمت بشكل او بآخر في التحالف الدولي لمكافحة داعش وهي على اطلاع على مديات الدمار الذي مُني به البلد خلال حربة ضد الارهاب ومدركة ايضا ان العراق حقق مصالحها في الحفاظ على نظام الدولة في الشرق الاوسط الذي تعرض لاخطر تهديد منذ تأسيسه بعد الحرب العالمية الاولى.
وتفسير ذلك، انه على الرغم من الادراك الذي اشرنا اليه في اعلاه، والنصر العسكري الذي حققه العرقيين، الا ان المجتمع الدولي لديه الكثير من الهواجس السياسية والاقتصادية بشكل رئيس حول الوضع في العراق. ويمكن ان نؤطر كل تلك الهواجس في أطار انعدام الموثوقية بمؤسسات الدولة العراقية بعد 2003 في وقت كان المجتمع الدولي (دولا ومنظمات) يراقب مراحل بناء نظام سياسي جديد من قبل العراقيين الذي لطالما حلموا بهذه الفرصة (فرصة التخلص من النظام الدكتاتوري)، ولكن القوى التي تصدت لهذه المهمة والتي قدمت اسوء نموذج لادارة الحكم في العالم بمظاهر عدة لامجال لذكرها الآن، خيبت امل المجتمع الدولي ناهيك عن انها خيب امل الشعب العراقي وضيّعت احلامه.
والمؤسف ان هذه النظرة طغت على سلوكيات الدول ومبادراتها في مساعدة العراق والتي حولتها من منح الى قروض ميسرة ، وتمويل صادراتها بما ينعكس ايجابا على اقتصادياتها. وعمليا هذا كان متوقعا لان المجتمع الدولي على اطلاع بمديات الفساد وهدر المال العام في العراق. لذا تبلّغ تلك السلوكيات الحكومة العراقية رسالة مفادها ان العراق لايعاني من شحة الاموال والايرادات بل بحاجة الى ادارة مالية مسؤولة وشفافة وتبتغي توسيع النشاط الاقتصادي عبر توجيه الانفاق ليخدم دورة الدخل لا ان يوجه الى الخارج لتمويل الاستيرادات. وبالنتجية لاحظنا مؤتمر قدم تعهدات بتقديم القروض الميسرة للعراق ولايعرف شروطها وتحتاج الى فترات من التفاوض حول تلك الشروط وقد تنجح تلك المفاوضات او تفشل.
اقتصاديا ايضا، كيف يمكن للدول المشاركة في المؤتمر او خارجة من ان تتخذ قرار بتقديم المساعدة لبلد – هو موضوع المؤتمر - يقترب من نهاية الربع الاول من السنة ولم تقر موازنته الاتحادية لاسباب سياسية ولايُعرف حجم التخصيصات الاتحادية لاعادة الاعمار واعادة الاستقرار والبنى التحتية؟ وماهي الرؤية المحلية الوطنية ومن ثم ماهي الخطط والاجراءات المقرة داخليا لتحقيق ذلك حتى يمكنها دعمها؟ فالموازنة هي اطار عام للسياسات العامة ومن خلالها تتوضح السياسات الاقتصادية.
المعروف ان البلدان التي تسعى لجذب المساعدات الخارجية لحل ازمات داخلية لاتقوى على حلها، تبدأ بمساعي واجراءات وخطط محلية من قبل الحكومة وباقي مؤسسات الدولة عبر وضع قاعدة بيانات للاحتياجات الانسانية والمجتمعية والاقتصادية والثقافية على المديات القصيرة والمتوسطة والطويلة الاجل، ووضع الخطط ومقدار الاموال اللازمة لتنفيذها، حتى تذهب للمجتمع الدولي بملفات واضحة. وبذلك تنقل رسالة واضحة بوضوح هدفها والتصميم والاصرار على اعادة الاعمار واعادة الاستقرار واعادة الاوضاع الى مرحلة ماقبل الصراع.
- امر آخر يتعلق بتبسيط الاجراءات الادارية والقانونية المعقدة الضامنه تسهيل دخول الشركات والاستثمارات الى البلاد. وبهذا الصدد تعتمد الدول آلية (النافذة الواحدة) لضمان سرعة الاجراءات القانونية والادارية. وفي العراق، وعلى الرغم من عزم الحكومة السابقة العمل على هذه الآلية، الا انه لم يتحقق منها شيء واقعيا وهو مايضفي صعوبات على الشركات الراغبة بدخول السوق العراقي. وبالتالي تلك الصعوبات هي تحديات تحرج الحكومة الحالية والقادمة. ناهيك عن الفساد والعمولات المشبوهة المستشرية في اغلب المؤسسات المسؤولة عن ملف دخول الشركات والاستثمارات الى العراق.
- سياسيا، لم يكن توقيت المؤتمر ايجابيا في المرحلة الحالية من حيث الازمات السياسية التي يعيشها العراق، ومن حيث العمر المتبقي للحكومة الحالية.
