يرجع أصل مصطلح التبعية الى كلمة (توابع) التي تطلق على الدول التي كانت تحت سيطرة الدول الاستعمارية: سياسياً واقتصادياً وعسكرياً…إلخ دونما مشاركة ملموسة من قبل سكانها الوطنيين. واستمرت كلمة التبعية حتى بعد ان حصلت معظم تلك الدول على استقلالها السياسي، لماذا الاستمرار؟ وذلك لان اقتصادات تلك الدول ظلت تابعة لاقتصادات الدول المتقدمة بشكل مباشر وغير مباشر.
ويُمكن ارجاع اسباب حصول التبعية التجارية للعالم الخارجي، والتي تكون متداخلة فيما بينها بشكل كبير إلى التخصص والتقسيم الدولي للعمل، القروض الخارجية ، الاستثمارات الاجنبية ، والطاقة الانتاجية . اذ ان الدول المتقدمة تتخصص في انتاج السلعة المصنعة ذات الاسعار العالية وتصدرها للبلدان النامية في حين ان البلدان النامية تتخصص في انتاج المواد الاولية ذات الاسعار المنخفضة وتصدرها للبلدان المتقدمة بل ان هذه الاخيرة قامت وبفعل التطور التكنلوجي بتوفير البدائل لمنتجات البلدان النامية كالنفط الصخري والغاز الصخري والمطاط الصناعي وغيرها وهذا ما يعمل على تكريس حالة التبعية بشكل اكثر عمقاً .إذ ان هذه الدول ستكون بحاجة الى مزيد من القروض الخارجية لتوفير العملات الاجنبية العملات الاجنبية اللازمة لتمويل السلع المستوردة من الخارج والتي هي في الغالب استهلاكية . اغلب هذه القروض ستكون مشروطة بشروط ذاتية كالفوائد ومدة السداد وشروط تدخُلية في اقتصاد البلد المقترض ويصبح هذا الاقتصاد غير مستقل ، وفي حالة تعثر سداد قيمة القرض او خدمته فان هذا سيجعل البلد المقترض يدعو الى مبادلة قيمة القرض او خدمته ببعض الاصول الانتاجية ، اي مقايضة الديون بحقوق الملكية في المشاريع التي تملكها الدولة المقترضة ، هكذا عمل يزيد من حجم التبعية للعالم الخارجي ، إذ سيتحول المقرضين الى مستثمرين وهذا يجعل السياسات الاقتصادية والاجتماعية تخضع لمزيد من الرقابة الخارجية .
وفي ظل العولمة التي تدعو الى أمركة الارباح وعولمة الخسائر والتي تتمثل في ازالة الحواجز وحرية انتقال رأس المال ، اصبحت الدول النامية اكثر ارتباطاً بالدول المتقدمة ، اذ حجم الاستثمارات الاجنبية سيعمل على منافسة الاستثمارات المحلية وجعلها اقل قدرة على الاستمرار في العملية الانتاجية وتضمحل شيئا فشيئاً فيتم استيراد كل ما يحتاجه المجتمع وكل ما تحتاجه الاستثمارات الاجنبية من الخارج وبهذا تزداد التبعية التجارية . كما ان ضعف الطاقة الانتاجية الوطنية كنتيجة لعدم توفر الارادة والادارة السياسية الوطنية المستقلة التي ترسم الخطط الاقتصادية الآنية والمستقبلية التي تزيد من رصانة الطاقة الانتاجية ، هذا الضعف يجعل البلد اقل انتاجاً مما يحتاج من السلع والخدمات فيتم تلبيتها من العالم الخارجي وهذا ما يجعل البلد يستجيب لتلبية طلبات العالم الخارجي وحصول التبعية له .
ومن المعروف ان اغلب البلدان النامية وحتى الغنية بالموارد الطبيعية ، تُعاني من تبعية تجارية للعالم الخارجي فهي تعتمد على العالم الخارجي في تلبية ما تحتاجه من سلع وخدمات ، وهذا ما يدلل على ضعف اقتصاداتها بفعل ضعف قاعدتها الانتاجية وعدم قدرتها على منافسة السلع الاجنبية ، وهذه التبعة لها آثار سياسية و اقتصادية واجتماعية ، إذ على سبيل المثال لا الحصر ، ان تبعية واعتماد بلد ما على العالم الخارجي تجعل قراراته غير مستقلة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ، أي لابُد وان يأُخذ بعين الاعتبار مصالح العالم الخارجي الذي يعمل على تلبية ما يحتاجه ذلك البلد ، اي ان هذا البلد يُعاني من الاستعمار غير المباشر ، وأيُ أثر اكثر خطراً من هذا الأثر ؟! .
