تمارس اللجان التحقيقية أعمالها استنادا إلى الأحكام الواردة في(( قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم (14) لسنة 1991 المعدل))،ولكن بالنظر لعدم تطرق القانون أعلاه لكيفية اتخاذ اللجنة التحقيقية للإجراءات التحقيقية (الآلية)،إلا بشكل بسيط ومختصر(وهذا ما أكدت عليه الفقرة(ثانياً) من المادة (10) من القانون بقولها ((تتولى اللجنة التحقيقية تحريرياً مع الموظف المخالف المحال عليها ولها في سبيل أداء مهمتها سماع أقوال الموظف والشهود والاطلاع على جميع المستندات والبيانات التي ترى ضرورة الاطلاع عليها،وتحرر محضراً تثبت فيه ما اتخذته من إجراءات وما سمعته من أقوال مع توصياتها المسببة ،إما بعدم مساءلة الموظف وغلق التحقيق أو بفرض أحدى العقوبات المنصوص عليها في هذا القانون، وترفع كل ذلك إلى الجهة التي أحالت الموظف عليها)). ،والاكتفاء ببيان كيفية تشكيل اللجان التحقيقية وعضويتها،يصبح من الواجب عليها- اللجنة التحقيقية- أن ترجع إلى قوانين الإجراءات (قانون المرافعات المدنية رقم (83) لسنة 1969 المعدل)كونه المدونة العامة للإجراءات ،وهذا ما أكدت عليه المادة (1) منه،والتي نصت على ما يأتي ((يكون هذا القانون هو المرجع لكافة قوانين المرافعات والإجراءات إذا لم يكن فيها نص يتعارض معه صراحة))،وقانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1971 المعدل اللذين تناولا بالتنظيم الإجراءات التي تتخذ عند أجراء التحقيق مع أي شخص،وبالتحديد قانون أصول المحاكمات الجزائية الذي نراه الأقرب للتطبيق في أعمال اللجان التحقيقية،لاحتوائه على الإجراءات التي تتخذها السلطات المختصة في مرحلة التحقيق(كالاستماع إلى إفادة المشتكي (المجنى عليه)،أو المخبر، وإفادة المشكو منه (المتهم)،والمدعي بالحق المدني،والمسؤول مدنياً،والمعاينة والكشف على مكان الحادثة أو الواقعة (محل الفعل) وذلك عندما يقتضي الحال ذلك بحسب طبيعة الواقعة،التكليف بالحضور أو التبليغ (الاستقدام) ،الاستماع لإفادات الشهود،الاستعانة بالخبراء والمختصين،طلب الوثائق والمستندات من الجهات ذات العلاقة...الخ.
إن قيام اللجنة التحقيقية باتخاذ الإجراءات مهما كان نوعها بحق الموظف المحال عليها هو الوصول إلى قناعة بخصوص موضوع التحقيق،فاللجنة التحقيقية هي سلطة حكم أولية أو ابتدائية،لا يمكنها أن تتخذ توصيتها جزافاً،فلا يعقل أن تصدر توصية من اللجنة التحقيقية بمجرد صدور الأمر الإداري بتشكيلها مهما كانت طبيعة الموضوع وأهميته،بل يتحتم عليه اتخاذ جملة من الإجراءات لتكوين قناعتها بخصوص الموضوع، وبالشكل الذي يوفر اكبر قدر من الضمانات للموظف المحال عليها،فعمل اللجان التحقيقية من حيث طبيعته هو عمل قضائي،الأمر الذي يتطلب التزام حكم القانون،وإلا كانت الإجراءات المتخذة من قبلها غير مشروعة،وبالتالي يطالها الإلغاء من خلال الطعن بالقرار الصادر (تظلماً أو طعناً أمام الجهات التي حددها القانون).
