البطاقة التموينية بين متطلبات اقتصاد السوق والحاجات الاجتماعية

تعد البطاقة التموينية صمام الأمان في الحفاظ على الأمن الغذائي للاسرة والمجتمع العراقي ككل، ونجحت هذه البطاقة في توفير الحد الأدنى من ذلك الأمن سواء في عهد النظام السابق أو ما بعد سقوط ذلك النظام بالرغم من الاستخدام البشع لهذه البطاقة في الضغط على حريات العراقيين اثناء حكم النظام السابق وماتلاه من تبديد وهدر وسرقة لمواردهم، وكان الأمل أن يتم تنظيم تلك البطاقة واستثمار نظامها الجيد من أجل تحسين مستوى المعيشة للفرد العراقي من خلال تنويع مفرداتها وتحسين نوعيتها لكن الذي حصل واقعا عكس ذلك، اذ اصبحت هذه البطاقة مصدرا للافساد والفساد في المجتمع وتبديدا خطيرا لموارد الدولة العراقية في الوقت الذي يعد فيه العراق بحاجة ماسة لكل موارده المالية من اجل اعادة اعماره، ولكن للانصاف والحقيقة لابد من القول ان هذه البرنامج الذي طبق منذ اكثر من سبعة عشر عاما كان ومازال يمارس دور المسيطر على سقف الاسعار في قطاع المواد الغذائية، بالرغم من مروره بفترات تذبذب بين التحسن والتوسع وبين الرداءة والتقلص، اذ ان وجوده فقط كان يمارس العامل الضاغط على الاسعار من خلال اشاعة ظاهرة الطمانينة والاستقرار لدى اوساط شرائح المجتمع المختلفة باعتباره يمثل لهم ضمانة للمستقبل مما لايشجع على خلق حالة من التهافت والتنافس والتزاحم على كيفية الحصول على موارد الغذاء. واليوم يدور الحديث بقوة بعد التطورات والمتغيرات الاقتصادية الجديدة التي حصلت في العراق عن مدى جدوائية هذه البطاقة ام عدمها، خصوصا بعد تطبيق العراق لبنود الاتفاقية المعقودة بينه وبين صندوق النقد الدولي والمتضمنة خطة شاملة للاصلاح الاقتصادي واعادة هيكلة الاقتصاد العراقي لضمان تحول سلس وسليم نحو اقتصاد السوق، وتاتي هذه الطروحات ليس على الصعيد الحكومي حسب وانما على صعيد المؤسسات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني واوساط الشعب المختلفة، وخصوصا اولئك الفقراء الذين ينظرون الى تلك البطاقة باعتبارها الملاذ الآمن وحصنهم الاخير لمواجهة الارتفاعات المستمرة في الاسعار، ومع ان الجانبين السياسي والامني في العراق يؤكدان حقيقة توافر صانعي القرار على ارادة وتصميم عاليين من اجل تحقيق النجاح فيهما، الا ان المجال الاقتصادي لم يكن بنفس تلك الارادة والتصميم اللتان يتوافر عليهما صانعو القرار في الجوانب أنفة الذكر، حتى أمسينا جميعا نطالب بخطط وفعاليات تشمل الجانب الاقتصادي شبيهه بتلك التي تجسدت في الجانب الامني باعتبار ان الحل الاقتصادي هو مفتاح الحلول لأغلب المشاكل التي تعرقل عملية اعادة البناء والاعمار. اين يكمن الخلل؟ الحقيقة الاقتصادية التي تقول ان مرونة الطلب على المواد الغذائية لايمكن لها تتغير بسرعة الا بفعل ظروف تتعلق بتغير اعداد السكان والاذواق وتغيرات الاسعار الحادة حتى بات يطلق على هذه المرونه بانها تكاد تكون قليلة اومتدنية تجاه العديد من المتغيرات، وتفسير ذلك يعود بان الطلب على المواد الغذائية يكاد يكون ثابتا في الاجل القصير على الاقل، اذ مايتناوله الناس من غذاء لايمكن له ان يتغير استجابة لتغير السعر مثلا، وهذا بالتأكيد يعطي خصوصية متفردة لها يجعلها تختلف عما هو عليه الحال عن باقي انواع السلع. من خلال ماتقدم يمكن القول ان معرفة مايحتاجه اي شعب تصبح يسيرة اذا ماحللنا اتجاهات الطلب على المواد الغذائية وبالتالي يمكن معرفة حجم الاستهلاك المتوقع، وفي العراق تم تطبيق هذا الامر عند تطبيق برنامج البطاقة التموينية الى حد كبير، ولكن بقيت الفجوة واضحة لفترات من الزمن بين ماهو مطلوب للاستهلاك