العراق احد تلك البلدان التي تعاني من تبعية تجارية للعالم الخارجي، ومن اجل تحديد تلك التبعية بشكل اكثر دقةً ووضحاً سنلجأ الى تحديد اهم المؤشرات التي توضح تلك التبعية وكما يأتي:
1- مؤشر الانكشاف التجاري:
والذي يشير الى نسبة التجارة الخارجية (الصادرات +الاستيرادات) الى الناتج المحلي الاجمالي ، وكلما كانت النتيجة كبيرة كلما دل ذلك على انكشاف وتبعية البلد المعني للعالم الخارجي والعكس يعني استقلال البلد وعدم تبعيته للعالم الخارجي . ويجب ان يؤخذ بعين الاعتبار انه لا يمكن الاعتماد على هذا المؤشر بشكل مستقل من اجل الحكم على تبعية البلد من عدمه ، لان هناك بعض البلدان يرتفع فيها هذا المؤشر وهي غير تابعة لان العالم الخارجي يعتمد عليها في تلبية احتياجاته وليس العكس . وينبغي ان لا تتجاوز نسبة هذا المؤشر 70% وهو الحد الاقصى من حجم الناتج المحلي الاجمالي .
ومن خلال اللجوء الى النشرة الاحصائية لصندوق النقد العربي الخاصة بعام 2012و2015 ، نلاحظ ان نسبة مؤشر الانكشاف التجاري شكلت اكثر 75.5% من الناتج المحلي الاجمالي كمتوسط للمدة 2004-2013 ، وهذا ما يُدلل على مدى تابعية و انكشاف الاقتصاد العراقي على العالم الخارجي وليس العكس ، إذ معروف انه يُعاني من مشاكل تراكمية كثيرة تعيق من تطور الاقتصاد وتقدمه نحو الامام ، مثل حرب الخليج الاولى والثانية، والحصار الاقتصادي في التسعينات الذي تسبب في ارتفاع التضخم بشكل كبير جداً ، وتفاقم مشكلة المديونية بسبب الحروب والحصار ، واحتلال العراق عام 2003 وزيادة حدة العنف وتدهور الوضع الامني ما بين 2005-2007 ، وحصول الازمة المالية العالمية 2008/2009 ، مع استمرار الخلافات السياسية لحد الآن …إلخ ، كل هذا ادى الى تدهور الاقتصاد العراقي ، فاصبح تابعاً للعالم الخارجي .
2- مؤشر التركيز السلعي للصادرات:
أي هل إن الاقتصاد العراقي هو اقتصاد متنوع في صادراته أم إنه اقتصاد يعتمد على تصدير سلعة واحدة فقط أو عدد قليل جداً ؟ ومن خلال اعتماد احصاءات التجارة التابعة للجهاز المركزي للإحصاء ، نلحظ ، أن الاقتصاد العراقي يُعاني من التركيز السلعي للصادرات، إذ بلغ متوسط مؤشر التركيز السلعي للصادرات أكثر من 99% من إجمالي الصادرات للمدة 2004-2013 ، وهذا ما يعني إن الاقتصاد العراقي لا يُصدر سلع زراعية أو صناعية أو غيرها إلا بنسبة لا تتجاوز 1 % من إجمالي الصادرات ، في حين تحتل صادرات الوقود المعدني المرتبة الأولى من بين الصادرات الإجمالية إذ بلغت أكثر من 99% . ومعروف، إن الوقود المعدني يتميز بالتذبذب الشديد ونتيجة اعتماد العراق عليه هذا ما سيجعل الاقتصاد العراقي اقتصاد تابع للعالم الخارجي ، إذ لا يمتلك قاعدة إنتاجية تنتج ما يحتاجه المجتمع من ناحية ، واعتماده على الوقود المعدني من ناحية أخرى الذي يتميز بالتذبذب الشديد من ناحية أخرى . وبما إن نسبة مؤشر التركيز السلعي للصادرات ينبغي أن لا تتجاوز أكثر من 70 % من إجمالي الصادرات وهو الحد الاقصى من الناتج ، في حين إن نسبة مؤشر التركيز السلعي لصادرات الوقود المعدني في العراق شكلت أكثر من 99 % ، فإن الاقتصاد العراقي هو اقتصاد تابع للعالم الخارجي .