فمتى ما اتخذت اللجنة التحقيقية الإجراءات اللازمة ،والتي تراها كافية في تكوين قناعتها، وجب عليها عند ذلك إصدار توصيتها ،فإذا اقتنعت اللجنة بأن الموظف المحال عليها قد خالف واجبات الوظيفة العامة أو أرتكب محظور من المحظورات،وفقاً لما تراه هي مخالفة أنظباطية (وظيفية،تأديبية) ،والتي لا يحكمها هنا مبدأ القانونية أو الشرعية في شقه الأول الخاص بتحديد الأفعال والامتناعات التي تعد مخالفات أنظباطية – تأديبية- (بمعنى أن الأفعال والامتناعات التي يمكن أن تشكل مخالفة أنظباطية غير محددة بأفعال معينة على سبيل الحصر،على الرغم من أيراد القانون لواجبات الموظف والمحظورات التي يجب عليه الابتعاد عنها(المواد3-4-5) من قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام،ولابد من معاقبته ،فيجب هنا أن تكون العقوبة التي توصي بها اللجنة التحقيقية متناسبة مع جسامة الفعل الذي صدر من الموظف المحال عليها وخطورته، وتأثيره على هيبة وكرامة الوظيفة العامة والثقة التي يجب أن تتصف بها،على أن تكون تلك العقوبة الموصى بها من ضمن العقوبات التي نص عليها قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام في المادة(8) بفقراتها ألثمان ((أولاً- لفت النظر.ثانياً- الإنذار.ثالثاً- قطع الراتب.رابعاً- التوبيخ.خامساً- إنقاص الراتب.سادساً- تنزيل الدرجة.سابعاً- الفصل.ثامناً- العزل.))،فهي محكومة هنا بمبدأ القانونية أو الشرعية في شقه الثاني الخاص بتحديد العقوبات على سبيل الحصر لا المثال (( لا عقوبة أنظباطية- تأديبية- إلا بنص)).
أن التوصية بفرض أحدى هذه العقوبات يجب أن يكون متناسبة مع طبيعة المخالفة المرتكبة،وهذا التناسب يقصد به التقارب بين جسامة المخالفة وخطورتها،وبين العقوبة الموصى بها،فلا يوجد تناسب على سبيل المثال بين قناعة اللجنة بارتكاب الموظف لفعل التزوير أو الاختلاس أو الرشوة، أو فعل التجاوز على الرئيس بالقول أو الفعل وبين التوصية بفرض عقوبة لفت النظر.فعدم التناسب هنا مرجعه خطورة وجسامة الفعل المرتكب وضألة العقوبة الموصى بها.
وفي الاتجاه نفسه لا يوجد تناسب متى ما كانت المخالفة بسيطة ولكن العقوبة الموصى بها (المفروضة بالمصادقة عليها) شديدة، فالتوصية بفرض عقوبة الفصل(فرض عقوبة الفصل) كنتيجة لتأخر الموظف عن الدوام لدقائق،أو عن أنجاز العمل المناط به لأول مرة على الرغم من كونه مخالفة لواجبات الوظيفة .
