منذ أن وثق العالم جيمس يونج في منتصف القرن الثامن 1850 براءة الاختراع في عالم الوقود أو الصخور الزيتية ومن ثم تطور ليشمل السوائل الهيدروكربونية ليصل لاحقاً الى تقطير الفحم القاري مرت البشرية بمراحل عديدة سعياً وراء حصولها على مصادر الطاقة، فمن باكو حيث أُنشأت أول مصفاة تجارية لتقطير الفحم عام 1837 الى بولندا وكندا والولايات المتحدة وإقليم الاهواز والكويت احداث ومحطات متسارعة غيرت معالم الكرة الأرضية وسباق نحو امتلاك هذه الثروات (1 ).
وقد شهد قطاع الطاقة حول العالم تحولات وتطورات متسارعة ساهم بها التطور الصناعي خلال القرن التاسع عشر حتى الربع الأخير من القرن العشرون وكانت هناك تحولات في نمط استخدام الطاقة مــن حــرق الكتلــة الحيويــة إلــى اســتخدام الفحــم والنفــط والغــاز الطبيعــي بوصفها المصادر الأساسية للطاقــة الأوليــة، وعلى مر السنين ومع زيادة عدد السكان وزيادة التطور التقني ودخول العالم في مرحلة الثورة الصناعية الرابعة ومن ثم الخامسة والتداخل الكبير بينهما والقائم على التقدم التكنلوجي الهائل وتطبيق التقنيات الرقمية وانترنيت الأشياء والذكاء الصناعي وغيرها، إذ تميز الثورة الصناعية الرابعة بالكفاءة والسرعة، ليتم الانتقال بعدها الى استخدام أنظمة الأتمتة والآلات والروبوتات والتفاعل بين الانسان والآلة من أجل تحقيق رغبات المجتمعات. وفي ظل كل هذه التطورات المتسارعة وفي ظل الاعتماد المتزايد على النفط كمصدر شبه وحيد تقريباً لهذا التقدم، شهد العالم خلال العقود الثلاثة الماضية تحولات جذرية وجوهرية في النظام العالمي والاقتصادي أدت الى ظهور ديناميات جديدة غيرت النظرة الى دور النفط كمصدر وحيد للطاقة في العالم، فضلاً عن ظهور تحديات أخرى انعكست على أوضاع قطاع الطاقة حول العالم، ناهيك عن التوجه نحو مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة والابتعاد التدريجي عن النفط بسبب التغيرات المناخية التي كان لانبعاثات قطاع الطاقة الدور الأبرز فيها، الامر الذي استدعى إعادة النظر بدور النفط في الاقتصاد العالمي.
من جانب آخر، شهد الاقتصاد العالمي ويشهد اضطرابات سياسية وامنية واقتصادية واجتماعية، مثل تنامي العسكرة وطموحات روسيا لإعادة تأكيد نفسها كقوة عالمية من خلال حربها مع أوكرانيا، والتحالفات الاستراتيجية التي أثرت وتؤثر في اوضاع الأمن الإقليمي والعالمي، والتحديات الاستراتيجية التي تواجه أوروبا (ولعل أبرزها الحرب الروسية الأوكرانية) إلى جانب التوترات الجيوسياسية المتزايدة التي كشفت عن ضعف أوروبا بشكل صارخ بسبب اعتمادها الشديد على الغاز الروسي، مما دفع إلى إعادة تقييم مصادر الطاقة، وتداعيات التنافس الأمريكي-الصيني واستكشاف استراتيجياتهم في الباسيفيك وقواعد المنافسة بينهما، فضلاً عن التحديات المتمثلة بالانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي وصعود اليمين، وقضايا مثل الهجرة وعدم المساواة الاجتماعية-الاقتصادية، كما تمثل التهديدات لخطوط الملاحة وحركة التجارة وسلاسل الإمداد العالمية والنزاعات في سوريا وايران وليبيا واليمن والسودان وفلسطين وتأثيراتها الجيوسياسية على أوضاع الطاقة حول العالم، الى جانب التوجه نحو مصادر الطاقة الجديدة (الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرها) والطاقة المتجددة مثل الهيدروجين الأخضر من أجل مواجهة التغير المناخي والحد من آثاره السيئة على الاقتصاد.
وفي هذا الاطار، تُشير الكثير من الدراسات الى إن الانتقال نحو مصادر الطاقة المتجددة سيعيد تشكيل العلاقات والسياسات الدولية، أذ لا تؤثر فقط على استقرار سوق الطاقة وانما أيضاً على التحالفات الجيوسياسية وديناميكيات الامن والتي يتأثر بدبلوماسية النفط( 2).
وفي خضم ذلك، يُشير المختصين في مجال الطاقة الى إن قطاع الطاقة في العالم يواجه ثلاث معضلات، وعليه بدء مجلس الطاقة العالمي ومنذ العام 2010 بنشر تقرير سنوي تحت اسم مؤشر المعضلات الثلاث للطاقة Energy Trilemma Index والتي تتمثل بأمن الطاقة والعدالة في توزيع الطاقة والاستدامة البيئية، وهو يقيس معضلة الطاقة العالمية ومؤشر التحول في مجال الطاقة وتقييم قوة البيئة المواتية للتحول في مجال الطاقة، ويهدف إلى تقييم قدرة الدولة على تصميم وتنفيذ أطر سياسية فعالة لدعم التحول المنظم والعادل والشامل.