وبين ماهو مجهز للمواطنين سواء من ناحية الكمية او النوعية، وشاب هذا البرنامج الكثير من الفضائح وحالات الفساد على المستويين الدولي والمحلي وتحول من اداة داعمة للامن الغذائي في العراق الى اداة لتبديد الموارد المالية، ويمكن تشخيص أهم نقاط الخلل في هذا البرنامج بمايلي: 1. تميز العديد من الاجهزة التنفيذية العاملة بالقطاع التجاري بالضعف وسوء الادارة مع عدم توافرها على الكفاءات المتخصصة، فضلا عن حالات التلاعب والفساد التي تستشري بين العديد من صغار الموظفين والتي تتابعها وزارة التجارة وتعلن عن المحاسبة والرقابة بين الفينة والاخرى. 2. شيوع ظاهرة الاستيراد العشوائي وعدم الاهتمام بالنوعية لأسباب كثيرة كان منها معروفا ايام النظام السابق والتي تتعلق بشراء الذمم السياسية، لكن المشكلة ان هذه الظاهرة قد تكرست وبشكل واضح بعد سقوط ذلك النظام بعد ان كانت الأمنيات تتجسد بالحصول على نوعيات جيدة من المواد الغذائية، وما النوعية الرديئة للشاي والتي تجهز من خلال البطاقة والاصرار عليها الا دليلا واضحا وجليا، بحيث ان اغلب المواطنين لايتعاطون هذه النوعية ويسدون حاجتهم من الاسواق. 3. عدم وجود إطار قانوني أو جهة قانونية واضحة وجريئة تتكفل باستحصال حقوق العراق من الشركات المجهزة في حال اخلالها بالمواصفات والنوعيات المجهزة، مما اضعف موقف العراق التفاوضي مع هذه الشركات وشجع العديد منها على التلاعب بالمواصفات والكميات المجهزة في مراحل لاحقة. 4. عدم توافر العراق على اسطول نقل جيد سواء كان ذلك الاسطول بحريا ام بريا، مما جعل العراق عرضة لابتزاز الشركات الناقلة سواء منها البحرية ام البرية فضلا عن حالات التلف و تردي ظروف النقل مع تعرض المواد الغذائية للعوامل الجوية والمناخية، وقد لاحظنا من خلال الرصد اعلان وزارة التجارة سحب العديد من انواع المواد الغذائية بسبب عدم صلاحيتها للاستهلاك البشري. 5. ضعف فعالية الاجهزة الرقابية واقتصارها على وزارة التجارة فقط ، دون اشراك حقيقي للمجالس البلدية او منظمات المجتمع المدني مع ان تجربة اشراف المجالس البلدية على توزيع المنتوجات النفطية قد نجحت الى حد كبير. كيف هو الحل؟ من خلال ماتقدم يمكن وضع عدد من الخيارات المتاحة امام صانعي القرار لغرض وضع هذا البرنامج في المسار الصحيح كي لاتضيع الجهود او تتبدد الأموال: الخيار الأول: استمرار البطاقة التموينية يتضمن هذا الخيار الابقاء على برنامج البطاقة التموينية مع تحسين الاداء في تنفيذ هذا البرنامج وفقا لجموعة من الاجراءات والخطط منها : 1. توفير كوادر متخصصة مدربة وكفوءة لادارة برنامج البطاقة من ناحية التعاقد والتجهيز والرقابة، الامر الذي يدفع باتجاه الارتقاء بالاداء وتجهيز المواطنين بنوعيات ومواصفات جيدة. 2. اختزال مفردات البطاقة التموينية على المواد التالية مع تحسين نوعيتها : • الرز • السكر • الطحين • الزيت 3. إلغاء البطاقة عن اصحاب الدخول العالية من الموظفين الحكوميين ممن تتجاوز مدخولاتهم الاربعة ملايين دينار وكذلك التجار والمقاولين العاملين في القطاع الخاص. 4. اشراك الغرف التجارية والصناعية في عملية انتقاء المناشئ الاجنبية للمواد الغذائية وعمليات التعاقد والتجهيز. 5. سن قوانين رادعة تجاه المخالفين من الموظفين المسؤولين عن البرنامج وكذلك وكلاء الحصة التموينية. 6. اشراك المجالس البلدية بعملية الرقابة والاستلام والتجهيز الامر الذي يحد من حالات التلاعب بالمواد ونوعياتها. 7. تشكيل دائرة معلوماتية في كل منطقة تكون مسؤولة عن البيانات المجهزة لوزارة التجارة وتتسع هذه الدائرة لتاخذ على عاتقها الجانب المعلوماتي الخاص ببرنامج الحماية الاجتماعية. 