ان زيادة المديونية وتلبية الحاجات الاستهلاكية والترفيهية بالاعتماد على العالم الخارجي وخصوصاً البلدان المتقدمة، ستسهم أيضاً في تطوير اقتصادات هذه البلدان بشكل أكبر، على حساب تقدم اقتصادات البلدان النامية
على الرغم من حصول الاستقلال السياسي بالنسبة للبلدان النامية بعد الحرب العالمية الثانية إلا إنها لا تزال تعاني من التبعية الاقتصادية بمختلف مظاهرها وبعيدة عن الاستقلال الاقتصادي، حيث لا تزال تلجأ إلى الدول المتقدمة في تلبية احتياجاتها الاقتصادية، وحتى وإن حققت بعض النجاحات على المستوى التنموي إلا إن هذه النجاحات تكون محدودة جداً مقارنة بالموارد التي تمتلكها هذه الدول، خصوصاً الدول صاحبت الموارد الطبيعية كونها اعتمد على هذه الموارد بشكل كبير جداً.
طرفا التبعية الاقتصادية
ويمكن القول إن التبعية الاقتصادية لا يمكن أن تكون وليدة الصدفة إذ لابد من وجود عوامل ساهمت في إيجادها، تكمُن بالطرفين(المتقدمة والنامية)، فمن حيث الطرف الأول(الدول المتقدمة): بما إن الدول النامية كانت تحت السيطرة من قبل الدول المتقدمة وإن هناك ترابط وثيق بين النظام السياسي والنظام الاقتصاد، لذا لا يمكن تبرئة الدول المتقدمة من مساهمتها في إيجاد التبعية الاقتصادية، إن لم تكن العامل الرئيس، وذلك لأنها لم تسهم- على الأقل- في تقوية الإدارة الاقتصادية لهذه الدول، حتى تأخذ هذه الإدارة زمام مبادرة تقوية اقتصاداتها، بعد منحها الاستقلال السياسي.
وأما من حيث الطرف الثاني، فإن الدول النامية التي تمت السيطرة عليها من قبل الدول المتقدمة، فهي لم تعمل بالشكل الذي يضمن لها الانعتاق من التخلف والتبعية الاقتصادية للدول المتقدمة، حيث يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي " ما استعمروك إلا وجدُوك قابلاً للاستعمار" هذا ما يعني إن الدول النامية كانت بيئة سهلة للسيطرة عليها والتحكم بمواردها ووضع الإجراءات والخطط الكفيلة بجعلها تابعة للدول صاحبة السيطرة حتى بعد نيل استقلالها السياسي.
التخصص والتقسيم الدولي للعمل وجذوره
في ظل مبدأ التخصص والتقسيم الدولي للعمل تخصصت الدول النامية بإنتاج المواد الأولية وتصديرها للدول المتقدمة وبأسعار منخفضة وفي الوقت نفسه تستورد من الدول المتقدمة أغلب السلع والمنتجات وبأسعار مرتفعة، وهذا ما سيفضي إلى حصول اثار سلبية كبيرة، تقف على رأسها استنزاف مواردها الطبيعة واستمرار حالة التخلف فيها وزيادة المديونية وغيرها، حيث لم تستخدم مواردها في تقوية اقتصاداتها والنأي بها عن التبعية للدول المتقدمة.
إن هذا التخصص والتقسيم الدولي للعمل له جذور تاريخية، ترجع لفترة السيطرة والثورة الصناعية التي نتج عنها زيادة في حجم الإنتاج الصناعي بشكل يفوق القدرة الاستيعابية لأسواقها المحلية، كما تطلب ذلك منها كميات من المواد الخام بشكل يفوق قدرة ما توفره اقتصادياتها المحلية. ومن هنا بدأت الدول تبحث عن أسواق خارجية لتصريف منتجاتها هذه، وتمدها باحتياجاتها من السلع الأولية. ومن هذا المنطلق اتجهت الدول المتقدمة نحو مستعمراتها القديمة (الدول النامية) للقيام بهذا الدور الاقتصادي، وإبقائها كمصدر رخيص للمواد الأولية، وكسوق واسعة ورائجة لمنتجاتها .
وما يزيد من سوء الأمر بالنسبة لاقتصادات الدول النامية، إن حتى المواد الأولية والمنتجات الزراعية القليلة التي تنتجها وتصدرها للدول المتقدمة، أخذت أهميتها تتضاءل في التجارة والاقتصاد الدوليين بحكم التطور التقني الباحث عن البدائل المنافسة لها، فمثلاً إيجاد المطاط الصناعي والنفط والغاز الصخريين وغيرها، فالتطور التقني واستمراره ساهم في زيادة تعميق التبعية، مادام التخلف لدى الدول النامية لم تتم معالجته واقتلاعه من جذوره.