ولا يخل بمبدأ التناسب (الملائمة،الموائمة) بين الفعل المرتكب والعقوبة الانضباطية،توصية اللجنة التحقيقية بإحالة الموظف المخالف على المحكمة المختصة،متى ما وجدت أن الفعل المنسوب إليه يشكل جريمة نشأت عن وظيفته أو أرتكبها بصفته الرسمية ،إضافة إلى فرض العقوبة الانضباطية بحقه،لاستقلال كلا الجريمتين عن بعضهما البعض(فقد يشكل الفعل الواحد في الوقت ذاته جريمة جزائية،ومخالفة أنظباطية (جريمة تأديبية) ،الأمر الذي يستوجب معه أحالة مرتكبها على القضاء،وهو أمر وجوبي،يعرض اللجنة التحقيقية للمساءلة في حالة عدم اتخاذه،كونه يشكل مخالفة صريحة لحكم القانون الفقرة(ثالثاً) من المادة(10) من قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام ،والتوصية بفرض العقوبة الانضباطية بحقه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن عدم التقيد بمبدأ التناسب بين الفعل والعقوبة تقع مسؤوليته على عاتق اللجنة التحقيقية بالدرجة الأساس،متى ما كان مقترناً بسوء النية أو الخطأ المهني الجسيم،إضافة إلى السلطة التي تمتلك الحق في المصادقة على توصية اللجنة التحقيقية،كونها تمتلك من الصلاحيات ما يخولها تحقيق هذا التناسب أو مراعاته قدر الإمكان من خلال صلاحية عدم المصادقة الكلية أو الجزئية( النسبية)، والتعديل تخفيفاً وتشديداً وإلغاء،فنحن لا نؤيد إلقاء اللوم والمسؤولية على اللجنة التحقيقية لوحدها كون أعمالها تخضع للمصادقة الرسمية من قبل جهة الإحالة أو من سلطة أعلى منها،والتي من المفترض أن لا تتم إلا بعد التأكد من التزام اللجنة التحقيقية في أعمالها بحكم القانون،من خلال الرقابة والتدقيق على جميع ما قامت به اللجنة التحقيقية من إجراءات،وكيفية توصلها للاستنتاجات والأدلة التي استندت إليها في تكوين قناعتها،والتحقق من مدى توافر التناسب بين الإجراءات والاستنتاجات والعقوبات المفروضة من قبل جهة الإحالة أو من سلطة أعلى منها.
ونرى أن مبدأ عدم التناسب لا يقتصر على الحالة التي تفرض فيها العقوبة التي لا تتناسب مع الفعل قلة أو شدة،بل تمتد إلى حالة عدم مساءلة الموظف على الرغم من كون الفعل المنسوب إليه يشكل مخالفة تأديبية صريحة، إضافة إلى كونه يشكل جريمة جنائية،وكانت الأدلة واضحة وجلية ولكن اللجنة لم تتخذ من الإجراءات ما يكفي للوصول إلى تلك الحقيقة،أو بنت قناعتها وعلى خلاف ما توافر لديها من أدلة خلافاً للقانون،أو يشكل مخالفة تأديبية تستحق المعاقبة.
خلاصة القول إن مراعاة مبدأ التناسب بين جسامة الفعل المنسوب للموظف وخطورته،والعقوبة التي تتم التوصية بها أو تفرض عليه بعد المصادقة عليها،أمر منشود ومطلب مقصود وغاية أساس للجنة التحقيقية،التي ما تشكلت إلا من أجل إحقاق الحق والمحافظة على هيبة وكرامة الوظيفة العامة والثقة الممنوحة لها ،فالمغالاة أو التهاون في فرض العقوبة ومقدارها يشكل أخلالاً في عمل اللجان التحقيقية،وان كان بالإمكان يمكن تداركه من خلال طرق الطن المقررة قانوناً.
ولكننا نقول بما أن عمل اللجان التحقيقية ذو طبيعة قضائية مبني على القناعة القضائية والسلطة التقديرية،فلا يمكن التوجه دائماً بمساءلة اللجنة التحقيقية كونها فرضت عقوبة لا تتناسب مع جسامة الفعل وخطورته (تخفيفاً أو تشديداً)،ولكننا نرى أن هذا الأمر يتم متى ما كانت المخالفة واضحة وصريحة وتستحق الإحالة على الجهات القضائية المختصة ولم تتم الإحالة ،أو تستوجب العقوبة الانضباطية ولم تتم المعاقبة،أو تمت ولكن بعقوبة لا تتناسب مع خطورة الفعل(قلة أو شدة)،واقترن ذلك بالخطأ المهني أو الوظيفي الجسيم من قبل اللجنة التحقيقية،علماً أن هذا الأمر لا تتحمل المسؤولية اللجنة التحقيقية لوحدها ،بل تشاركها في جزء منه جهة الإحالة أو الجهة الآمرة بتشكيل اللجنة التحقيقية،لما تمتلكه من صلاحية للتطبيق مبدأ التناسب.