فأمن الطاقة يعكس قدرة البلد على تلبية الطلب الحالي والمستقبلي على الطاقة بشكل موثوق وغير منقطع، والقدرة على سلامة الطاقة المتنوعة وسلامة الإنتاج ووصول المنتجات الى مستخدميها والعمل على تجنب الازمات في سوق الطاقة فضلاً عن تنويع مصادر الطاقة.
في حين يشير مؤشر عدالة الطاقة الى تقييم قدرة الدولة على توفير الوصول الشامل إلى الطاقة بأسعار معقولة ووفيرة للاستخدام المنزلي والتجاري.
أما بالنسبة للاستدامة البيئية فهو يمثل انتقال نظام الطاقة في البلد نحو التخفيف من الأضرار البيئية المحتملة وتأثيرات تغير المناخ وتجنبها.
والعراق بوصفه دولة منتجة للنفط ولاعب رئيس ومؤثر في أسواقه، فهو يمتلك خامس أكبر احتياطي في العالم، ويعيش على بحيرة من النفط لا بل بحيرات من مصادر الطاقة المتنوعة، وقد نشأ الانسان العراقي في ارض غنية بالموارد الطبيعية الناضبة والمتجددة (النفط والغاز والطاقة الشمسية...الخ)، وشكل النفط العنصر الحاسم والرئيس في تشكيل بنية العراق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.
ألا ان تجربة 100 عام من اكتشاف النفط لم تفضي الى بناء بلد قوي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً بل على العكس كانت السبب الرئيس لكثير من المشكلات حتى اضحى البلد يحتل مكانة متأخرة في سلم الترتيب في كافة المجالات والاصعدة. وفي هذا الإطار يعاني قطاع الطاقة في العراق معضلات أربعة، ففضلاً عن المعضلات الثلاث التي أقرها مجلس الطاقة العالمي يمكن إضافة معضلة رابعة تتمثل التحول نحو الطاقات الجديدة والمتجددة الصديقة للبيئة والمتمثلة بالطاقات الشمسية وطاقة الرياح والتحول نحو الهيدروجين الأخضر ومعالجة انبعاثات الغازات الناتجة من استخدام الوقود الاحفوري، فالعراق من أكثر دول العالم هشاشة في مجال التغير المناخي وتُشير تقديرات البنك الدولي الى إن العراق بحاجة الى ما يقارب 220 مليار حتى عام 2040 ليكون على المسار الصحيح في التحول نحو الطاقات المتجددة والتقليل من نسبة الانبعاثات، ويوضح المخطط الآتي المعضلات الأربعة لقطاع الطاقة في العراق.
مخطط (1) المعضلات الأربعة لقطاع الطاقة في العراق
الشكل من عمل الباحث
وبحسب التقارير دخل العراق في تقرير مؤشر معضلة الطاقة منذ عام 2015 أذ احتل المرتبة 93 من أصل 130 دولة مشاركة في المؤشر، وقد أشار التقرير الى ارتفاع البصمة البيئية للعراق بشكل كبير للغاية، إذ يتم توليد أكثر من 90٪ من الكهرباء من الوقود الأحفوري، مما يؤدي إلى ارتفاع مستويات انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، كما أن مستويات تلوث الهواء والماء مرتفعة بشكل خاص، وفي السياق، فإن جميع المؤشرات ضعيفة للغاية مما جعله يعاني من معضلة الطاقة.
جدول (1) ترتيب العراق في مؤشر معضلة الطاقة للمدة 2015- 2024
الجدول من عمل الباحث بالاستناد الى:
- World Energy Trilemma, World Energy council, اعداد مختلفة
من خلال الجدول (1) يتضح إن العراق يحتل مراتب متأخرة في التقري، كما جاء العراق في المرتبة 11 والأخيرة في سلم الترتيب للدول العربية، مما يدل على إن العراق يعاني وبشدة في كل المؤشرات الثلاث والتي تمثل معضلات كبيرة سواءً كانت تلك المتعلقة بأمن الطاقة وعدم قدرته على توفير كل المنتجات التي يحتاجها المستهلك من البنزين والكاز والغاز الذي يستخدم لتشغيل المحطات الكهربائية وهو لايزال يستورد بعض من هذه المنتجات لسد احتياجاته، أو بالنسبة لعدالة الطاقة فالبلد غير قادر على سد احتياجات الاستخدام التجاري والمنزلي، أو فيما يتعلق بالاستدامة البيئية والمتمثلة بالحفاظ على البيئة والتقليل من الانبعاثات المسببة للتغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة وزيادة نسبة التلوث، فالبلد لا يزال بعيد كل البعد عن تحقيق متطلبات الاستدامة البيئية وهو لا يزال يحتل مراتب متقدمة في مؤشر تلوث الهواء الصادر عن مؤسسة الصحة العالمية، وبحسب تقارير جودة الهواء جاء العراق بالمرتبة الثانية عالمياُ وهو ما يؤشر خطراً كبيراً على صحة الانسان أولاً وعلى الاقتصاد ثانياً، كما ويعاني البلد من شح المياه واضطرابات في هطول الامطار وتمدد اللسان الملحي بسبب الجفاف وندرة المياه وشحتها.