8. اجراء استطلاع دوري لاراء الناس واتجاهاتهم حيال مفردات البطاقة التموينية ونشر نتائج هذا الاستطلاع على الراي العام ومن ثم تعديل السياسات المتبعة وفقا لتلك النتائج . الخيار الثاني: إلغاء البطاقة التموينية على مراحل ويتضمن هذا الخيار الخطوات التالية: 1. إلغاء البطاقة التموينية تدريجيا وبشكل مرحلي بحيث نبدا من مسؤولي الدولة الكبار ثم موظفي الطبقة الوسطى حتى نصل الى ادنى شريحة في المجتمع. 2. تكون مدة تنفيذ البرنامج لفترة اقصاها سنتين. 3. يتم الإلغاء الفوري لمفردات المساحيق والصابون والملح ومن ثم يتم الغاء جميع المفردات باستثناء الرز والطحين والسكر والدهن. 4. يتم إلغاء المفردات الأخرى تباعا وبفاصل زمني قدره ستة اشهر بين مفردة واخرى. 5. أن ذلك سيزيد حتما من الطلب الخارجي على المواد الغذائية , وهذا سيصطدم بانعدام مرونة أجهزة الاستيراد والنقل والتسويق التي هي ضعيفة في العراق وبالتالي سيعاني السوق العراقي من شحه في المرحلة الأولى بعد الإلغاء ومن ثم ارتفاع في الأسعار في المراحل اللاحقة والناجم عن ارتفاع كلفة النقل والمخاطرة والوقود ، ولغرض الحد من تلك التداعيات ملاحظة مايلي: • تنظيم واعداد السياسات الزراعية بما ينسجم مع الخطة المذكورة اعلاه بحيث يتم احياء القطاع الزراعي لمواجهة الطلب المتزايد على الغذاء عن طريق الانتاج الزراعي المحلي وهي فرصة مناسبة جدا لتنشيط الزراعة وتوفير فرص العمل والحد من التضخم. • اطلاق وتشجيع قيام شركات نقل عملاقة عن طريق تقديم التسهيلات الحكومية للقطاع الخاص من اجل تنشيط المبادرة فيه وتاسيس شركات النقل القادرة على القيام بمهام النقل والتسويق. • عدم احتكار استيراد المواد الغذائية من قبل عدد من التجار المتنفذين في الاسواق ومن ثم على الحكومة ان تمنح اجازات الاستيراد وعلى نطاق واسع لمن يرغب باستيراد المواد الغذائية من التجار وتقديم التسهيلات المناسبة لهم مع وضع المعايير الخاصة بالنوعية المستوردة. • سن قانون يتضمن اقرار حصة لكل مواطن عراقي من الايرادات النفطية يزداد بزيادتها وينخفض بانخفاضها وذلك لزيادة الشعور العام بان هذه الثروة هي ملك لجميع العراقيين . إجراءات داعمة للخطة ذات المراحل أولاً: برنامج شبكات الامان الاجتماعي 1- في كل دول العالم يوجد هناك مايعرف اليوم في أدبيات الأمم المتحدة بشبكات الأمان الاجتماعي، وهذا يؤكد حقيقة ضرورة اهتمام الدولة أية دولة كانت بالإنسان ، وتعد هذه الشبكات نقطة تحول في منظومة النظام الرأسمالي، فما بالك في بلد يحتاج ثلث سكانه على اقل تقدير إلى مثل هذه الشبكات للحفاظ على الحد الأدنى للمعيشة. 2- إن فشل الأداء الحكومي الخاص بتنظيم شبكات الحماية الاجتماعية، وكثرة حالات الفساد المالي فيها ، وعدم شمولها بشكل دقيق للمستحقين فعلا وحالة الفوضى في هذا المجال ، كان من المفروض أن لا يدفعنا للتفكير بإلغاء هذه الشبكات، وإنما كان من المفروض أن يدفع نحو الإصلاح وتدقيق هذه الشبكات ومعرفة الشرائح المستحقة فعلا من خلالها ، ومن هنا نرى ان خلق شبكات حماية اجتماعية قوية قائمة على العدل والمساواة مع انشاء قاعدة معلومات وبيانات متطورة لكشف اي من حالات التلاعب والفساد وشمول المستحقيين فعلا فيها امر في غاية الاهمية. 