وبما أن الدول النامية تخصصت في إنتاج المواد الأولية وبعض المنتجات الزراعية القليلة وتصديرها للدول المتقدمة، وتستورد أغلب المنتوجات التي تنتجها هذه الأخيرة، فإن هذا التخصص يكشف عن مدى أحادية الاقتصادات النامية وعدم تنوعها وبالمقابل يكشف أيضاً عن مدى تنوع الاقتصادات المتقدمة، وهذا ما جعل الاقتصادات الأحادية تكون تابعة للاقتصادات المتنوعة وبالتالي فهي اقتصادات لا تمتلك الاستقلال الاقتصادي حتى وإن امتلكت الاستقلال السياسي فإن هذا الأخير يكون فارغ المحتوى.
إحكام التبعية
ولذا لا يمكن تحقيق الاستقلال الاقتصادي في ظل استمرارية أحادية الاقتصاد النامي واعتماده على البلدان المتقدمة في تمويل وتلبية احتياجاته المحلية خصوصاً الاستهلاكية والترفيهية، إذ "ان الاحتياج طليعة الاستعمار فإذا شاء الأجنبي الضغط على البلاد بقطع التجارة أو عدم إرسال قطع الغيار أو ما شابه، لأجل التحصيل على امتيازات سياسية أو اقتصادية أو ما شابه، تمكن من ذلك وقد قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: احتج إلى من شئت تكن أسيره" .
فالاعتماد على التمويل الخارجي في تلبية احتياجات الاقتصاد الأحادي (غير المتنوع) خصوصاً الاستهلاكية والترفيهية ستزيد من الآثار الاقتصادية السلبية كزيادة المديونية وفوائدها في ذمة الاقتصاد الأحادي للعالم الخارجي وخصوصاً البلدان المتقدمة لأنها دائماً ما تكون صاحب رؤوس أموال ضخمة كنتيجة لتطور اقتصاداتها. وإن استخدام ذلك التمويل الخارجي في تلبية احتياجات ذلك البلد النامي الاستهلاكية والترفيهية(الاستيرادات) من العالم الخارجي، كونه اقتصاد أحادي غير متنوع، سيسهم في استمرار التبعية للبلدان المتقدمة والابتعاد عن الاستقلال الاقتصادي.
بالإضافة إلى ذلك، ان زيادة المديونية وتلبية الحاجات الاستهلاكية والترفيهية بالاعتماد على العالم الخارجي وخصوصاً البلدان المتقدمة، ستسهم أيضاً في تطوير اقتصادات هذه البلدان بشكل أكبر، على حساب تقدم اقتصادات البلدان النامية، لان زيادة الطلب من البلدان النامية على منتجات البلدان المتقدمة سيشجع المنتجين على الاستمرار في الإنتاج والاستثمار في مختلف القطاعات الاقتصادية وهذا ما يؤدي إلى عرض منتجات جديدة أمام المستهلك في البلدان النامية فيزيد الطلب عليها مرة أخرى وهذا ما يزيد من استنزاف الموارد الوطنية واتساع الهوة بين النامية والمتقدمة، وإحكام التبعية والابتعاد عن الاستقلال الاقتصادي أيضاً.
لكن الأمر في التمويل الخارجي يكون أقل سوءً بل يكون في بعض الأحيان أفضل من التمويل المحلي، في حالة تم توظيفه بالشكل الصحيح الذي يخدم الاقتصاد الوطني ويسهم في تقليص التبعية الاقتصادية والاقتراب من الاستقلال الاقتصادي، وذلك عبر استخدامه (التمويل الخارجي) في استيراد السلع الرأسمالية التي تسهم في تطوير العملية الإنتاجية التي من خلالها تستطيع تسديد أصل التمويل وفوائده، مع تطوير القاعدة الإنتاجية للبلد النامي وتخليصه من الأحادية.
التنويع الاقتصادي يحقق الاستقلال الاقتصادي
وما دام الاقتصاد الأحادي يضع البلد في خانة التبعية الاقتصادية كونه لا يُشبع حاجاته المتنوعة ويتم إشباعها عن طريق الاستيراد من البلدان المتقدمة، فإن التنويع الاقتصادي يخرج البلد من التبعية الاقتصادية ويذهب به نحو الاستقلال الاقتصادي، كونه يستطيع إشباع حاجاته المتنوعة ولا يذهب للدول المتقدمة إلا بمقدار الضرورة أو على الأقل إنه يستطيع تحقيق تكافؤ العلاقات الاقتصادية مع البلدان المتقدمة.
