تستضيف بغداد منذ العام الماضي، مباحثات بين إيران والسعودية؛ وذلك من أجل إنهاء القطيعة الممتدة منذ عام 2016، والتوصل إلى تفاهمات بشأن الخلافات القائمة بينهما في عدة ملفات، أبرزها الحرب في اليمن والبرنامج النووي ودور إيران الإقليمي. فلم تكن واقعة إعدام الداعية السعودي الشيعي الشيخ نمر باقر النمر والهجوم على البعثة الدبلوماسية السعودية في طهران في عام 2016، القشة التي قصمت ظهر العلاقات السعودية–الإيرانية، وإنما تاريخ الخلافات السياسية والقطيعة الدبلوماسية يعود إلى نهاية سبعينيات القرن الماضي، عندما اندلعت الثورة الإسلامية في إيران بزعامة السيد الخميني في عام 1979، إذ اعتبرت الرياض آنذاك، الثورة الإيرانية بمثابة تهديد إلى أمنها وسيادتها ولنفوذها التقليدي في المنطقة العربية والعالم الإسلامي. وعلى الرغم من الجهود السياسية التي يقوم بها العراق في الفترة الاخيرة؛ من اجل التقارب بين الرياض وطهران، التي وصلت إلى تقدم كبير "كما اشارت الخارجية الإيرانية والسعودية"، إلا أن هناك حالة من عدم الثقة تغلف كل المباحثات الهادفة إلى تقريب وجهات النظر بين الطرفين، فالسعودية لا تثق بإيران كثيراً وتدرك جيداً دور إيران الثورة وتغلغلها الإقليمي في المنطقة كلفها كثيراً سواء في العراق ولبنان أو في اليمن سوريا، ودعمها للجماعات غير الحكومية وتمكينها في أكثر من دولة عربية، فضلاً عن تخوفها الكبير من برنامجها النووي. فالسعوديين يرون إن التجارب عملتهم بأن ثورة إيران لا تعطي شيئاً إطلاقاً له فائدة فيما يعود على الدول المجاورة في الأمن والاستقرار والتعايش، وحسن الجوار ونبذ الإرهاب، وان كل المؤشرات الحالية مع الدلائل السابقة تؤكد أن إيران نزعتها نزعة عدوانية مركبة على هذا النحو حيث لا تستطيع البقاء بدون هذه الخلافات المصطنعة، والمليشيات التي اختلقتها بالمنطقة العربية، في اليمن والعراق والشام، فضلاً عن الخلايا النائمة التي لا نعلمها جميعاً، كما يصورها المحلل السياسي السعودي (عبد الله القحطاني). كذلك الحال بالنسبة للإيرانيين، فهم ينظرون إلى السعودية بأنها دولة اصولية متشددة تصدر الإرهاب والتكفير إلى المنطقة وتهدف إلى تعضيد علاقاتها السياسية والدبلوماسية مع إسرائيل والولايات المتحدة من اجل تقويض قوة إيران ودورها الإقليمي في المنطقة، ولاسيما فيما يخص برنامجها النووي، فضلاً عن تطلعات الرياض السياسية والأمنية والاقتصادية في المنطقة، التي تناهض بها طهران بشكل كبير.