3- ان ذلك سيدعم قرار الغاء البطاقة التموينية ويسهل عملية التحول نحو السوق المفتوحة بشكل سلس من خلال التقليل من اثار التقلصات الاجتماعية التي من الممكن ان تحصل في مراحل لاحقة. ثانيا: البطالة 1- نعتقد أن هناك بطالة مقنعه موجودة في جميع دوائر الدولة الرسمية، وحيث أن الكفاءة الإنتاجية مطلوبة في تحديد الإنتاج ورفع مستوى الأداء الحكومي، فأن وجود البطالة المقنعة أمر سيربك الأداء الحكومي ويشجع حالة الكسل الإداري مع تفشي ظاهره الاعتمادية في العمل وعدم وجود الانضباط في الدوام 0 3- إن ذلك يعني أننا سنقوم بإعادة النظر في هيكلية القطاع الحكومي وموظفيه ومدى تطابق ذلك الهيكل مع الملاك الوظيفي، ومدى توفر فرص العمل اللازمة وإيجاد الحلول المناسبة وبشكل علمي دقيق حتى لا تخلق بطالة جديدة تضاف إلى ما هو موجود في سوق العمل 0 4- إن تقليص الكادر الحكومي يستدعي الاهتمام الكبير وتوفير البيئة المناسبة لعمل القطاع الخاص وتشجيع الاستثمار لغرض التحول التدريجي في هيكلية سوق العمل من القطاع الحكومي إلى القطاع الخاص، وضرورة الابتعاد عن المعالجة بالصدمة للأوضاع الاقتصادية. 5- إلزام القطاع الخاص بضوابط وقوانين من شأنها أن تشجع على تحول العاملين من القطاع الحكومي إلى القطاع الخاص وأول هذه الضوابط هي الضمان الاجتماعي والتقاعد وتوفير حياة معيشية لائقه مع ضمان حدود دنيا لأجور العمل. 6- في هذا المجال نقترح إشاعة البيئة المناسبة لذلك التحول مع تشجيع العاملين الفائضين في القطاع الحكومي على التقاعد أو منحهم الإجازات بدون راتب أو نصف راتب وإيجاد كافة السبل المناسبة للتقليل من أعباء الدول المالية. 7- العودة إلى النظم والقوانين والملاك الوظيفي لكل دائرة حكومية وتطبيق ذلك على ما هو موجود من كوادرها كي يتم استبيان الفائض منها أو النقص، ومن ثم إيجاد الحلول الصحيحة لمواجهة هذا الفائض أو النقص. 8 - تقديم دراسات جديدة لوضع اطر صحيحة للملاكات العاملة في القطاع الحكومي مع مراعاة عملية التطورفي اتجاهات سوق العمل والأداء الحكومي المطلوب. ثالثا: الخدمات 1- نرى في هذا المجال ان يتم تخفيض الدعم الحكومي لاسعار الخدمات الصحية والمجاري والمياه الصالحة للشرب والكهرباء وذلك لتقليل الضغط على الموازنة ، ومن ثم تحويل نسبة مهمة من الاموال المستحصلة الى دعم الطبقات الفقيرة وزيادة الدعم لشبكات الحماية الاجتماعية . 2- من الممكن اذا ماتم تخفيض هذا الدعم فانه بالتاكيد سيزيد من قدرة الدولة على القيام بمهام ومسؤوليات جديدة متنوعة من شانها رفع مستوى الحياة للمجتمع العراقي. ماذا سيحقق المقترح ؟ 1- يعمل المقترح على خلق فرص جديدة للعمل في قطاعات تجارة الجملة والتجزئة فضلا عن التسويق. 2- يؤدي المقترح الى زيادة الطلب على وسائط النقل والحاجة الى شركات نقل ومن ثم ايجاد في فرص عمل كثيرة في هذا القطاع. 3- يؤدي هذا المقترح الى خلق وايجاد فرص عمل في الدعاية والاعلان والترويج من خلال المنافسة بين البضائع والسلع الغذائية المستوردة والمحلية والتي تستدعي وجود شركات لهذا الغرض من شانها ان توسع دائرة التشغيل والقضاء على البطالة. 4- خلق تواصل معنوي ومادي بين الشعب والحكومة التي تقوده وتفاعله معها لشعورها انها تعمل لصالحه وبالتالي فان ذلك التفاعل سيعمل على زيادة فعالية اعادة البناء والاعمار في العراق. 5- نقترح ان تتم حملة توعية للجمهور من شانها توضيح الفوائد المتحققة لاحقا والتي تجعل من ذلك الجمهور ان يستجيب ايجابيا لهذه الخطة. 6- ان تطبيق الخطة من شانه ان يزيد من فعالية النظام المصرفي وزيادة عديد المؤسسات المالية والمصرفية وبالتالي زيادة نشاط هذا القطاع وفاعليته التي من شانها ان تساهم في زيادة نمو الاقتصاد القومي ككل وزيادة التشغيل. 7- إن هذا المقترح سيحد او يقضي على شيوع ظاهرة الفساد المالي والإداري المستشراة في قطاع التجارة منذ عدة عقود من الزمن وليس فضيحة النفط مقابل الغذاء سوى دليل واضح فضلا عن العقود التي اتت بما هو كل ردئ من المواد الغذائية بعد سقوط النظام السابق.
التعليقات