من حيث الازمات السياسية الداخلية، كثيرا ما يراقب المجتمع الدولي الاوضاع السياسية في البلدان الخارجة من الصراعات والحروب وينتظر من الحكومة ردم فجوة الخلافات الداخلية وتحقيق المصالحة الوطنية الحقيقية. وفي هذا الاطار، اشير الى بعض الملفات:
1- الخلاف القائم مع اقليم كردستان:
لازالت الخلافات بين الحكومة الاتحادية واقليم كردستان قائمة. ومع اننا نلقي المسؤولية على حكومة الاقليم في عدم تقبلها الاطار الدستوري في فرض سلطات الدولة الاتحادية على كامل اقليم الدولة سياسيا واقتصاديا وامنيا وهو خطأ الحكومات الاتحادية السابقة ايضا، الا ان المجتمع الدولي ينتظر النتيجة النهائية ويترقب حل تلك الخلافات وزوالها ليشعر بوجود سلطات ممثلة لجميع المكونات في المجتمع العراقي ليكون اكثر ثقة بتلك السلطات ومن ثم تقديم الدعم لها.
2- الاخفاق الكبير في ملفات المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية:
اول ماتعمل عليه الحكومات بعد التغيير السياسي هو ملف المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية لازالة اي احقاد واضغان اجتماعية او سياسية بين المكونات وبما يعزز ايمان تلك المكونات بالنظام الجديد بأنه يمثل مصالحها. ولكن ماحصل في العراق بعد 2003 هو ان نسبة الاخفاق في ملفات المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية كانت اكبر بكثير من نسب النجاح فيهما، الامر الذي وفر الارضية الداعمة والمنشئة لكل الخلافات الطائفية – حتى بين الطائفة الواحدة – والسياسية.
3- توقيت المؤتمر والعمر المتبقي للحكومة الحالية:
مع نهاية الدورة التشريعية الحالية وتحديد موعد الانتخابات التشريعية القادمة في شهر آيار القادم، تكون الحكومة العراقية في الاشهر الاخيرة من عمرها. وهذا الامر له انعكاسات سياسية واقتصادية بالنسبة للمجتمع الدولي.
سياسيا - وفي اطار الصرعات الاقليمية وصراعات النفوذ الدولية وماتشهده منطقة الشرق الاوسط - اذا ماسلمنا بأن الحكومة الحالية نجحت في خلق علاقات متوازنة على المستوى الرسمي مع الاضداد على المستويين الاقليمي والدولي، الا ان العديد من اطراف المجتمع الدولي لازال يخشى ان لاتكون الحكومة القادمة على ذات النهج في السياسة الخارجية، لاسيما مع وجود اركان في الدولة العراقية لها تأثيرها السياسي والامني ولها جمهورها وداخلة بقوة في الانتخابات القادمة، تميل لأيران وربما تكون صاحبة القرار في الحكومة القادمة وتزيل كل تلك العلاقات وفقا للعديد من المواد المنشورة في مراكز الابحاث العالمية.
4- الفساد:
الفساد ظاهره لها مصاديقها ومظاهرها المتنوعة في العراق وهي السبب الاكبر لما آلت أليه الاوضاع في العراق من ارهاب وازمة مالية نتج عنها مطالبة العراق المجتمع الدولي لمساعدته في اعادة الاعمار. وعلى الرغم من اعلان رئيس مجلس الورزاء حيدر العبادي مواجهة الفساد وتأكيد الاجهزة القضائية والتنفيذية على ذلك، الا ان الامر الى الآن لم يتعدى الاقوال، لابل شمل قانون العفو الذي اقره مجلس النواب العام الماضي البعض من الفاسدين. وعلى الرغم من الخشية التي يبديها المجتمع الدولي حول الفساد ومطالبته الحكومة العراقية مواجهته بحزم، ومراقبته الاجراءات، لم يتطرق السيد البعادي في خطابه خلال المؤتمر عن اية انجازات بهذا الصدد ولم يعلن عن اجراءات مستقبلية ليطمئن المشاركين بل اكتفى بذكر ان حكومته تعمل على مواجهة الفساد. ولاشك ان الدول المانحة لايمكنها ان تمول اعادة الاعمار في بلد يتسبب الفساد فيه بهدر ارقام كبيرة من الاموال. ولهذا لم تشكل المنح الا نسبة ضيئلة في التعهدات التي ابدتها بعض الدول المشاركة فيما شكلت القروض الميسرة وائتمان الصادرات النسبة الاكبر.
هذه الابعاد لابد ان يدركها صانعي السياسات والقرار في البلد سواء في الحكومة الحالية او الحكومة المقبلة لاسيما وانه اصبح امام تعهدات دولية تضفي مسؤولية كبيرة في تصحيح الاوضاع الداخلية سياسيا واقتصاديا وامنيا وتشريعيا. وبدون ذلك سيتكبد البلد قروضا اضافية بدون ان يكون لها انعكاس على ارض الواقع كما في سابقاتها.
كذلك لابد من توجيه الجهود لاعتماد آلية (النافذة الواحدة) التي تضم الجهات القطاعية المعنية بالاسثمار الاجنبي داخل العراق ومنح الاراضي. وبذلك تذليل للعقبات والحلقات الادارية التي تتسبب بالفساد والابتزاز.