أما بالنسبة للمعضلة الرابعة والمتعلقة بالتحول نحو الطاقات المتجددة والجديدة فهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمعضلة الاستدامة البيئية، إذ لا يمكن تحقيق الاستدامة البيئية دون التحول نحو الطاقات المتجددة والقليلة الانبعاثات مثل الطاقة الشمسية والغاز الطبيعي وطاقة الرياح وغيرها، وفي هذا الاطار فقد سعت دول العالم الى وضع استراتيجيات متعددة ومتنوعة من أجل التحول نحو الطاقات المتجددة لتحقيق الاستدامة، وقد كشفت تقارير حديثة عن تحولات جذرية في صناعة النفط والغاز، مع تسارع الاستثمار في الطاقة النظيفة وانخفاض حصة الوقود الأحفوري في المزيج العالمي للطاقة، إذ بلغ نمو الاستثمار في الطاقة النظيفة بنحو 20% في عام 2023، وقد ضاعفت دول الشرق الأوسط والخليج العربي من جهودها لتنويع مصادر الطاقة من خلال مشاريع ضخمة للطاقة المتجددة والتكنولوجيا النظيفة.
أما بالنسبة للطاقة الجديدة والمتمثلة بالهيدروجين الأخضر والذي يمثل مصدر الطاقة المستقبلي والذي يتولد عن طريق فصله عن الماء باستخدام الطاقة الكهربائية الشمسية أو طاقة الرياح، وقد شهدت السنوات القليلة الماضية نمواً ملحوظاً في حجم الاستثمارات في مشاريع الهيدروجين الأخضر، وهناك جهود علمية حثيثة من اجل إيجاد حلول لاستخدام الهيدروجين الأخضر في مختلف المجالات، سواءً للطائرات أو السفن أو الصناعات الثقيلة كثيفة الطاقة كالحديد والاسمنت.
وفي العراق، وعلى الرغم من كل الإجراءات المتخذة للتحول نحو تنويع مصادر الطاقة والتقليل من الاعتماد على الوقود الاحفوري من أجل تحقيق الاستدامة البيئية، إلا إنها كانت خجولة وغير كافية ولازال البلد يعاني كثيراً من ظاهرة التغير المناخي، وعلى الرغم من قيام الحكومة العراقية بتوقيع وتفعيل عقود مشروع الهيدروجين الأخضر نظراً لأهميته مع مشروعين للهيدروجين الأزرق، ووضع خطة هدفها وقف حرق الغاز في الحقول النفطية، والسعي الى اتباع أفضل الممارسات المعمول بها في الصناعات النفطية العالمية، إلا انها لم تترجم على ارض الواقع ولا زالت غير مكتملة ، كما إن عملية التحول نحو مصادر الطاقة المتجددة بحاجة الى توفر الموارد المالية اللازمة لعملية التحول.
ختاماً، على القائمين على قطاع في العراق إدراك ما يأتي:
اولاً: أن الانتقال من الاعتماد على الطاقة غير المتجددة للطاقة المتجددة والجديدة هو أمر حتمي نتيجة تنامي الوعي العالمي بالمشاكل البيئية التي نجمت عن زيادة استهلاك الموارد النفطية، الأمر الذي دفع العديد من دول العالم لصياغة خطط مستقبلية من أجل الاعتماد على الطاقة المتجددة بشكل أساسي وإحلالها محل الموارد غير المتجددة.
ثانياً: إن التحولات في مجال الطاقة تستلزم تغييرات عميقة في قطاع الطاقة بأكمله تتجاوز حدود أطر الطاقة التقليدية، ونظراً للترابط المعقد بين قطاع الطاقة والقطاعات الأخرى مثل الصناعة والزراعة والبنية التحتية، فإن التحول في مجال الطاقة يمتد إلى ما هو أبعد من قطاع الطاقة، ويتطلب تحفيز التحولات الأكثر عدالة وسرعة وأبعد مدى في مجال الطاقة أن يفهم المجتمع كيف تساعد هذه التحولات في تشكيل نظام الطاقة العراقي في المستقبل.
المصادر:
1- مجلة أمن الطاقة، مركز سيف بن هلال لدراسات وابحاث علوم الطاقة، القاهرة، العدد الأول، 2023، ص11
2- حسين القمزي، استقرار أسواق الطاقة وتأثيرها على اقتصاديات دول الخليج، مجلة امن الطاقة، مركز سيف بن هلال لدراسات وابحاث علوم الطاقة، القاهرة، العدد 3، 2024، ص15.