رغم التحسن النسبي الذي طرأ على اسعار النفط الخام مؤخرا الا ان معظم التوقعات تشير الى بقاء الاسعار منخفضة خلال السنوات القادمة بسبب ضعف مستويات الطلب على النفط الخام والناجم عن انكماش الاقتصاد العالمي والمخاطر المحدقة بالاقتصادات الصاعدة وأوروبا والصين. في حين لا تزال الاسواق النفطية تعاني من تخمة في المعروض مع اصرار دول عدة في اوبك (ايران مثلا) على زيادة الانتاج لتحقيق عوائد نفطية اكبر تعويضا لانهيار الاسعار. ويزيد انقسام البلدان النفطية واخفاقهم في الخروج باتفاق نفطي موحد يكبح اغراق الاسواق النفطية المشهد تعقيدا، حيث لم تفلح اجتماعات عدة للبلدان النفطية من داخل وخارج اوبك في تخفيض مستويات الانتاج الحالي او تحديد سقوف عملية للإنتاج المستقبلي.. من جانب اخر اظهر انتاج النفط الصخري قدرة مثيرة على التكيف مع هبوط الاسعار حيث لم تكبح اسعار النفط المتدنية منذ العام 2014 ولغاية الان من تدفق النفط غير التقليدي الى اسواق النفط العالمية رغم انخفاض معدلات انتاجه بمقدار الثلث منذ تدهور اسعار النفط في منتصف العام 2014.
وعلى الرغم من اتخاذ معظم البلدان النفطية، ومنها دول الخليج، خطوات عدة لتقليص الاثر الناجم عن هبوط اسعار النفط الخام، من نحو ضبط مستويات الانفاق العام وخفض الدعم عن الطاقة وايجاد منافذ جديدة لتمويل الموازنة والسعي الى تنويع اقتصاداتها عبر تحفيز القطاعات الاقتصادية غير النفطية الا ان كافة هذه الاجراءات لن تعوض الهبوط الحاد في مستويات الايرادات النفطية. وقد اسهمت صناديق الثروة السيادية، التي تراكمات منذ نهايات العقد الماضي نتيجة تحسن اسعار النفط، في تمويل موازنات الاقتصادات الخليجية ولطفت من حدة الانهيار في الايرادات النفطية، الا ان دراسات عدة تشير الى نفاذ اموال هذه الصناديق خلال سنوات مع استمرار اسعار النفط عند المستويات الحالية، مما يحتم على دول مجلس التعاون الخليجي الى التعايش مع سعر نفط منخفض عبر تبني سياسات اقتصادية جديدة تنزع نحو تنويع الاقتصاد وايجاد محركات جديدة للنمو الاقتصادي. فقد اثبت نموذج النمو القائم على الانفاق العام (الممول بالإيرادات النفطية) اخفاقه في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والمالي نظرا لارتباطه بتقلبات اسعار النفط ودورات الرواج والكساد العالمي على حساب متطلبات التنمية الاقتصادية.
ورغم ما تفصح عنه خطط التنمية الاقتصادية في دول الخليج كافة من جهود لتنويع الاقتصاد والحد من ارتباطه بالإيرادات النفطية، الا ان نتائج نمو القطاعات الاقتصادية غير النفطية لا تزال متواضعة. ولا يزال القطاع الخاص متخلفا وغير قادر على الانسلاخ عن نموذج النمو النفطي، حيث تتركز معظم انشطة هذا القطاع في تنفيذ مقاولات للحكومة او توفير السلع والمستلزمات للقطاع العام وترتبط معظم هذه الانشطة بالنفقات العامة والمرتبطة اساسا بأسعار النفط العالمية.
ان الخطوة الاولى باتجاه التخلي عن نموذج النمو النفطي القائم في بلدان الخليج تتمثل في جدية السياسات الاقتصادية والبدء الفوري بتنفيذها بدلا من انتظار تحسن اسعار النفط الخام. حيث ينبغي على حكومات البلدان النفطية البدء اولا بتقليص وترشيد كافة اشكال النفقات الجارية ورفع كفاء النفقات الاستثمارية لتوفير بنية تحتية جاذبة للاستثمار المحلي والاجنبي. من جانب اخر ينبغي اصلاح النظام الضريبي المعطل في البلدان النفطية لما له من دور مهم في توفير الموارد المالية وتحفيز الاستثمار والحد من اوجه الاستهلاك الترفي الذي تتميز به دول الخليج بشكل عام. على صعيد اخر، يحتم جذب الاستثمار الاجنبي اعادة النظر في البيئة التشريعية والتنظيمية القائمة وازالة كافة الكوابح القانونية والادارية المعرقلة لفرص الاستثمار المتاحة في معظم هذه البلدان. ولتمويل وتحفيز الصناعات الصغيرة والمتوسطة دورا مركزيا في توفير فرص عمل جديدة قادرة على استيعاب الاعداد المتزايدة من الايدي العاملة بدلا من الاتكال على القطاع العام المترهل في التشغيل. كما ان تحفيز وتشجيع الصناعات التصديرية يمثل منفذ اخر للإفلات من هيمنة النفط، لما توفره هذه الصناعات من تدفقات كبيرة للعملة الاجنبية تسهم في تعويض عجز الموارد النفطية وتمويل الاقتصاد وتحقيق الاستقرار المالي.
اخيرا ينبغي الاشارة الى ان جهود فك الارتباط عن القطاع النفطي في دول الخليج والتي تضمنتها معظم خطط التنمية الاقتصادية منذ عقود اخفقت في تحفيز القطاعات الاقتصادية غير النفطية ورفع نسبة مساهمتها في الناتج المحلي الاجمالي نظرا لغياب البعد الاستراتيجي من جهة وكونها عبرت عن ردود افعال تعكس تدهور اسعار النفط من جهة اخرى. ويوفر الانهيار المستمر لأسعار النفط فرصة جديدة لمعظم البلدان النفطية، والخليجية على وجه الخصوص، لإعادة رسم خارطة اقتصادية متنوعة تعيد التوازن للقطاعات الاقتصادية غير النفطية عبر اعتماد استراتيجية طويلة الامد لتنمية وتحفيز القطاعات الصناعية والزراعية والسياحية بغض النظر عن التطورات التي تشهدها اسعار النفط مستقبلا لضمان ديمومة واستمرارية نمو هذه القطاعات وفقا لمتطلبات التنمية الوطنية والاستقرار الاقتصادي الداخلي وبعيدا عن دورات الرواج والكساد التي تشهدها اسواق النفط العالمية.
اضافةتعليق