3- مؤشر التركيز الجغرافي للصادرات:
أي هل إن العراق يُصدر ما ينتجه لدولة أو منطقة معينة أم لمجموعة دول أو مناطق ؟ وينطلق هذا المؤشر من فرضية أن الدولة كالمستثمر الخاص الذي ينوع في محفظته الاستثمارية من اجل التقليل من المخاطر فالتنويع مطلوب ليس في السلع فحسب ، وإنما الدول التي يصدر أليها ايضاً ، بحيث إذا أغلقت الأسواق المألوفة أمامها تستطيع أن تتحول بسرعة وبأقل الخسائر الممكنة الى أسواق بديلة . ومن خلال النظر الى النشرة الاحصائية لصندوق النقد العربي لعام 2012 و2015 ، نلحظ ان المتوسط للمدة 2004-2013 تشير الى إن العراق تابع تجارياً على أساس هذا المؤشر لأن نسبة المتوسط لهذا المؤشر هي (47.29 ) أكبر من المقياس المعياري الذي ينبغي ان لا تتجاوز نسبته اكثر 40 % وهي الحد الاقصى من الناتج المحلي الاجمالي ، وكانت اغلب الصادرات لدولتين هما الولايات المتحدة الامريكية والهند .
4- مؤشر الميل المتوسط للاستيراد:
تظهر التبعية التجارية بشكل واضح عندما يتم قياسها من خلال متوسط نسبة الاستيرادات الى الناتج المحلي الاجمالي وهو ما يعرف بالميل المتوسط للاستهلاك . وأهمية هذا المؤشر واضحة في انه يدلنا على مدى اعتماد الدولة على دول العالم الخارجي في استيراد احتياجاتها السلعية ، بمعنى انه يعكس تبعية الانتاج القومي للإنتاج العالمي ، حيث إنه كلما زادت نسبة هذا المؤشر دلَّ ذلك على اعتماد الدولة على العام الخارجي والعكس صحيح .
إن قيمة هذا المؤشر تختلف من سنة لأخرى ، إذ بلغت أعلى نسبة له في عام 2004 عندما كانت 39% ، في حين بلغت أدنى نسبة له في عام 2008 عندما بلغت 20.67 % ، أي إن نسبة هذا المؤشر تتراوح ما بين 39.49 %وما بين 20.67 % ، ويمكن ارجاع هذا الانخفاض الى انخفاض اسعار النفط التي تسببت بانخفاض حجم الاستيرادات ومن ثم انخفاض قيمة هذا المؤشر ، وشكلت نسبة الميل المتوسط للاستيراد الى الناتج المحلي الاجمالي 27.97% كمتوسط المدة 2004-2013 .
والخلاصة ، ان كل المؤشرات اعلاه تشير وبوضوح الى ان الاقتصاد العراقي اقتصاد تابع تجاريا للعالم الخارجي ، اذ شكلت نسبة مؤشر الانكشاف التجاري اكثر من 75.5% من الناتج المحلي الاجمالي كمتوسط للمدة 2004-2013 وهي اكبر نسبة المعيار (70%) ، وشكلت نسبة مؤشر التركيز السلعي للصادرات 99% من اجمالي الصادرات كمتوسط لنفس المدة وهي اكبر من نسبة المعيار (70%) ، كما شكلت نسبة مؤشر التركيز الجغرافي للصادرات 47.29% من اجمالي الصادرات كمتوسط لنفس المدة وهي اكبر من نسبة المعيار(40%) ، واخيراً شكلت نسبة مؤشر الميل المتوسط للاستيراد 27.97% من الناتج اي ان ثلث الناتج المحلي تقريباً يذهب للعالم الخارجي لتغطية ما يتم استيراده وهذه نسبة كبيرة .
لذا ، فالحل يكمُن في زيادة الانكشاف التجاري ولكن بشكل عكسي ، اي اعتماد العالم الخارجي على العراق وليس العكس ، من خلال العمل على زيادة تنافسية السلع العراقية ، كما ينبغي تفعيل القطاعات الصناعية التحويلية والزراعية والسياحية وغيرها وهذا ما يقلل من التركيز السلعي للصادرات ، والعمل على تحقيق التوزيع الجغرافي لصادرات العراق على اكثر من دولة لتقليل المخاطر التي يمكن ان تحصل في ظل التركيز الجغرافي للصادرات ، وان تفعيل القطاعات الانتاجية بشكل عام يقلل من الاستيرادات وهذا ما يقلل من حدة الميل المتوسط للاستيراد . ولكن يجب ان يسبق هذه الخطوات توفير مناخ استثماري ملائم بمفتاح ادارة سياسية ذات ارادة وطنية حقيقية تمتلك المرونة في التعامل مع المختصين وخصوصاَ الاقتصاديين.