ومن أجل تحقيق الاستقلال الاقتصادي من خلال اعتماد التنويع الاقتصادي كخارطة طريق لابد في بداية الأمر من تهيئة الظروف المناسبة التي تشجع بل وتسهم في سرعة إنجاز التنويع الاقتصادي، إذ لا يمكن الشروع في أي مشروع استثماري في أي نشاط في ظل غياب الظروف المناسبة التي يُعبر عنها دائماً بالبيئة الاستثمارية او المناخ الاستثماري، والتي تتضمن كل ما يشجع/ يعرقل المستثمر على/عن الاستثمار في البلد فيجعله بلد ذو بيئة جاذبة/طاردة للاستثمار، سواء كان سياسياً أو امنياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو إدارياً...إلخ.
مراحل التنويع والاستقلال الاقتصاديين
ويمكن إن تمر مرحلة الاستقلال الاقتصادي بثلاثة مراحل متوازية ومترابطة لمراحل التنويع الاقتصادي المُتمثلة في المرحلة الأولى وهي
مرحلة أحادية الاقتصاد وتبعيته، أي أن الاقتصاد لا يزال يعتمد على المورد الواحد وغير متنوع. وبالمقابل من حيث الاستقلال الاقتصادي فمادام الاقتصاد أحادي فإنه يعتمد على العالم الخارجي في تلبية احتياجاته وفي هذه المرحلة فهو في قمة التبعية الاقتصادية.
مرحلة شبه أحادية، وشبه تبعية، أي إن الاقتصاد اخذ يتقدم في تنشيط وتفعيل قطاعاته الاقتصادية ووسائل التنويع الأخرى لكنه لا يزال لم يحقق التنويع الاقتصادي التام إذ لا يزال يعتمد على المورد الأحادي بشكل كبير ولكن ليس كما في المرحلة الأولى. وفي المقابل من حيث الاستقلال الاقتصادي فمادام الاقتصاد اخذ يبتعد عن الأحادية واخذ ينوع إنتاجه ويشبع الكثير من احتياجاته التنموية الرأسمالية والاستهلاكية فإنه اخذ بنفس الوقت والقدر بالابتعاد عن التبعية والاتجاه نحو الاستقلالية للاقتصاد.
مرحلة التنويع الاقتصادي واستقلاليته، وهي المرحلة التي يبلغ فيها الاقتصاد أعلى مراتب التنويع من خلال تفعيل كل القطاعات الاقتصادية واستخدام أغلب الوسائل التي تتلاءم مع ظروفه، وتقليل الاعتماد على المورد الواحد إلى أدنى حد أو بالأحرى بشكل يساوي مساهمة القطاعات الأخرى على الأقل، وفي المقابل مرحلة الاستقلال الاقتصادي وهي مرحلة إنهاء التبعية للعالم الخارجي وذلك بفعل إشباع الحاجات المتنوعة عن طريق الاقتصاد المتنوع فتنتفي الحاجة إلى العالم الخارجي إلا بمقدار الضرورة.
التوصيات
وبناء على ما سبق، فإن العمل على تحقيق التنويع الاقتصادي يكون كفيل بتحقيق الاستقلال الاقتصادي وإنهاء حالة التبعية للبلدان المتقدمة، والتخلص من مساوئها المتمثلة في استنزاف الثروة الوطنية وزيادة المديونية وغياب العدالة الاجتماعية، واكتساب مزايا الاستقلال الاقتصادي كعدم استنزاف الثروة الوطنية وتقليص المديونية وتحقيق العدالة الاجتماعية، ومن أجل تحقيق التنويع الاقتصادي لتحقيق الاستقلال الاقتصادي لابد من العمل على
أولا: الاهتمام بالإدارة السياسية على ضوء المصالح الوطنية وجعل المسائل التنموية على رأس الأولويات التي تقوم بها، بحيث يكون الاقتصاد أولا في حساباتها، وتوظيف كل ما متاح داخلياً وخارجياً لتقويته.
ثانيا: بناء البيئة الاستثمارية التي تشجع المستثمرين على الاستثمار في مختلف الأنشطة الاقتصادية، حيث لا يمكن القيام بأي نوع من الاستثمارات في ظل غياب البيئة الاستثمارية، لان توفير البيئة المناسبة تعني غياب معوقات الاستثمار.
ثالثاً: تقليص دور الدولة في الاقتصاد لفسح المجال أمام القطاع الخاص في قيادة الاقتصاد نحو زيادة الإنتاجية وتوفير فرص العمل، في اغلب القطاعات.
رابعاً: تمارس الدولة دور الإشراف على مسيرة الاقتصاد نحو التنويع الاقتصادي وذلك من أجل تحقيق الاستقلال الاقتصادي، تارة، والتدخل تارة أخرى لمنع قيام الاحتكار وضمان المنافسة الكفوءة والعادلة.
المصادر//
- عمر بن فيحان المرزوقي، التبعية الاقتصادية في الدول العربية وعلاجها في الاقتصاد الإسلامي، ص98.
- السيد محمد الحسيني الشيرازي، الاقتصاد، المجلد الثاني، ص133.
اضافةتعليق