وعلى الرغم من ان المباحثات الإيرانية – السعودية عقدت ما يقارب ستة جولات حتى الآن، إلا ان كل هذه المحادثات لم تكشف عن حقيقية الملفات والمحاور التي ناقشها الطرفين فيما يخص القضايا السياسية والامنية وغيرها من القضايا، سواء تلك التي تخص دور إيران الإقليمي ودعمها للجماعات الشيعية المسلحة، أو غيرها من الامور التي تتعلق بالبرامج النووي والصاروخي، او تلك التي تتعلق بمسألة الحدود وغيرها، وان كل ما تم الحديث عنه هو امكانية إعادة القنوات الدبلوماسية بين البلدين وأنهاء حالة القطيعة السياسية والدبلوماسية. وهذا ما ينذر بعدم جدية الطرفين في حل الخلافات العالقة وانهاء حالة التقاطع السياسي وتداعياته على المنطقة. بالتأكيد لدى صانع القرار السعودي رغبة كبيرة في تحجيم دور إيران في المنطقة وحل الازمة في اليمن وغيرها من الملفات، إلا أن السعودية تدرك تماما بان طهران لا تريد ان تتفاوض على هذه الملفات بجدية واضحة وإنما تريد أن تعيد فتح العلاقات الدبلوماسية معها بقصد ارسال رسائل إيجابية إلى واشنطن والغرب بشكل عام من اجل دفع مفاوضاتها مع الأوروبيين والأمريكيين إلى الأمام دون أن تتنازل عن أي شيء؛ لأن إيران تمتلك كل شيء اذا ما قورنت بالسعودية، فهي تمتلك ملف العراق واليمن ولبنان وسوريا، فضلاً عن امتلاكها للملفات الأمنية في المنطقة ومشروعها النووي والصاروخي، أما السعودية فلا تمتلك أيً من تلك الملفات، وان موقفها التفاوضي أضعف بكثير من ان تفاوض طهران، سوى حديثها عن ملفات إعادة العلاقات بين الجانبين وتخفيف حدة الصراع وانهاء الحرب في اليمن، التي تبدو فيها كفة الإيرانيين اقوى بكثير من السعوديين؛ لهذا فان الحديث عن تقارب سعودي إيران وامكانيته في حل كل القضايا الاساسية "انفة الذكر" حديث غير مقنع تماماً؛ لأن الإيرانيون لم يفكروا بعد ان يتخلوا عن اوراق الضغط السياسي التي مكنتهم من التغلغل في الشرق الاوسط، أو أن يتشاركوا في إدارتها مع الدول الاخرى، أو أن يعتزلوا العالم والتدخلات غير المشروعة في المنطقة.
مع ذلك، حتى وان افترضنا هناك جدية في التفاوض بين الطرفين في حل كل الإشكالات السياسية والأمنية وفتح صفحة جديدة من السلام في المنطقة، وان العراق اسهم أو سيسهم بشكل كبير في الوصول إلى هذه النتائج، فان ذلك لم يؤثر في حل المعضلة السياسية العراقية القائمة منذ عام 2003 وحتى الآن، ولم يؤدي إلى تعضيد الاستقرار السياسي والأمني كثيراً، ربما يسهم بقدر تعلق الامر بمصالحهما الإقليمية (طهران والرياض) إلا انه لم يؤثر أو ينعكس عليه داخلياً، فالعراق ليس قوة فاعلة في الشرق الأوسط أو في المنطقة وغير فاعل عربياً، ولعل العرب والعالم الخارجي ينظر له بمثابة الحديقة الخلفية للإيرانيين أكثر من كونه دولة يحكمها القانون والدستور بطريقة بدائية، فالعراق لا يمكنه أن يوازي إيران أو السعودية سياسياً وما يزال يفتقد إلى ابسط مقومات الدولة والقانون، فهو منقسم عمودياً وافقياً على المستوى السياسي والاجتماعي (حزبياً ومذهبياً وقومياً)؛ الأمر الذي انعكس على عملية بناء الدولة وطبيعة النظام السياسي. لذلك لا يمكن الحديث عن دور عراقي حقيقي في هذه المفاوضات، ولا يمكن ان تنعكس عليه إيجاباً؛ لان الساحة العراقية التي تستضيف المفاوضات هي جزء من الصراع أو العداء الإيراني – السعودي في المنطقة، أو جزء من المفاوضات بين الطرفين، فكيف يمكننا الحديث عن الانعكاسات السياسية والأمنية التي تعود على العراق، اذا ما تمت المفاوضات بنجاح؟ فضلاً عن ذلك، فان العراق كدولة ونظام لم يصل بعد إلى هذا المستوى، وان القوى السياسية التي تديره غير مؤهلة لهذا الدور تماماً؛ لكونها قوى غير فاعلة سياسياً على الصعيد الداخلي، فكيف تكون فاعلة على المستوى الخارجي؟ ولم تأخذ المصلحة الوطنية بنظر الاعتبار في اي ملف من الملفات الإقليمية، فهي أما تميل للجانب الإيراني وتتناغم مع مصالحه الخارجية، أو تميل إلى الجانب السعودي وتدافع عنه. لهذا لا يمكننا الحديث عن اية مفاوضات حقيقية بين الطرفين من الممكن ان تسهم في حل القضايا السياسية والأمنية في المنطقة، واذا ما تمت بالفعل، فلا يمكنها ان تنعكس إيجاباً في حل المعضلة السياسية العراقية بأي شكل من الاشكال.